مونودراما " عمود البيت" تأليف: عمار سيف
مجلة الفنون المسرحيةنص مسرحي "نسائي "
الشخصيات
امراة
في الأربعين من العمر
(ام مفوجعة بابنها الوحيد )
الستار يُفتح ببطء على إضاءة خافتة تُبرز مشهد شارعٍ شبه مهجور. في زاوية المسرح، نرى جثة شاب معلقة على عمود كهرباء، تبدو كشاهدة صامتة على مأساة لا تُنسى. الرياح تعصف بالمكان، تحمل معها أنفاسًا ثقيلة وهمسات غير مفهومةعلى فترات متباعدة، تمر خطوات متسارعة لأشخاص، يشيحون بوجوههم عن الجثة وكأن النظر إليها يثقل أرواحهم. يُمكن عرض هذه التفاصيل بصريًا من خلال تقنية “داتاشو” مما يعزز الإحساس بالعزلة والخوف
(من خلف المسرح، تدخل الأم بخطوات مثقلة بالحزن والرهبة، تضم صينية الفطور إلى صدرها كما لو كانت تحتمي بها، تتوقف فجأة وسط خشبة المسرح، تنظر نحو الجثة بحزن ووجل، تتردد للحظة، ثم تواصل التقدم ببطء نحو العمود، خطواتها تتسم بالخوف والتردد، تقف أمام الجثة وتحدق فيها طويلاً، كأنها تبحث عن حياة ما زالت كامنة فيها تهتز يدها فتسقط قطعة من الطعام على الأرض، لكنها لا تكترث، ترفع الصينية نحو الجثة، وصوتها الخافت يخترق الصمت وكأنه صلاة موجهة إلى ابنها)
الام
يمّه… لا زلت نائمًا هناك،كم مرة قلت لك إن النوم الطويل يجعل منك كسولًا (تقترب ببطء من العمود تحاول إيقاظه) يمه الشمس طلعت من زمان، وأحضرت لك فطورك المفضل. خبز حار ولبن وتمر… نفس ما تحب دائمًا (تنظر إلى التمرة في يدها تبتسم تحاول الاقتراب من الجثة المعلقة ببطء، تحمل التمرة بين يديها المرتجفتين، تحاول إدخالها في فمه المغلق، لكن التمرة تسقط منها. تجمعها بسرعة، تتحدث وكأنها تعتذر)
يمّه… عذرًا، يبدو أن يدي لم تعد قوية كما كانت، سأحاول مرة أخرى، انتظرني.
(تأخذ قطعة أخرى من التمر، تمسك فكه برفق وكأنها تحاول فتحه، ثم تضع التمرة بحذر على شفتيه. تتوقف لحظة، وكأنها تنتظر منه أن يبتلعها) يمّه…هل تذكر عندما كنت تقول إن التمر مع اللبن يجعلك قويًا مثل الأبطال؟ لقد جلبت لك اللبن أيضًا… سأنتظرك تأكله
(تمسك قطعة لبن وتقترب أكثر من الجثة، تضعها على شفتيه المتيبستين، ثم تعود وتجلس أسفل العمود. تتحدث وكأنها تخاطب طفلًا صغيرًا)
يمّه… لا تكن عنيدًا،كل قليلاً فقط حتى أطمئن أنك بخير، كنت دائمًا تأكل من يدي وتقول إن يدي هي ملجؤك… ألا تريد أن تشعر بالراحة الآن؟
(تنهض فجأة، تمسك صينية الطعام، وتقترب منه مرة أخرى هذه المرة تحاول بقوة أكبر فتح فمه، لكنها تتوقف فجأة، وكأنها أدركت استحالة ما تفعله، تنهار على الأرض وتحتضن الصينية)
يمّه… حتى الطعام يرفض أن يصل إليك، هل هذا عقاب لي أم لك، لماذا لا تأكل؟! لقد جلبت كل ما تحب… نفس الطعام الذي كنت تغمس به أصابعك الصغيرة…تتذكر.. كنت تمسك التمرة بيديك الصغيرة، تغمسها في اللبن، تقول لي يمّه التمرة تشبه الشمس ،وأنا كنت أقول لا شمسنا هي أنت (تجلس على الأرض بجانب العمود) يمّه ..ما بك اليوم كأنك غاضب مني ، انهض لا تكن عنيدًا.(تنهض الأم فجأة، وتخطو نحو العمود، تضربه بيدها كأنها تلومه) أنزل، ولدي، هذا ليس مكانًا للنوم، هذا عمود، وليس سريرك (تحضن العمود محاولة احتضان والدها ) يمّه ألا تشعر بالبرد هناك؟ تعال إلى الأرض، دعني أدفئك(تضع رأسها على العمود وكأنها تنتظر إجابة) لماذا اخترت أن تنام بعيدًا عني؟ يمّه، وليدي… ألم تعد تسمعني (نبرة حزن عميق، تتحدث بصوت متألم) يمّه… كنت عمود البيت أنت اللي نشد بيه ظهرنا، واللي نوقف بيه وسط كل الرياح. شلون صار البيت بلاك؟ شلون الغرف اللي كانت تضحك بيك صارت ظلام؟ (تنظر حولها للحظة، وكأنها تبحث عن أثره في المكان، ثم تعود للجثة بصوت مرتجف)علقوك على عمود… بس أنت كنت العمود اللي نشيل عليه حياتنا. يا يمّه… شلون البيت يبقى واقف وعموده مكسور؟
(تجلس مرة أخرى على الأرض، تنظر إلى الصينية ) أتعلم.. حتى وأنت معلق هناك، أراك طفلًا صغيرًا،أسمع ضحكاتك أرى خطواتك الأول لكنك تبقى عنيد دائمًا… مثلما كنت صغيرًا (تضع رأسها بين يديها، تسترجع ذكريات تحاول أمنع نفسها من البكاء ) كنت تقول لي ( تقلد صوت ابنها ) يمّه يالحبيبه سأكبر وأبني لك بيتًا قريبًا للبحر، يمه .. سأضعكِ هناك، أمام البحر. سترين الأمواج تركض نحوكِ لتُقبّل قدميكِ. وسأجعل الشمس تُشرق كل صباحٍ خصيصًا لكِ (تعود لصوتها ) كنت تصرّ أن تحملني على كتفيك، وكنت أضحك، وها أنا الآن أحملك في قلبي، كل يوم ( وحزن وهي تمسح دمعوها) لكني لن أتركك سأبقى هنا… حتى وإن أخذوك مني، لن يستطيعوا أن يأخذوك من روحي(لحظة صمت ) يمه… هذا فطورك، نفس الفطور اللي تحبه، نفس اللي كنت أجهزه لك كل يوم. سأتركه هنا، مثل كل يوم… وأعرف إنك ما راح تأكله، هل مرة لا تنسى مثل كل يوم، بس يمكن أنا اللي لازم أنسى… أنسى إنك ما راح ترجع بعد يمه… وليدي ..كل يوم أقعد هنا، وأتكلم معك، وأنت ساكت؟ ساكت بس سكوتك يوجع قلبي، حتى لو ما تجاوب حتى لو بقى الفطور مكانه… أنا هنا تحتك… يمك يمه
(تتراجع الأم ببطء إلى الخلف، عيناها ثابتتان على الجثة، ثم تقف في منتصف المسرح، ترفع رأسها للسماء) يا الله… هل كنت ترى؟ هل رأيت ما فعلوه بولدي؟ كيف سمحت لهذا الظلم أن يحدث؟ أعطني القوة، يا الله، فأنا لا أملك غيرك (تسكت لحظة، ثم تقف أمام الجثة لحظة طويلة، تنظر إليها بحزن عميق، وكأنها تود أن تجد جوابًا في عيونها) كل زاوية في البيت تعرف صوتك، كنت واقف مثل الجبل، الكل يتكئ عليك، وإحنا كنا مطمئنين.(ترفع رأسها وتنظر إلى الجثة، تمسح دموعها بيد مرتجفة) وهسه… شلون أعيش وعمود البيت راح؟ شلون الجدران ما تنهار واحنا فقدنا اللي يشيلها (تضع يدها على العمود، تهمس بحزن عميق) حتى هذا العمود أضعف منك… شوفه ما قدر يشيلك. بس إحنا؟ إحنا نحملك بقلوبنا… ما ننسى… لينهاية.( لحظة صمت، ثم تنظر إلى الجثة بإصرار وتهمس) سأعود يا ولدي… لن أتأخر.
(تلتفت الأم نحو البيت بخطوات ثقيلة، وكأنها تحمل عبء العالم على كتفيها. يعلو صوت الرياح، الباب يُصدر صريرًا طويلًا عند فتحه، كأنه إنذار خفي. تختفي الأم داخل البيت، ليحل صمت مشحون يُقطعه صوت وارتطام خفيف، وكأنها تبحث عن شيء في عجلة. فجأة، يتحطم زجاج، فتصرخ بنبرة تحمل ندمًا دفينًا ، الأم من الداخل البيت )
الأم
آه.. تبًا لهذا الظلام، حتى هذا المكان لم يعد كما كان ، لما تركني وحدي
(تظهر الأم على خشبة المسرح، تحمل حقيبة قديمة. خطواتها بطيئة مثقلة بالحزن. صوت الرياح يخف تدريجيًا، وكأن الطبيعة تهدأ لتواسيها، تقف عند الباب وتنظر إلى الحقيبة طويلاً ثم الجثة)
حبيبي .. هذا كل ما تبقى منك، هذه حقيبتك… كنتَ تحملها دائمًا معك.
(تتجه الأم نحو وسط المسرح ببطء، تضع الحقيبة على الأرض برفق. تتوقف لحظة وتأخذ نفسًا عميقًا. يدها ترتجف وهي تفتح الحقيبة، يُسمع صوت خفيف كصوت تقليب صفحات تخرج كتابًا قديمًا، تحدق فيه طويلاً قبل أن تضعه جانبًا بحذر، الأم بحنان)
هذا هو كتابك المفضل… كنتَ تقرأه كل ليلة، تحلم بعالم أفضل. (تُخفض رأسها للحظة، ثم تنظر إلى الحقيبة وتخرج منها منديلًا أبيض.) وهذا منديلك… كنتَ تضعه حول رقبتك من تذهب للمدرسة (تضم المنديل إلى صدرها، تغمض عينيها وكأنها تستحضر رائحته،تتحدث بنبرة يختلط فيها الحنين بالألم.) كان كل شيء فيك مليئًا بالأحلام… كنتَ تقول لي:(تقلد صوت ابنها بحب ودفء) راح أكون طبيبًا ماهراً وراح أساعد الناس وأخفف عنهم الألم.
(الأم تعود لوصوتها) لكن وين راحت تلك الأحلام، كيف انتهت قبل أن تبدأ
(تضع المنديل فوق الكتاب وتنظر إلى الحقيبة بحزن، ثم ترفع رأسها وكأنها تخاطب ابنها مباشرة وهي ترفع حقيبة ) انظر يا ولدي… جلبتها كما هي، بكل ما تحمل من ذكريات (تمسح دموعها، تغلق الحقيبة بلطف، وتضعها تحت العمود) هل كان الحلم أكبر منك، أم أن الحياة لم تترك لك فرصة، كل شيء هنا كما تركته… أحلامك، خططك، وحتى ذكرياتك التي تحمل رائحتك، لم أسمح لأي شيء أن يضيع، لكنك أنت… أين أنت الآن
(الأم تنظر إلى الجثة، تتحدث بصوتٍ منخفض،مليء بالألم) كم مرة قلتَ لي
( تقلد صوت ابنها) يمّه، سأكبر، وسأصير أقوى ولن أسمح لأحد بالبكاء بأن يمسَّك بسوء سأكون سندك في كل شيء. ( تعود لصوتها ) كنتَ تعتقد أن قوتك ستكفي لتحمينا من هذا العالم، لكنك كنت صغيرًا يا ولدي… صغيرًا في مواجهة قسوة أكبر من أحلام
(تنظر إلى الأرض، حيث ترى خاتم والدها مرميًا على الأرض ، وكأنه سقط من يده عندما علقوه على العمود. تلتقطه ببطء، ويشعرها الصوت كأنها تسمع همسات ابنها ، بصوت ابنها ) هذا الخاتم… كان وعدي لحبيبتي. اشترينا خاتمين معًا، كل واحد منا لبس الثآني خاتمه ، اصبحنا روح واحدة، بقينا متصلين، لا نفترق أبدًا، تعرفي يمه وداعتج هي حياتي، حلمي الذي لا ينتهي، وكل أمنياتي التي كانت تتجسد في كل لحظةٍ معها، كان هذا الخاتم أكثر من مجرد معدن، كان رابطًا بيننا، وعدًا محفورًا في أعماق القلب، أن نبقى معًا، مهما مر الزمن. (تضع الخاتم برفق على صدرها، وتتنهّد بحزنٍ عميق وتعود لصوتها) كنتَ تؤمن بأن كل شيء سيدوم إلى الأبد، بني، لكن الحياة لا تظل ثابتة، والأحلام قد تتلاشى.
(بصوت ابنها، متوترًا) ما كنت أعرف، أمي كنت أعيش لها، أراها في كل شيء كأن العالم كله وقف عليها، لكن… كل شيء انكسر، أنا خذلتها… خذلتكِ. لم يكن بيدي شيء، أمي. كان هناك شيء أكبر مني، شيء أخذني بعيدًا، وجعلني أخذلكم، وجعلني أخون وعدي.
(بصوتها، بحزم) لا تقل ذلك ، الحب الذي أعطيته كان حقيقيًا، حتى لو انتهت الحكاية، ذكراك لن تنتهي (بصوت ابنها) هذا الخاتم… احمليه عنها، أمي (بصوتها، بنبرة تجمع بين القوة والألم) سأحمله ابني، سأحمله حتى لا يضيع وعدك (تلبس الخاتم بين يديها) أنتَ كنت ترى في عينيها الأمان، والهدوء، كما لو أن كل شيء في الكون كان يتوازن معها،وكيف كنتَ تحدثني عن مستقبلٍ مشترك… بيت، بحر، حياة مليئة بالأمل… وكنتَ تردد دائمًا لن يفصلنا شيء
(تتوجه الأم نحو العمود الكهربائي، تقف أمامه كما لو كانت تواجه حاجزًا لا يمكنها تخطيه، تنظر إلى الخاتم مرة أخرى ،بحزن يعصف بكلماتها)
لكن… أين هذا الوعد الآن؟ أين هو؟ هل كان كل هذا مجرد خيال، هل كان هذا الخاتم مجرد شيء عابركنتَ تحلم بأشياء عظيمة، حلمت بمستقبلٍ مع حبيبتك، ولم يكن هناك شيء في العالم قادر على تفريقكما… الآن ها هو الخاتم هنا بين يديّ، وأنتَ… أنتَ بعيد (ترفع رأسها إلى السماء، وتتكلم بصوت مليء بالمرارة والحزن) كنتُ أدعو لك دائمًا أن تحميه… أن تحرسه من كل شر، ولكن… أين كنتَ عندما احتاجك أكثر؟ لماذا تركتني أراه يذهب من بين يديّ (تتوقف للحظة، تنظر وكأنها تنتظر إجابة،ثم تكمل بصوت مختنق) هل كان يختار هو النهاية، أم أنني وحدي من أختار هذا الطريق القاسي؟
(تخفض رأسها ببطء، وكأن الحزن يثقل روحها) قالوا لي: أرسليه ليخدم وطنه ،هذا واجب علينا جميعًا.(بسخرية ) ولكن أي وطن يأكل أبناءه؟ أي وطن يزرع الموت في حدائقه ( تتأمل ) كنتُ أراه وهو يحمل حقيبته ويبتسم… كان يظن أنه ذاهب ليبني المستقبل، ولكنه لم يعرف أن المستقبل كان يُباع ويُشترى خلف الأبواب المغلقة. لم يعرف أنه كان قطعة صغيرة في لعبة أكبر منه… لعبة لا ترحم (تعود وتنظر إلى السماء، بعينين تملؤهما الحيرة والحزن) يا الله هل فقدانه كان امتحانًا لقوتي، أم أنني كنتُ ضحية وطن مغشوش
(الإضاءة تتحول تدريجيًا إلى دفء خافت، تظهر صورة الابن على الحائط او السائك الخلفي الأم تقف ببطء، تتجه نحو الصورة، وتلمسها بحذر.)
الأم
لماذا لم تُصغِ لي كلما قلت لك، ابتعد عنهم، لا تتورط معهم، كنت تبتسم وكأنك تعرف أكثر مما أعرف، كنت تريد فقط أن تعيش، أن تلعب، أن تضحك ( تتوقف، تبتسم بخفة، ثم ترفع رأسها وتنظر إلى الصورة بحزن) أنت لم تفهم… لم يكن من المفترض أن تكون في هذا المكان. لكنك كنت تريد الحياة، مثل كل الشباب. حتى عندما كانت الدنيا مظلمة، كنت ترى النور في كل زاوية (تتجه نحو الجثة، تضع يدها على العمود، تغلق عينيها) لكنهم سرقوا منك الأمل… سرقوا منك الحياة،أنت لم تكن جزءًا من معركتهم، ولم يكن يجب أن تُسحب إلى هذا الجحيم (تفتح عينيها، تصرخ) كان يجب أن يوقفوا هذا الجحيم
(تتحرك الأم فجأة نحو الجثة، وكأنها تطارد ذكرى تفر منها. تمد يدها إلى العمود، تضغط عليه بعنف، تتحدث بصوت يزداد غضبًا.)
الأم
أنت صامت هكذا… تمامًا كالعالم من حولنا، لمَ لا تتحدث، قُل شيئًا، كل شيء كان يضج بالحياة من قبل صوت خطواتك في البيت، ضحكتك التي كانت تملأ الغرف، حتى شجارك معي على أشياء تافهة، كان له طعم اخر (تتجه مرة أخرى نحوالعمود، تضربه بيدها وكأنها تنتقم منه) أخبرني.. لماذا تركتني وحدي، هل كنتَ تظن أني قوية بما يكفي لتحمل هذا (تسقط على ركبتيها، تنظر إلى الأعلى تخاطب السماء)
يا الله… لقد حاولت أن أحميه أقسم أني حاولت .. لكنني فشلت… فشلت في كل شيء.
ما هذا؟ (تصمت، تقترب ببطء من العمود، تنظر حولها بحذر.) هذه الرياح… ليست مجرد رياح،إنها تقول شيئًا (تضع يدها على أذنها) كأنها تحمل صوتًا بعيدًا… صوتك يمّه، أم أنني متوهة؟ (تضع يدها على رأسها، تتراجع خطوة وكأنها تهرب من الصوت) لا… هذا ليس حقيقيًا… ليس صوتك نعم ليس صوتك ( تحاول ان تسمع ) لا لا ليس صوتك لكن… لماذا يشبهك؟ يشبه كلماتك حين كنت تحاول أن تفهم هذا العالم القاسي… العالم الذي خذلك (تقترب ببطء من العمود، تضع يدها عليه، تتحدث وكأنها تبحث عن إجابة)
هل تركت شيئًا هنا في الريح؟ هل خبأت ألمك فيها كي تخبرني به الآن؟
(تصمت للحظة،تتحرك بعشوائية وكأنها تخاطب الرياح) إذا كنت تحملين صوته… قولي له أنني ما زلت هنا،قولي له أنني لن أغادر، حتى لو بقيت الرياح تهزّ هذا العمود ألف عام (ترفع يدها نحو السماء، تصرخ بصوت مكسور) أين العدالة أينك يا الله حين تُسلب الأرواح هكذا
(الإضاءة تصبح أكثر قتامة، الرياح تخفت تدريجيًا. الأم تنظر إلى الجثة طويلاً، ثم تهمس بهدوء.) لن أتركك، سأبقى هنا، حتى لو لم يسمعني أحد.
(تجلس أمام الجثة، تتحدث وكأنها تسترجع الأصوات التي سلبتها الحياة)
يمّه… أتذكر عندما أخذوك؟ قالوا لي: ابنك خطر.
(تتوقف لحظة، تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تقلد صوتًا سلطويًا مليئًا بالقسوة) من يتحدث عن الحرية سيموت،ومن ينطق بكلمة ضد قوانيننا سيُحاسب،الأفكار الضالة يجب أن تُحرق. من يجرؤ على تحدي الخلافة، مصيره الموت ،لا مكان هنا للمُفكرين، لا مكان هنا للحالمين كل من يرفع رأسه ضدنا سيكون عبرة لمن بعده (تعود إلى صوتها الطبيعي)
لكن حريتك لم تكن خنجرًا… كانت كلمة، كانت حلمًا، كيف يخافون من كلمة، يا ولدي؟
(تنهض ببطء، تتقدم خطوة نحو الجثة، تتحدث بصوت قائد إرهابي، بلهجة حادة وتهديدية) علقوه ليكون عبرة لكل من يعارضنا، سنسحقه من يرفع صوته ضد الخلافة، سيكون عبرة لمن بعده، لا مكان هنا للضعفاء، ولا مكان هنا للحالمين. من يعتقد أنه يستطيع العيش بحرية، سيُحاسب، ويُعلق ليشاهد الجميع كيف تُعامل الخيانة
(تعود لصوتها الطبيعي) علقتموه لأنكم تخافون من كلماته، من فكرة أن يعيش الإنسان حُرًا، خافوا من حلمه، من رؤيته لعالم لا يقيده جدار، ولا يكسره سكين. خافوا من فكرته البسيطة، التي تجعل الإنسان أسمى من الطغاة، لأنكم تعلمون أن الحرية لا تُقهر، وأن الكلمة التي تُغرس في القلوب لا تموت، حتى لو قطعتم الألسنة
(تنظر لابنها ) الحرية يا ولدي… هذا ما أردته انت ، لكنهم جعلوا الكلمة جريمة، والحلم تهمة
(تصمت للحظة، وتكمل ) يمّه… كنتَ تقول لي دائمًا إن الحلم هو ما يجعلنا بشرًا.
لكني لم أعرف أن الحلم قد يجعل من يحمله شهيدًا،هل صرخوا في وجهك عندما ربطوك، هل حاولت أن تشرح لهم حلم هو حلم جميع الشباب ، أم أنك واجهتهم بصمتك، لانك تعلم جهلهم (تخفض رأسها، تضع يدها على صدرها) أعلم أنك لم تخف، لكنني خفت عنك… خفت أن يأخذوا منك كل شيء (تنهض ببطء، تخاطب الجثة بنبرة أقوى) لكنك لم تكن وحيدًا هنا، تحت هذا العمود، سأبقى أنا… وسأحكي قصتك، قصتك التي لم يحمل فيها يدك سلاحًا… بل كلمة… وأحلام (تقلد صوت ابنها) يمّه لا تخافي. سأعود سريعًا.
(تضحك بخفة، لكن الحزن يغمرها) لكنك لم تعد.
(تتوقف، ثم تتحول نظرتها فجأة إلى حالة من الحيرة العميقة، وتقترب أكثر من الجثة. تصمت للحظة طويلة، ثم تهمس لنفسها.)
ألم يكن هذا ما أردته؟ ألم يكن هذا حلمك؟ أن تترك خلفك أثرًا، أن تجعل الناس يتذكرون أن هناك من نطق بالكلمة؟ (تبتسم ابتسامة غريبة، ثم تلتفت إلى الجمهور بنظرة حادة، يتخللها جنون.)ولكن ربما… ربما أنا من أضاع الحلم (الأم تنظر إلى الجثة طويلاً، ثم تتراجع خطوة إلى الخلف. يداها ترتجفان، تأخذ نفسًا عميقًا وكأنها تستجمع شجاعتها، ثم فجأة تتجه نحو العمود بقوة، تضربه بيديها كأنها تريد زعزعته، كأنها تريد تحريره منه ، بصوت متصاعد، غاضبًا، منكسرًا في آن واحد)لا! لا أريد أن أبقى هنا بعد الآن! ماذا أفعل تحت هذا العمود؟! ماذا أفعل أمام جثة صارت ظلاً، وأنا مجرد ظل آخر؟!(تتوقف لحظة، تنظر إلى ابنها وكأنها تراه للمرة الأولى. صوتها يصبح أهدأ، لكنه أكثر حدة، أكثر وضوحًا ،بهمس يزداد حدة) لقد تركتُ كل شيء لك… روحي، صلاتي، عمري… لكنني نسيت نفسي… نسيت أن الحياة لا تنتظر الحزانى، ولا تنحني للثكالى هل كان يجب أن أموت معك ،هل هذا ما تريد ،أن أبقى هنا في الظل، في البرد، أحتضن الفراغ
(تتنفس بصعوبة، عيناها تبحثان في الفراغ عن إجابة، ثم فجأة تضحك، ضحكة قصيرة، متكسرة، وكأنها أدركت شيئًا للمرة الأولى،بابتسامة حزينة، بعينين مليئتين بالحقيقة)
لا… أنا من علّقت نفسي هنا، أنا من صرتُ جثة أخرى تحت قدميك…(تمسح دموعها بقوة، تنظر للجثة نظرة وداع أخيرة، لكن هذه المرة ليست نظرة استسلام بل إدراك )
كيف سمحتُ لنفسي أن أخاف؟ كيف تركتُهم يسلبون مني حلمي؟(تسكت لحظة، يملأ الصمت المكان، ثم تصرخ فجأة، عيونها تنفتح وتنفجر بالكلمات) إذا كانت هذه إرادتك، يا الله… فلتكن هي عقوبتي… (تحدق في السماء بعينين مليئتين باليأس) لكنني سأظل أؤمن بك، حتى لو ضاع كل شيء!
(تتلاشى الإضاءة تدريجيًا، ليظهر خيال الظل للابن من خلف الكالوس معلقًا على عمود كهرباء في أقصى المسرح. تظل الأم ثابتة في مكانها، بينما تتضاءل الإضاءة تدريجيًا حتى تختفي بالكامل. في الوقت نفسه، تتحرك الأم باتجاه خيال الظل، وترافقها بقعة ضوء تضيء طريقها، حتى يغمر الظلام المسرح كليًا، ما عدا خيال الظل للابن. نراها تجلس تحت هذا الظل، وبعد لحظة قصيرة، يبدأ ضوء الخيال في التلاشي، وفي ذات الوقت، تُسدل ستائر المسرح)
ستار
لا يحق تقديم هذه المسرحية بدون علم المؤلف
ammarsaefsh71@gmail.com
الفيس : عمار سيف
العراق – الناصرية
1/2/2025
0 التعليقات:
إرسال تعليق