أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الاثنين، 10 فبراير 2025

علالو وجذور المسرح الجزائري

مجلة الفنون المسرحية




علالو وجذور المسرح الجزائري

بقلم: رشيد بن شنب

ترجمة: سمية زباش


          ظهر المسرح بالمعنى الأوروبي للمصطلح، في الجزائر، في نهاية الحرب العالمية الأولى. وأفاد، منذ البداية، من الوطنية الثقافية لبلدٍ مصمّمٍ أكثر فأكثر على التحرّر من الهيمنة الفرنسية في جميع المجالات. وكسب قضيته بالفعل، بمجرد أن باشر مؤسّسوه بالعودة إلى المصادر الحيّة للتقاليد العربية الاسلامية. وقد هيمنت ثلاثة أسماء: علالو، والقسنطيني، وباشتارزي. وبمواهب متباينة جدا، اشتهر ثلاثتهم في الكوميديا وفي الأغنية، وبذلك ألقوا في المسرح بتيار الشعر الشعبي الذي تتلاءم إيقاعاته خصوصا مع الموسيقى والرقص. وجسّدوا في هذا الصدد، كما في العديد من المجالات الأخرى، روح عصرهم وذوقه. ويعدّ (علالو)، المؤلف، ومدير الفرقة، والمخرج المسرحي، والمغني (القوال)، باعث نوع جديد، عرف انطلاقة جيدة منذ عام 1926.

          ولد (علالو)، واسمه الحقيقي علي سلالي، في الجزائر العاصمة عام 1902، في قلب القصبة، الآهلة بالسكان، والنابضة بالحياة، حيث كان والده يدير متجرا. عَرف اليُتم في سنّ الثالثة عشرة، مما اضطرّه إلى مغادرة مقاعد الدراسة ليصبح موظفا في إحدى الصيدليات. وكان يستمتع في أوقات فراغه بتنمية صوته، وتعلّم الموسيقى العربية الكلاسيكية. وما كاد يبلغ العشرين من عمره حتى راح يشارك في الحفلات العامة، التي كانت تسهر على تنظيمها جمعية موسيقية تدعى (المطربية)، في أثناء سهرات رمضان. وفي دور السينما بالحي، لاسيما حي باب الواد، كان يجسّد الجندي الجزائري، ويروي بالتفصيل مصائبه في مقاطع غنائية خفيفة ومضحكة. وقد أظهر (علالو) نفسه كممثل إيمائي ممتاز، تثير تعابير وجهه وجولان عينيه الضحك. فهو يتصوّر الشعر مسبقا على أنه تدفّق دائم لكلمات الروح. ومن المؤكد أنه ليس عدوا لعاطفية معينة، لكنه يبرع خاصة في السخرية مما يعتبر عموما جديرا بالاحترام. ويعرف أيضا كيف يستمد من اللغة المحكية لمدينة الجزائر، شعرا جيدا. كما أن الدعابة المرحة التي يتمتّع بها، والتي تكون أحيانا لاذعة شيئا ما، لها دائما صدى إنساني. فالفنان يحافظ على بساطته كفرد من الشعب.

          وفي ذات الوقت، يتدرّب، بمعية اثنين من رفاقه، على تخيّل وتمثيل بعض الهزليات على شكل هزليات (farces) ذات حبكة، هي بالأحرى بدائية تُقدِّم على المسرح مواقف عائلية. ولأنه غنيّ بتجربته المسرحية، مع العلم أنه يمتلك الحسّ الفطري للفرجة، وواثق من قدراته، فقد أفلت من المجال المغلق للواقعية الكوميدية، ليستسلم لنوع من الواقعية الرومانسية، علاقاتها بالمسرح الفرنسي بديهية. وهكذا ألّف، فضلا عن الكوميديات الساتيرية، كوميديات باليه، وكوميديات رومانتيكية، لقيت نجاحا باهرا عند عرضها في الجزائر العاصمة، وفي المنطقة بأسرها، من عام 1926 إلى 1931. غير أن جمعيته، فرقة زاهية، التي لم تكن تتلقّى أية إعانة مالية، رسمية أو خاصة، ساءت أعمالها، وسرعان ما ألفى (علالو) نفسه في مواجهة مصاعب مالية خطيرة. لذلك عاش لسنواتٍ عدّة حياةً ضنكًا، ووقع فريسة للمرض. ولأنه يفتقر للثروة، فلا يمكنه، كسب قوته وإطعام أسرته، إلا بالاعتماد على وظيفته كعامل ترام. وخشيةَ فصلِه من العمل بعد اثنتي عشرة سنة من الخدمة، جرّاء غيابه المتكرّر، بسبب انتقاله الدائم إلى المقاطعات، قرّر في نحو عام 1932 أن يتخلى عن كل نشاط مسرحي. بل عمد إلى تمزيق مخطوطاته كي يتجنّب الاستسلام لإغراء الظهور من جديد على المسرح.

          وتضمّ أعمال علالو الدرامية، التي كُتبت كلها نثرا، سبع مسرحيات، يمكن تلخيصها كالآتي:

- جحا، (1926): كوميديا في ثلاثة فصول وأربع لوحات، ألّفها بالتعاون مع دحمون

          إنها قصة جحا، الذي أرغمته زوجته على لعب دور الطبيب، والذي ينتهي به الأمر إلى الانتفاع من المغامرة، بعد أن تمكّن بيُسرٍ من علاج (ميمون)، ابن السلطان (قارون)، الذي لا همّ له سوى الرغبة  في الاقتران بالفتاة التي يحبها.

- زواج بوعقلين، (1926): كوميديا تقع في ثلاثة فصول وأربع لوحات، ألّفها بالتعاون مع دحمون.

          وتتناول المحن الزوجية التي كابدها بوعقلين العجوز: ذلك لأن زواجه من امرأة مغناج تصغره بأربعين عاما، يجعله أكثر عصبية وغيرة من أي وقت مضى؛ تخدعه زوجته باستسلامها لمغازلة شاعر مغني شاب.

- أبو الحسن أو النائم اليقظان، (1927): مسرحية غنائية تقع في خمسة فصول، مقتبسة من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة. ألّفها بالتعاون مع دحمون

          وهي تتناول دعابات بورجوازي من بغداد، ينال ذات يوم حظوة الخليفة بفضل حيلة هارون الرشيد، الذي أراد أن يتسلى على حسابه. وفي النهاية، يكافئه مكافأة باذخة.

- الصياد والعفريت، (1928): كوميديا غنائية وساحرة، ذات أربعة فصول وخمس لوحات. وهي عبارة عن اقتباس من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، كتبها بالتعاون مع دحمون. 

          وفحواها أن الأمير خير الدين، الذي كان يجهل أنه أمير، له صديقان: سعدون، قرصان سابق، و(بومنير)، صياد مرح. يقع الشاب في غرام ابنة الملك، التي اختطفها الشيطان كرهن عهد يربطه بالملك. ينطلق خير الدين، بدافع الشغف بالأميرة، للبحث عنها بمساعدة رفيقيه. وبعد مغامرات كثيرة، ينجح في انتزاعها من براثن الشيطان، الذي يكشف لها عن هويتها الحقيقية: ويستطيع في النهاية أن يتزوج الفتاة التي يحبها.

- عنتر الحشايشي، (1930): كوميديا بطولية هزلية تتألف من ثلاثة فصول وخمس لوحات. 

          إنها القصة الهزلية لإسكافي فقير، يتعاطى الحشيش، يقوده خياله الغامر إلى خوض مغامرات نصف كوميدية، ونصف بطولية، تنتهي، بموت صديقه، الحلاق عنتر، مثل اسمه في الأسطورة، بطريقة مأساوية...

- الخليفة والصياد، (1931): كوميديا غنائية تتألف من خمسة فصول، مقتبسة من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة. وهي حكاية خليفة الصياد والخليفة هارون الرشيد. 

          وتتناول مغامرات الصياد خليفة، الذي يعيد للخليفة هارون الرشيد محظيته قوت القلوب، التي حاولت منافِستُها، الملكة زبيدة، أن تتخلّص منها، بحبسها في صندوق بعد تخديرها.

- حلاق غرناطة، (1931): كوميديا تقع في ثلاثة فصول وأربع لوحات، ألّفها بالتعاون مع جلول باش جراح.

          يتناول موضوع هذه المسرحية، قصة حلاق أندلسي، والمغامرات الغرامية التي خاضها. تجري الأحداث في إسبانيا خيالية، يتم استحضارها روحيا وجعلها مثالية عاطفيا.

          وعلالو لا يتباهى بالطرافة؛ ولا يبالي بالجديد. فهو يأخذ ضالته أنّى وجدها؛ حيث ينقل على المسرح ثلاث حكايات من ألف ليلة وليلة، اثنتان منها سبق اقتباسهما للمسرح، وهما: أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد (1849) للبناني مارون النقاش، و(مملكة العجائب، 1918- 1924 ؟) للمصري أمين صدقي. وتحتوي مسرحية "جحا" على العديد من الدعابات والنكات التي تُنسب في العادة إلى شخصية شعبية بهذا الإسم. ويذكر، فضلا عن ذلك، الطبيب رغما عنه، والمريض الواهم. كما نجد في مسرحية "بوعقلين" أيضا ملامح للعديد من الأعمال العربية والفرنسية. لكن "علالو" لا يجازف بتقليد سابقيه في مجال كوميديا الشخصية؛ ذلك أن شخصياته تكتفي بأن تكون مجرد أدوار مسرحية: الزوج العجوز الغيور والفظ (مسرحية بوعقلين)، والطبيب رغما عنه (مسرحية جحا)، والأمير المولع بالموسيقى (مسرحية الصياد والعفريت)، والخادم المخلص (مقيدش في مسرحية جحا)؛ فهي لم تصبح أبدا كائنات بشرية حقيقية.

          غير أن علالو" بارع في استخلاص مواقف هزلية من حبكة تثير الضحك تلقائيًا: في مسرحية جحا، يتعرّض البطل الرئيسي للضرب المبرح على يد رسل السلطان قارون قبل أن يكتشفوا أنه فعلا الطبيب المشهور القادر على علاج ابن السلطان. وزوجة "بوعقلين"، التي وجدت الباب مغلقا بعد عودتها ليلا من لقاء مع عشيقها في الحديقة، تتظاهر بوضع حدّ لحياتها، وذلك بإلقاء حجر كبير في البئر. وبينما يهرع زوجها المذعور لمساعدتها، تعود إلى منزلها. وفيما بعد، عندما يصدّق جميع أفراد عائلتها أنها انتحرت، تظهر فجأة. ومن شدة الذهول، يتخيّل "بوعقلين" أن شبح زوجته أمام عينيه. وتتبدى مسرحيات "علالو"، في نهاية المطاف، كنوع من المنزلة الوسطى بين الهزلية الخالصة وكوميديا الدسائس. ويظل المتفرج في حالة تشويق دائم، من خلال التقلّبات المفاجئة: ظهور زوجة بوعقلين مرة أخرى، واكتشاف قوت القلوب في الصندوق الذي اقتناه خليفة الصياد للتوّ من السوق؛ أو أنه يستمتع بالتنكر: يرتدي أبو الحسن زي الخليفة، ويلوّح برموز سلطته الوقتية، كذلك يرتدي هارون الرشيد ووزيره جعفر زي التجار... إلخ.

          بالإضافة إلى ذلك، فإن "علالو" كاتب يتلاعب بالكلمات اللطيفة، ويضاعف النكات: حيث أعطى لبطل مسرحيته الأولى، جحا، اسم شخصية مشهورة في العالم العربي الإسلامي، ولزوجته اسم حيلة، ولخادم أبو الحسن، اسم مقيدش، وهو اسم شخصية طريفة أخرى نلتقي بها في العديد من الحكايات الشائعة في الجزائر العاصمة. وكثيرا ما يكشف اختيار الأسماء أيضا عن السخرية التي يهدف إليها المؤلف: وهكذا، فإنه يطلق على الخليفة هارون الرشيد اسم قارون الفاسد، وعلى وزيره اسم جعفر المرخي، وعلى سيّافه اسم مصروع (أي الأبله)... وبالطريقة ذاتها، يخصّ اسكافي فقير، من باب السخرية، باسم عنتر المرموق، وهو البطل الشهم الذي يحظى بإعجاب العرب بالأمس واليوم. وكل هذه الدمى المثيرة للشفقة، يُموضعها "علالو" في مجموعة الشخصيات التي تسكن المخيلات، ومازالت تؤثّر في الرأي العام. وكلماته الهزلية، تتكون أحيانا من أقوالٍ مأثورة، وحِكَمٍ، وأمثالٍ تستخدم الكلام الشعبي، وأحيانا من التكرار غير الواعي لعباراتٍ كاشفة؛ ودون أن تكون كلمات شخصياته، فإن هذه الاكتشافات تطلق العنان للضحك. باختصار، لا عمق فيها، ولكن الكشف، من خلال الضحك، عن حقيقة إنسانية معينة، وقريحة متدفّقة، وابتهاج صريح، لا ينفذ، متواصل، يغذّيه فوق ذلك باستمرار، التمثيل الإيمائي، والأحاديث الذاتية. هذا المرح يجعل كل شيء مقبولا: جحا وزوجته لئيمان، وبوعقلين ليس صادقا تماما، ولا أبو الحسن أيضا. مجنون حقا مَنْ يتذمّر منهم ويأخذهم على محمل الجد! فقد نجح في جعل موضوعات جادة تقريبا هزلية: لم يزعم أبدا، حتى عندما يستخدم الهجاء، لاسيما في مقاطعه الغنائية، أنه يقدّم لنا الإيهام بالواقع.

          ومع ذلك، إذا أردنا أن نقدّر المسرح الناشئ حق قدره، فمن المستحسن أن نوضّح بدقّة، من ناحية، خصائصَه العامة، وأن نحدّد من ناحية أخرى، علاقاتِه بالمجتمع في ذلك الوقت. فقد أفضى تطبيق القواعد الأرسطية في المسرح إلى مسرح مكتوب في مصر ولبنان وسوريا، بحيث أن النصوص، كانت تقرأ، كثيرا  قبل أن تُمثّل. ومن الأمثلة على ذلك، المسرحيات التي كُتبت باللهجة المصرية، من تأليف أمين صدقي، وبديع خيري لفرقتي علي الكسار ونجيب الريحاني. غير أن المسرح الجزائري موجّه خصّيصا للتمثيل، ومن ثمّ فهو غير ملائم على الإطلاق للقراءة، وإن كانت شفوية. وفوق ذلك، لم يكن لهؤلاء المنشطين أية ادّعاءات أدبية: إذ لم تُنشر أيٌّ من أعمالهم الفنية، ولم يفلت من النسيان سوى بعض الدفاتر، والأوراق التي تملأها الأخطاء الإملائية... ولما كانت ممارسة هذا المسرح بهذا الشكل، فإن حظّه ضئيل في البقاء والاستمرار إلى جانب المسرح المكتوب أو الأدبي. ولكن كيف السبيل لاستعادة الابتهاج والحماس، ومشاركة الجمهور؟ وقُدّمت الموضوعات: مثل مغامرات جحا، الذي أصبح طبيبا رغما عنه، والمحن الزوجية للعجوز بوعقلين، والانتحال بالنسبة للفقير أبو الحسن، الذي أصبح خليفة ليوم واحد، وغيرها... وعليه، لأجل كل عرض جديد، يخضع المؤلف النص للمراجعة. بعبارة أخرى، يُقدّم النص من جديد بمجرد كتابته بحكم أنه قد كشف في عرض سابق عن فعاليته على المسرح. ويحلّ المبدأ الدينامي لعرض يتجدّد في كل مرة محلّ المبدأ الستاتيكي لنصٍّ لا يتغير. وهكذا فإن كوميديات "علالو"، مثلها مثل كوميديات القسنطيني وباشتارزي، هي نوع متحرّك. ومن المؤكد أن التعديلات التي تطرأ عليها يمكن أن تخضع أحيانا لمعايير فنية أو نفسية. ولكن الأهمّ من ذلك بكثير، هو الجانب التجريبي لهذا الفن المسرحي، الذي لا ينتج عن تأمّلاتٍ نظريةٍ، أو عن شِعريةٍ تنشأ عن فن الكتابة الدرامية (dramaturgie)، بل ينتج عن نجاحات سُجّلت عند تمثيل المسرحية.

          إضافة إلى ذلك، فإن المسرح الجزائري يتميّز عن المسرح الأدبي، بكونه يتوجّه في المقام الأول إلى الجمهور. والممثلون على غرار "علالو" نفسه، والقسنطيني وباشتارزي، ودحمون وباش جراح، ولكحل، وغيرهم، هم من الهواة. وبالتالي، فإن أي عرض هو خصوصا حدثٌ كبير، وضربٌ من العيد، واحتفال، احتفال بفرحة أُعيد اكتشافها. وعندما ينْشُد المرء التسلية فكيف له أن يحكم حكما أدبيًا أو فنيًّا؟ ومنذ البداية، كان الجمهور ميّالا إلى تفضيل المهارة على الفن. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الجمهور مركّب للغاية. والتنوّع في العروض، وهو نوع مفتوح، يضمن لأي أحد أن يجد فيه ما يسلّيه. كما أنه جمهور متسامح جدا إلى حدّ لا أحد ينوي أبدا إدانة ما لا يتلاءم مع ذوقه. فهذا يذهب إلى العرض فقط للاستمتاع بالجانب الهزلي النمطي للمَشاهد المركبّة في مسرحية "جحا"، أو "بوعقلين"، وأفعال مقيدش الشيطانية. وذاك، يُعجب، إضافة إلى الحلقات المتنوعة من الحياة المألوفة، بالقصة الهزلية للإسكافي الفقير، وهو فرد من الناس مثله، يقوده خياله الجامح إلى خوض مغامرات، تنتهي بصورة مأساوية. وثالث متعلّم إلى حدّ ما، يستمتع بالخطب الأنيقة، وبراعة الأسلوب، والمقاطع الغنائية المنطوقة جيدا. وينبهر الجميع، في النهاية، بعرض الأبّهة الشرقية الزائفة التي تثيرها الاقتباسات من حكايات ألف ليلة وليلة، والتي توفّر لهم تغييرا سهلا للمشهد. لأن هناك من كل شيء في هذه المسرحيات، التي تتأرجح باستمرار بين الأسطوري والمألوف، الجليل والمضحك، المعاش والخيالي.

          إنه نوع حيوي، بالتأكيد، وفوق ذلك، لا يخلو من وسائل الراحة. ووفاءً لمقتضيات هذا النوع، أولى المؤلّفون أهمية خاصة للإخراج المسرحي، وللديكورات والأزياء، ولكن أيضا للغناء والرقص والموسيقى. باختصار، كل شيء يبدو لهم قابلا للتمثيل، وكل شيء هو في واقع الأمر، ممثَّل. ويتجلى هذا التنوع بوجه خاص، في الأغاني المتعددة التي تتخلّل كل مسرحية. ولعل التبادلات المستمرّة بين الشعر والموسيقى، وانتشار أحدهما يساعد على ازدهار الآخر، يفسّره حب الغناء الذي يتضح على جميع المستويات في المجتمع الجزائري. ففي الحياة اليومية، تتواجد الأغنية في كل مكان: فهي لا تُلهم فقط ألحان الرقص، التي تقوم في العادة على الأنغام العصرية، بل نراها مصاحبة لحركات العمل (أغاني المهن)، والاحتفالات بالأعياد العامة. كما تصوّر أيضا (أي الأغنية) مسيرة التاريخ في أغاني الحرب أو في الهجاء السياسي والاجتماعي؛ ذلك لأنها تحسّن عروض الهزليات، والكوميديات والمسرحيات ذات الإخراج الضخم، التي تستعير منها بدورها الأنماط الشعبية التي تطوّر أعمالها المبهجة والرومانسية أو المثيرة للسخرية. إن المعنى العميق للمسرح الجزائري في البدايات الأولى، يكمن في هذا الانفتاح التام، ومن الضروري، بلا شك، أن نمرّ أولاً بهذا التشتّت كي يتسنى لنا بعد ذلك أن نقدّر قيمة التركيز.

          ويجدر في النهاية، التأكيد على مدى حيوية هذا المسرح. مسرح غير أدبي، مسرح "بولفار"، مسرح استهلاك يومي، كيف يمكن تحديده ؟ لنقل، بالأحرى،: مسرح شعبي، مسرح مفتوح، مسرح محكي. ولكن لا يمكن إهماله إطلاقا، لأنه يعبّر عن روح ذلك العصر. هو استمرار، ولكن تغيّرات تُعزى لتأثير الأحداث الداخلية والخارجية، ولتطور العادات والذهنيات: تبدو فترة ما بين الحربين في الجزائر محصورة في شبكة من التناقضات والتنافرات، التي لا ينبغي السعي إطلاقا للتوفيق بينها. ومثل غيرها من الفترات التي شهدت تقدّما متسارعا، ترى نفسها في تجاذب بين الدوافع  والضرورات المتنوعة. فقد هيمنت العقلية البورجوازية، التي  تقوم، في آنٍ واحد، على المحافظة والجرأة الواقعية؛ وهو اتصال سيكشف عن فائدته بعد 1830. إن الشغل الشاغل للجزائري يقوم على الحقائق المادية لوجوده، والبحث عن الراحة والربح؛ وفي ذات الوقت، يتيح لنفسه الانجذاب أكثر فأكثر إلى أفكار الحضارة العربية الإسلامية. ولأنه يخضع لعملية اغتراب تمسّه على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وكذا الثقافي؛ فإنه لا يتحدّد في الحال؛ ويتأرجح عقله لوقت طويل جدا بين الإذعان والرفض، الأمل والاستسلام، الترقية والانطواء على الذات. وهذه التناقضات كلها، لن تتلاشى عشية الحرب العالمية الثانية، التي تمثّل نقطة تحوّل حاسمة في تطور الجزائر المعاصرة. لكن الرغبة في تحسين جودة الحياة، ستسود في النهاية لدى العدد الأكبر، وستُؤتي محاربة الجهل ثمارها حتى وإن استمرّ الشك وخيبة الأمل والإحباط أيضا لبعض الوقت في المستقبل. ولا ريب أن العصر يعكس حركة العقول وأحلامها السخيّة. بل إننا نرى ونستدعي من هذه الأماني ميلاد عصر يتجدّد بالعقل، ونرتبط من جديد، بشكل متزامن، مع رؤى العالم العربي الإسلامي: عندما يشهد هذا الأخير إصلاحا في النهاية، فإنه لن يكون ذريعة للأخلاق المجازية، بل يكون وسيلة لتحديد أنماط جديدة من التفكير والإبداع. وهكذا، ولأول مرة في الجزائر، بلا شك، يكون التجديد ثقافيا قبل أن يكون سياسيا واجتماعيا. ومهمة المسرح هي أن يساهم بالنسبة لما يتعلق به، وفي حدود نوعه، في المجهود العام. هذا العمل التجديدي، في إطار الوفاء للتقاليد الشعبية، ساهم فيه علالو بامتياز من بين الأوائل في سنوات الثلاثين.              



0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption