مسرحية " مرابع وهم " تأليف : شوقي كريم حسن
مجلة الفنون المسرحيةشخوص التجسيد
————————-
—- الرجل
—- الزوجة
—-نافع
—-( شخصيات مساعدة)
تجسيد اولي لمعاني اللعبة
———————~~~~~~~~
( غرفة المعيشة متواضعة عتيقة الاثاث. في الوسط ، كرسي فخم متضارب مع بقية الأثاث . ضوء أصفر خافت يملأ المكان، فيما تُسمع من بعيد دقات ساعة حائطية ثقيلة. الرجل الستيني جالس على الكرسي، مرتدياً بدلة رسمية باهتة، يدخن سيجارة بتوتر. بالقرب منه زوجته تذرع الغرفة جيئة وذهابًا، تحرك الكتب القديمة المبعثرة على الطاولة، وأحيانًا تتوقف لتحدق فيه بغيظ. في طرف القصي، يظهر الباب الذي يتكئ عليه نافع، يشعل سيجارة ، يبدو مترنحًا وفاقدًا للوعي).
الزوجة: (تتوقف فجأة وتضع يدها على خصرها) هذا الكرسي؟ ما الذي ستفعله به أهذا إرثك؟ إرثك الوحيد بعد ثلاثين عامًا من الوظيفة؟
الرجل: (بصوت خافت دون أن ينظر إليها) لم أفعل شيئًا. الكرسي فعل كل شيء.
الزوجة: (بسخرية لاذعة) الكرسي؟ الكرسي فعل؟ أهذه حجتك الأخيرة؟ أن تحمل قطعة خشب مثقلة بأوساخ السنين، وتجلس عليها لتبرر كل فشلك؟
الرجل: (يدق بإصبعه على مسند الكرسي كأنه يتفحصه) لا تفهمين… هذا الكرسي كان عرشي. كل قرار كان يخرج من هنا…
الزوجة: (مقاطعة) قرارات؟ أي قرارات؟ قرارات لبيع الضمير؟ أم لتأخير المعاملات حتى تقبض ثمنها؟
الرجل: (يرفع عينيه إليها بغضب) اصمتي!
الزوجة: لن أصمت! سأعيد كلماتك لك. (تقترب منه) لماذا؟ لماذا جئت بهذا الشيء إلى هنا؟
الرجل: (بصوت عميق) لأن هذا الشيء هو كل ما تبقى لي.
الزوجة: (تضحك بمرارة) ومن قال إنك كنت تمتلك شيئًا في الأصل؟
(يسود الصمت لوهلة، فيما يقاطع الابن المشهد بضحكة ساخرة. يتحرك نحو منتصف الغرفة، ويدخن ببطء).
نافع: (بتثاقل) رائع… رائع حقًا. أنتم ثنائي مثالي. الكرسي بينكما شاهد على سنوات من الكذب والخراب.
الرجل: (يلتفت إليه بحدة) لا تجرؤ!
نافع: (بابتسامة ساخرة) ولماذا لا أجرؤ؟ هذا الكرسي الذي تدافع عنه كأنه حياتك، ألم يكن مجرد مسند لفسادك؟
الزوجة: (تضرب الطاولة) كفى، كفى! هذا النقاش عقيم…
نافع: (مقتربًا من الطاولة) لا، لا، دعينا نكمل. أريد أن أعرف… كيف تحول الكرسي إلى بطل هذه القصة؟
الرجل: (ينهض من كرسيه غاضبًا) اسمعني يا ولد… هذا الكرسي كان شاهدي.
نافع: (مقاطعة) شاهد؟ شاهد على ماذا؟ على أرقامك المزورة؟ على صفقاتك الملوثة؟
الزوجة: (تتقدم نحوهما محاولة تهدئة الأمور) توقفا! لن أتحمل أكثر من هذا.
(الرجل يقف للحظة، ثم يعود إلى الكرسي منهارًا. يضع رأسه بين يديه).
الرجل: (بصوت مكسور) أنت لا تفهم… لا أحد يفهم.
الزوجة: (تنظر إليه بشفقة) ما الذي تحاول فعله؟ أن تنقذ نفسك بقطعة أثاث؟
الرجل: (بصوت منخفض) أنا لا أحاول إنقاذ نفسي… أنا فقط أحاول أن أترك أثرًا.
نافع: أثر؟ (يضحك) الأثر الوحيد الذي تركته هو الخراب…
(الصمت يعم المكان، بينما يتراجع نافع إلى الزاوية. الزوجة تجلس على حافة الطاولة، تحدق في الكرسي بدهشة ممزوجة بالخوف تُسمع دقات الساعة مجددًا، والضوء يخفت تدريجيًا، بينما يبقى الكرسي مضاءً. (اعتام سريع) الكرسي الآن في منتصف الغرفة تمامًا، حوله تتناثر الأوراق الممزقة والكتب القديمة. الرجل يجلس على الأرض، يحدق فيه كأنه يحاول فهم شيء غامض. الزوجة تقف جانب النافذة، تدخن سيجارة، بينما نافع يجلس على الطاولة، يفتح علبة دواء ويبتلع الأقراص بسرعة).
الرجل: (بصوت منخفض) الكرسي لم يكن مجرد قطعة خشب.
الزوجة: (تلتفت إليه بسخرية) نعم، أعلم. الكرسي كان إلهك الصغير.
نافع: (بكسل) الإله الصغير لم ينقذنا من الجوع…
الرجل: (ينهض ببطء، يتجه نحو الكرسي) أنتما لا تفهمان. هذا الكرسي هو إرث…
الزوجة: (مقاطعة) إرث؟ إرث من؟ لمن؟ هذا البيت سيُباع، ونحن سنُطرد. أين إرثك الآن؟
نافع: (مبتسمًا) ربما نبيعه في المزاد. كرسي المسؤول العظيم!
الرجل: (بغضب) هذا الكرسي لن يُباع!
الزوجة: (تتقدم نحوه) استيقظ! لا شيء في هذا الكرسي سوى الخشب والجلد. إنه فارغ… تمامًا مثلك.
الرجل: (ينهار على الأرض) فارغ…؟
نافع: (يضرب الطاولة بقبضته) نعم، فارغ! كما تركتنا فارغين.
(صمت ثقيل. الضوء يخفت تدريجيًا حتى يغمر المكان كله... الكرسي يظل مضاءً للحظة .. وكأنه محور العالم. تتراكم حوله أكوام من الأوراق الممزقة، الكؤوس الفارغة، وعلب السجائر. الرجل يجلس على الكرسي في وضعٍ أشبه بالمحاكمة، يحدق أمامه بعينين فارغتين. الزوجة جالسة قرب النافذة، تنظر إلى الخارج بصمت ثقيل. نافع يذرع الغرفة جيئة وذهابًا، يتحدث بلهجة متقطعة تحت تأثير المخدر).
الرجل: (بصوت متهدج، كأنه يحدث الكرسي) هل كنتَ عرشًا أم لعنة؟
الزوجة: (تلتفت فجأة) والآن؟ أهذه محاكمة جديدة؟ من تُحاسب هذه المرة؟ نفسك أم هذا الشيء؟
الرجل: (يبتسم بمرارة) لم أكن أعلم أن العروش تنهار بصمت. كنت أظنها تسقط بصخبٍ، بضجيجٍ، بصراخ…
نافع: (يضحك بجنون) العروش؟ أي عروش؟! هذا كرسي مهترئ مثل رأسك تمامًا.
الزوجة: (بغضب) نافع! يكفي…
نافع: (يتوقف، ينظر إليها باستخفاف) يكفي؟ هل حقًا يكفي؟ ألم ينفجر بعد الصبر الذي تطلبينه؟ هذا الرجل جعلنا مسخرة… وأنا؟ أنا ضحية رجل عاش حياته يجمع الفتات.
الرجل: (يرفع رأسه ببطء) أنا؟ أنا جعلتك ضحية؟
نافع: نعم، أنت! بسببك صرتُ هنا… في هذه الزاوية… هذا الفشل…
الرجل: (ينهض ببطء من الكرسي، يقترب من نافع) لا… أنت من اخترت أن تكون الفشل… أنا فعلتُ ما أستطيع.
نافع: (بضحكة ساخرة) فعلت؟ فعلت ماذا؟ سرقت، كذبت، وختمت على أوراق لا تفهم محتواها!
الزوجة: (تتدخل بحذر) كلاكما توقفا. هذه معركة خاسرة.
نافع: (موجّهًا كلامه للزوجة) وأنتِ؟ لماذا صمتِ طوال هذا الوقت؟ ألم تكوني ترين؟ أم كنتِ تستمتعين؟
الزوجة: (تصرخ) أنا؟ أنا كنتُ صامتة لأجل هذا البيت، لأجلك أنت! لأحمي شيئًا يمكن أن ينقذنا جميعًا.
نافع: (يسخر) بيت؟ هذا البيت؟ هذه الخرابة التي تنهار على رؤوسنا؟
(يتقدم نحو الكرسي بغضب ويضربه بقدمه).
نافع: هذا الكرسي… هو مشكلتنا! كان يجب أن يُترك هناك… في المكتب!
الرجل: (يتحرك بسرعة نحو الكرسي، يحتضنه كأنه طفل) لا! لا تلمسه!
الزوجة: (بحزن عميق) هل ترى؟ أنت لم تهتم بنا قط. كان الكرسي هو ابنك الوحيد…
الرجل: (يصرخ) هذا الكرسي كان ملاذي! هو الشيء الوحيد الذي استمع لي حين خذلني الجميع.
نافع: (يضحك) كرسي؟ كرسي هو ملاذك؟ يا للمهزلة!
(يجلس ن على الطاولة، يخرج سيجارة ويشعلها، فيما الرجل ينهار على الأرض بجانب الكرسي. الزوجة تتقدم بخطى بطيئة، تنظر إلى الكرسي، ثم تلتفت إلى نافع).
الزوجة: نافع، علينا الرحيل.
نافع: (باستغراب) الرحيل؟ إلى أين؟
الزوجة: (بحسم) أي مكان بعيد عن هذا الكرسي، بعيد عن هذا الماضي.
الرجل: (يرفع رأسه ببطء) لن تذهبوا. هذا بيتنا… وهذا الكرسي هو تاجه.
الزوجة: (تنظر إليه بشفقة) وهل التاج ينقذ مملكة انهارت؟
نافع: (ينهض بتثاقل) دعينا نتركه… هو والكرسي، يمكنهما البقاء معًا حتى النهاية.
(يتحرك نافع نحو الباب. الزوجة تلقي نظرة أخيرة على الرجل، ثم تتبعه دون أن تنطق بكلمة. يُغلق الباب بصوت عالٍ، ويبقى الرجل وحده مع الكرسي).
الرجل: (يهمس للكرسي) هم لا يفهمون. نحن نفهم… أليس كذلك؟
(يصمت للحظة، ثم ينهض متكئًا على الكرسي، يوجه نظره نحو الجمهور).
(بصوت عالٍ ومجنون) من هنا، صنعت العالم. من هنا، تحكمت في كل شيء. وأنتم؟ أنتم لا شيء… هذا الكرسي يعرف! هذا الكرسي شاهدٌ على كل عظمتكم الزائفة…
(يسحب الكرسي إلى المنتصف يجلس عليه كأنه ملك، ويرفع يده وكأنه يلقي أوامره الأخيرة.(بصوت مكسور) هذا عرشي… ومن هنا، سأبدأ من جديد.
(تُسمع دقات الساعة مجددًا، بطيئة ومثقلة. الضوء يسلط على الرجل والكرسي فقط، بينما يظلم كل شيء حولهما تدريجيًا حتى يغرق المسرح كله في ظلام دامس).
الرجل: (بصوت خافت، كأنه يحدث الكرسي) هل خانتك قوتك؟ أم أنني من خانك؟ كنا نحكم هذا العالم معًا… كنت أنت العرش، وأنا الملك.
(يصمت للحظة، يتكئ بيده على مسند الكرسي، يرفع رأسه ببطء)
لكن الملوك يحتاجون إلى شعوب، أليس كذلك؟ شعبي… رحلوا. تركوني وحيدًا.
(يدخل نافع فجأة، لكنه يبدو مختلفًا: شاحب الوجه، ثيابه مهترئة، ويداه ترتعشان. يحمل كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا، يقترب منه بهدوء، ثم يتوقف على بعد خطوات).
نافع: (بصوت متهدج) هل ما زلت تحدث هذا الكرسي؟
الرجل: (دون أن ينظر إليه) نعم… إنه الوحيد الذي بقي معي.
نافع: (بسخرية حزينة) الوحيد؟ الوحيد الذي بقي معك هو سبب كل شيء… سبب خرابنا.
الرجل: (يلتفت إليه ببطء) وأنت؟ لماذا عدت؟ ألستَ من تخليت عني؟
نافع: (يقترب بضع خطوات) لم أعد لأجلك… عدت لأخذ حقي.
الرجل: (بتحدٍ) حقك؟ أي حق؟
نافع: حقي في أن أتحرر منك… من هذا البيت… من هذا الكرسي.
الرجل: (بابتسامة ساخرة) وما الذي يمنعك؟ الباب مفتوح.
نافع: (يقترب أكثر، بعينين متقدتين) لأنك لا تزال هنا… لأن وجودك يعني أنني لن أكون حرًا أبدًا.
الرجل: (ينهض من الكرسي ببطء، يتكئ على ذراعيه) الحرية؟ الحرية ليست لك… أنت لا تعرف معناها.
نافع: (يصرخ) وأنت تعرف؟ أنت الذي قضيت حياتك مسجونًا على هذا الكرسي؟
الرجل: (بهدوء قاتل) هذا الكرسي ليس سجنًا… إنه العرش.
(يسود صمت ثقيل، فيما تتقدم الزوجة من الباب. تبدو منهكة، شعرها أشعث وثيابها غير مرتبة. تحمل بيدها كتابًا قديمًا، تنظر إلى الرجل والكرسي ثم إلى نافع).
الزوجة: (بصوت متهدج) هل ما زلتما تتصارعان؟
نافع: (بغضب) هذا ليس صراعًا… هذا تحرير.
الرجل: تحرير؟ تحرير ممن؟
الزوجة: (تقاطع) كفى. هذا النقاش لن يعيد شيئًا.
نافع: (بمرارة) أنتِ أيضًا… كنتِ دومًا الحَكَم. تقفين بيننا، لكنكِ لم تختاري أبدًا.
الزوجة: (تتقدم نحو الطاولة) لأن الاختيار كان يعني الهلاك.
نافع: (يصرخ) نحن في الهلاك بالفعل! انظري حولك… لا شيء هنا.
تضع الزوجة الكتاب على الطاولة، تنظر إلى الكرسي).
الزوجة: (بحزن عميق) هذا الكرسي… كان لعنة.
الرجل: (بغضب) لا تجرئي! هذا الكرسي كان حياتي.
الزوجة: (بهدوء) حياتك؟ وأين هي الآن؟
الرجل: (ينهار جالسًا على الكرسي) أنتما لا تفهمان… هذا الكرسي هو أنا.
نافع: (بجنون) إذًا… إذا دمرت الكرسي، هل أدمر أنتَ أيضًا؟
(يتقدم نحو الكرسي فجأة، يحاول دفعه بيديه. الرجل يقف أمامه، يدفعه بعيدًا).
الرجل: (يصرخ) لا تلمسه!
نافع: (يدفعه بقوة) سأنهي هذه المهزلة!
(تتدخل الزوجة، تحاول إبعادهما عن بعضهما).
الزوجة: (تصرخ) كفى! ألا ترون أننا نغرق جميعًا؟
(صمت. الجميع يتوقفون. الرجل يجلس على الكرسي، يلهث. نافع يتراجع، يتكئ على الطاولة. الزوجة تمسك رأسها بين يديها).
الرجل: (بصوت ضعيف) إذا كان الكرسي هو مشكلتكم… فخذوه.
نافع: (مندهشًا) ماذا؟
الرجل: (ينظر إلى الكرسي) خذوه. احرقوه… افعلوا به ما تشاؤون.
الزوجة: (تقترب منه بحذر) هل تعني ذلك؟
الرجل: (يضحك بمرارة) ما الجدوى؟ لن يفهم أحد…
نافع: (بصوت مرتعش) إذًا، انتهى الأمر؟
الرجل: (بهدوء) لا… لم ينتهِ شيء.
(ينهض ببطء من الكرسي، يبتعد عنه، ثم يتوجه نحو الباب المفتوح. يقف للحظة، يلتفت إليهما).
الرجل: (بصوت متقطع) الكرسي كان شاهدي… الآن، سأتركه ليكون شاهدكم.
(يخرج من الباب، يغلقه خلفه بصوت ثقيل. نافع ينظر إلى الكرسي بحيرة، بينما الزوجة تتقدم ببطء نحوه. يتبادلان نظرة طويلة، ثم يخرجان معًا، تاركين الكرسي وحيدًا في المنتصف
الضوء يتركز على الكرسي وحده. تتردد أصوات الرجل والزوجة ونافع في الخلفية، كأنها أصداء بعيدة).
الرجل (صوت خافت): كان عرشًا… لكنه لم يكن أبدًا لي.
الزوجة (صوت متلاشي): كانت لعنة… لكنها كانت لعنتنا جميعًا.
نافع (بصوت مرتجف): الحرية؟ هل تعني الحرية حقًا؟
(الصمت يعم المكان. الضوء ينطفئ تمامًا، ليغرق المسرح في ظلام دامس
صوت الرياح في الخلفية. الصمت يلف المكان. فجأة، يُفتح الباب ببطء، ويدخل الرجل. يبدو شاحبًا أكثر من ذي قبل، عيناه غائرتان، ووجهه يحمل ملامح الانكسار. يتوقف عند الباب، ينظر إلى الكرسي).
الرجل: (بهمس) عدتُ… لأنني لم أجد شيئًا هناك. لا حياة، لا ممالك… فقط الفراغ.
(يتقدم ببطء نحو الكرسي، كأن قدميه تُثقلان بأحمال الماضي. يجلس عليه بهدوء، يُطلق زفرة طويلة).
الرجل: (يحدث نفسه) أتدري؟ لم تكن مشكلتهم معك… بل معي أنا. كنتُ أراهم أدوات لخدمتي، تمامًا كما كنتَ أنتَ عرشي.
(يدخل نافع فجأة. هذه المرة يبدو أكثر شحوبًا، بملامح أقرب إلى اليأس. يتوقف عند الباب).
نافع: (بصوت متردد) عدتَ؟
الرجل: (بدون أن ينظر إليه) نعم.
نافع: (يتقدم خطوة) لماذا؟
الرجل: لأن العالم هناك كان أكبر مني… وأنا كنت صغيرًا جدًا.
نافع: (بسخرية مريرة) صغير؟ أنت؟ الرجل الذي عاش حياته يعتقد أنه أكبر من العالم؟
الرجل: (يلتفت إليه ببطء) أتعرف يا نافع… لقد كنتَ محقًا. الكرسي لم يكن سجنًا، بل كان مرآة. كل ما رأيته فيه كان انعكاسي أنا، لا أكثر.
(يصمت نافع، يقترب بخطى بطيئة. يقف أمام الرجل مباشرة).
نافع: (بصوت منخفض) هل تطلب الغفران؟
الرجل: (يضحك بسخرية) الغفران؟ لا… لا أستحقه.
نافع: (يجلس على الأرض أمامه، ينظر إلى الكرسي) إذًا، ما الذي تريده؟
الرجل: (بهدوء) أن أفهم.
نافع: (بحدة) أن تفهم ماذا؟ أن كل شيء انتهى؟ أن حياتنا تحولت إلى رماد بسببك؟
الرجل: (ينظر إلى السقف) أن أفهم لماذا اخترتُ هذا الطريق… ولماذا اخترتُك أنت لتكون ابني.
نافع: (يصمت للحظة، ثم ينفجر غاضبًا) لا تُحاول إسقاط فشلك عليّ! أنا كنت مجرد طفل… طفل أردتَ أن تُعيد تشكيله ليُشبهك!
الرجل: (بهدوء، دون أن ينظر إليه) وأنت؟ ألم تكن تحاول كسر هذا الشبه؟
(يدخل صوت خطوات أخرى من الخارج. الزوجة تظهر على الباب، تحمل حقيبة صغيرة، تبدو كأنها تستعد للمغادرة).
الزوجة: (تنظر إليهما) أراكما هنا معًا… للمرة الأولى منذ سنوات.
الرجل: (بابتسامة خافتة) هل جئتِ لتوديعنا؟
الزوجة: (بحدة) لم يعد هناك ما أودعه. سأرحل… إلى مكان أجد فيه نفسي.
نافع: (يلتفت إليها) وماذا عنا؟
الزوجة: (تنظر إليه بمرارة) عشتُم دوني لسنوات، وستعيشون بعدي.
الرجل: (يتكئ على الكرسي) كنتِ دومًا الأقوى بيننا.
الزوجة: (تقترب بضع خطوات) لا، لم أكن قوية… كنتُ فقط أقل ضعفًا منكما.
نافع: (ينهض فجأة) ولماذا الآن؟ لماذا ترحلين الآن؟
الزوجة: (تنظر إلى الكرسي) لأن هذا الكرسي أصبح ماضيكم… وأنا أريد أن أكون جزءًا من مستقبل لا يشبهه.
الرجل: (بصوت خافت) إذًا، كنتِ تكرهينه أيضًا؟
الزوجة: (تقاطعه) لم أكره الكرسي… بل ما جعله هذا الكرسي فيك.
(تدور وتنظر إلى نافع، ثم تتجه نحو الباب. تقف للحظة، تلتفت للمرة الأخيرة).
الزوجة: (بحزم) لا تسمحوا له أن يبتلعكم.
(تغادر، يغلق الباب خلفها ببطء. يسود صمت ثقيل، لا يُسمع سوى صوت الرياح. نافع يجلس على الطاولة، بينما يسترخي الرجل على الكرسي).
نافع: (بعد صمت طويل) إذًا… هذا هو النهاية؟
الرجل: (يضحك بخفة) النهاية؟ لا يا نافع… هذه البداية.
نافع: (بنبرة ساخرة) بداية ماذا؟
الرجل: (ينظر إليه) بداية الفهم.
نافع: (ينهض، يتقدم نحو الكرسي) أتدري؟ ربما حان الوقت لأفهم أنا أيضًا.
(يمسك بمسند الكرسي، ينظر إليه طويلاً. الرجل يراقبه بصمت).
الرجل: (بهدوء) افعل ما تريد… لكن تذكّر، الكرسي ليس المشكلة.
(ينظر نافع إليه للحظة، ثم يدفع الكرسي بقوة نحو الجدار. يرتطم بالجدار ويسقط على جانبه. الرجل ينهض ببطء، ينظر إلى الكرسي الساقط).
الرجل: (بصوت مرتجف) هل تشعر بالحرية الآن؟
نافع: (يصرخ) نعم!
الرجل: (يقترب من الكرسي، يضع يده عليه) إذًا، خذها… خذ حريتك واغرب عن وجهي.
(ينظران إلى بعضهما البعض، صامتين. نافع يتراجع بخطى بطيئة نحو الباب، ثم يغادر. الرجل يجلس بجانب الكرسي الساقط، يمرر يده على مسنده).
الرجل: (بصوت خافت) ربما كانت المشكلة أنا… وربما كنتُ أنا الحل أيضًا.
(يخفض رأسه، والضوء يتركز على الكرسي الساقط. الظلام يبتلع المكان ببطء..: الغرفة شبه خالية، الإضاءة خافتة، والكرسي في منتصفها وكأنه عرش مُهمل. يدخل الرجل ببطء، عيناه مثقلتان بالتعب، وخطواته مترددة. يتوقف عند الكرسي، ينظر إليه طويلاً. صوت الرياح في الخلفية يزيد من الشعور بالوحدة).
الرجل: (بهمس) أتعلم، كنتُ أظن أنني لا أحتاجك. كنتُ أظن أنك مجرد قطعة خشب مبطنة، رمز للسلطة التي كانت تسيل لعابهم جميعًا… لكنك كنتَ أكثر من ذلك.
(يتقدم ببطء، يضع يده على مسند الكرسي، يمرر أصابعه عليه كأنما يستعيد ذكرى قديمة).
الرجل: (بابتسامة شاحبة) كم مرة جلستُ عليك، وأحكمتُ قبضتي على ذراعك، كأنني أمتلك العالم؟ كنتَ عرشي، وكانوا ينحنون لي بسببك. كنتُ الملك… سيد الكلمات والقرارات، القاضي الذي لا تُرد أحكامه.
(يصمت قليلاً، يجلس على الكرسي ببطء، ثم يُطلق زفرة طويلة).
الرجل: لكن… (يخفض رأسه) كم جُرح نزفته بسببي؟ كم كلمة خرساء نطقتَ بها وأنت تُشاهدني أطحن أحلامهم بقراراتي؟
(ينهض فجأة، يدور حول الكرسي كأنه يحاكمه).
الرجل: لا تُنكر! كنتَ شريكًا في كل شيء. شريكًا في الظلم… في الصفقات القذرة… في تلك النظرات المتوسلة التي كنتُ أتجاهلها ببرود. كنتَ شاهدًا على الصرخات التي أغلقتُ أذني عنها.
(يعود ليجلس، هذه المرة ينحني للأمام، يواجه الكرسي كأنه يحدث شخصًا حقيقيًا).
الرجل: أتذكر أول مرة رأيتك فيها؟ كنتَ هناك، في الزاوية، مغلفًا بالغبار. قلتُ لنفسي: “هذا الكرسي يستحق أن يكون عرشًا.” أخذتك، نظفتُك، ووضعتك في قلب مكتبي. ومنذ تلك اللحظة… صرنا واحدًا.
(يصمت لبرهة، يضع يده على قلبه).
الرجل: لكن… هل كنتَ أنت من منحني القوة؟ أم كنتَ مجرد شاهد على ضعفي؟
(ينهض مرة أخرى، يبدأ في الدوران حول الكرسي ببطء، كأنما يفكر بصوت عالٍ).
الرجل: أتعلم ماذا اكتشفت؟ لم أكن أحتاجك. لا أنت، ولا تلك المظاهر الزائفة. القوة كانت هنا (يشير إلى رأسه). لكنني استبدلتها بك… لأنك كنتَ أسهل. كنتَ الواجهة التي اختبأتُ خلفها.
(يتوقف فجأة، ينظر إلى الكرسي بعينين دامعتين).
الرجل: لكنك أيضًا خدعتني. كنتَ الملعون الذي أغراني… كلما جلستُ عليك، شعرتُ أنني أطير، أنني أعلى من الجميع، أنني فوق البشر. لكن الحقيقة؟ كنتُ أغرق، وأنت كنتَ القاع الذي سحبني إليه.
(يجلس على الأرض أمام الكرسي، يميل برأسه عليه كأنه يستجدي حوارًا).
الرجل: أخبرني… ماذا كسبتَ من كل هذا؟ هل استمتعتَ وأنتَ تُشاهدني أتحول إلى نسخة من نفسي لا أعرفها؟ هل ضحكتَ عندما رأيتني أُضحي بكل شيء من أجلك؟
(يصمت للحظة، ثم يرفع رأسه فجأة).
الرجل: أو ربما… ربما كنتَ بريئًا. ربما كنتَ فقط ما كنتَ عليه دائمًا: كرسي. لا أكثر، ولا أقل.
(ينهض ببطء، يقف أمام الكرسي، يضع يده عليه بحنان غريب).
الرجل: إذا كنتَ بريئًا… فلماذا أشعر أنني أكرهك؟ لماذا أراك في كوابيسي؟ لماذا أسمع صوتك في رأسي يهمس لي: “اجلس، وستعود ملكًا”؟
(يتراجع خطوة، ينظر إلى الكرسي بتمعن).
الرجل: أنت لستَ بريئًا. أنت لعنة. لعنة حملتُها على كتفي سنوات طويلة. والآن… الآن أريد أن أتحرر منك.
(يمسك بمسند الكرسي، يحاول رفعه، لكنه يسقطه على الأرض بعنف. يقف فوقه، يصرخ).
الرجل: أكرهك! أكره كل لحظة قضيتها معك! أكره الذكريات التي ربطتني بك!
(يتوقف فجأة، يُخفض رأسه. صمت ثقيل يملأ الغرفة. يجلس بجانب الكرسي الملقى، يمرر يده عليه مرة أخرى).
الرجل: (بهمس) لكنني… لا أستطيع تركك.
(ينظر إليه طويلاً، ثم ينحني ويضع رأسه على الكرسي).
الرجل: (بصوت متحشرج) أنتَ كل ما بقي لي.
(الإضاءة تبدأ بالتلاشي تدريجيًا، يتركز الضوء الأخير على الرجل والكرسي معًا، بينما تُسمع الرياح وهي تعصف بالخارج. الصمت يبتلع المكان الرجل يجلس على الكرسي بهيئة مترهلة، كأنما يلتصق به. الزوجة تدخل متوترة، عيناها تقدحان بالنار. صوت الرياح مستمر بالخارج، لكن فجأة يقطع الصمت صوت بعيد ينادي: “أثاث قديم للبيع… عتيق للبيع…”).
الزوجة: (بحدة) ألا يكفيك كل ما فعلته بنا؟ ألا يكفيك هذا العبء الذي تضعه على كواهلنا؟
الرجل: (مترنحًا) عبء؟ أنتِ لا تفهمين… هذا الكرسي ليس عبئًا، إنه كل ما تبقى لي.
الزوجة: (ساخرة) كل ما تبقى لك؟ هذا الخشب الملعون؟ أين عقلك؟ أين كرامتك؟
الرجل: (ينهض مترنحًا، لكنه يتمسك بالكرسي وكأنه يخشى أن يُنتزع منه) لا تلمسِيه!
الزوجة: (تقترب بغضب) سأُحطمه إن لزم الأمر! هذا الكرسي لعنة، مثلك تمامًا.
الرجل: (متوسلًا) لا… لا تفعلين. هذا ليس مجرد كرسي… إنه تاريخي، شرفي، حياتي كلها!
الزوجة: (تضحك بمرارة) شرفك؟ حياتك؟ كان شرفك في أن تكون نزيهًا، وحياتك في أن تكون أبًا وزوجًا… أما هذا، فهذا مجرد خزي على هيئة كرسي!
(يحاول الرجل أن يمسك بها، لكنها تفلت منه وتتجه نحو الكرسي، تحاول رفعه).
الرجل: (يصرخ) لا!
(يتحرك بسرعة ليدفعها بعيدًا، لكنها تقاوم. يبدأ صراع جسدي بينهما، الكرسي بينهما كأنه مركز العاصفة. الرجل يبدو ضعيفًا، لكن خوفه يعطيه قوة، بينما الزوجة مصممة على إنهاء هذه المهزلة).
الزوجة: (وهي تحاول سحب الكرسي) سأبيعه الآن! سأخرجه من حياتنا!
الرجل: (ينهار على ركبتيه) أرجوكِ… لا تفعلين.
(صوت البائع يتكرر من الخارج: “أثاث قديم للبيع… عتيق للبيع…”).
الزوجة: (بحدة) تسمع ذلك؟ هذا مصيرك ومصير كرسيك! قطعة أثاث تُباع بثمن بخس.
(تتمكن أخيرًا من حمل الكرسي، لكنه يسقط منها وهي تلتفت لتجده مغشيًا عليه على الأرض).
الزوجة: (بذهول) ماذا فعلت؟
(تركع بجانبه، تتحسس نبضه، تحاول إفاقته).
الزوجة: (بصوت مرتعش) استيقظ… استيقظ يا رجل.
(يدخل نافع، ينظر إليهما ببرود، ثم يقترب ببطء).
نافع: (بجفاف) دائمًا كنتُ أقول إنكما ستقتلان بعضكما يومًا.
الزوجة: (بانفعال) نافع! ساعدني…
(ينظر إليها، ثم إلى الكرسي. يبتسم بسخرية ويقترب من الكرسي، يحمله دون كلمة واحدة).
الزوجة: (تصرخ) نافع، لا تأخذ الكرسي!
نافع: (بهدوء مخيف) ربما حان الوقت ليجد مكانًا آخر.
(يخرج بالكرسي، صوت خطواته يتلاشى تدريجيًا، بينما الزوجة تجلس عند رأس الرجل، تحاول إفاقته).
(صوت البائع بالخارج يتكرر: “عتيق للبيع… أثاث قديم للبيع…”، ثم يبتعد شيئًا فشيئًا، حتى يغمر الصمت المكان
الإضاءة تخفت تدريجيًا، تاركة الزوجة والرجل في بقعة ضوء صغيرة. الرجل جالس على كرسي متحرك، عينيه فارغتين تمامًا، لا يستطيع الحراك أو الكلام. الزوجة جالسة بجواره، تبدو متوترة للغاية. نافع يدخل الغرفة، يحمل الكرسي بين يديه. تعلو أصوات خطواته في الغرفة الفارغة كأنها علامة على انشقاق العائلة).
الزوجة: (بتنهدة حادة) نافع، ماذا تفعل؟
نافع: (بصوت هادئ، لكن مليء بالقسوة) ما الذي تظنين أنني أفعله؟ هذا الكرسي لا يخص أحدًا الآن… ليس إلا قطعة أثاث قديمة، كما قال البائع.
الزوجة: (بغضب) لا! لا يمكن أن تبيع الكرسي. هذا ليس مجرد أثاث، هذا جزء من تاريخنا. لا يمكن أن تتخلى عنه بهذه السهولة.
نافع: (ساخرًا) تاريخ؟! هذا مجرد خشب ومعدن. تاريخكِ؟ هل هذا هو ما تبقى من كل ما عشتُه معكما؟ التاريخ الكاذب؟
الزوجة: (تصرخ) هذا ليس كذبًا! كان ذلك كل ما كان لدينا، كان جزءًا من حياتنا، حتى لو لم تدرك ذلك!
(الزوجة تتجه نحوه بسرعة، لكن نافع يرفع الكرسي عالياً، كما لو كان يحاول أن يثبت شيئًا).
نافع: (بتهكم) ولماذا لا تضعينه في قلب قلبكِ، بدلًا من أن تجرجرين هذا الماضي البائس إلى الأبد؟
(الرجل يحاول أن يتكلم، لكن لا يستطيع. ينظر بقلق إلى الزوجة، وعينيه مليئتان بالتساؤلات).
الزوجة: (وهي تحاول تهدئته) لا يمكنك أن تفهم، أنت لا تعرف معنى المسؤولية. هذا ليس مجرد كرسي، إنه ما تبقى من كل شيء.
نافع: (بشراسة) المسؤولية؟! أنتم مسؤولون عن تعليمي هذا العذاب! أنتم المسؤولون عن زرع الخوف في نفسي! هذا الكرسي ليس إلا تذكارًا لخيباتي. أريد أن أعيش!
الزوجة: (بصوت مرتجف) لكنك لست وحيدًا هنا! أتعرف ماذا فعلنا من أجل أن نبقي هذا الكرسي معنا؟! أتعرف كم من التضحيات؟
نافع: (يزداد صراخه) أمي! أنا لا أريد تضحياتكِ. أريد حريتي. أريد أن أعيش، لا أن أعيش في ظل رجل مكسور! (يشير إلى الأب جالسًا على الكرسي المتحرك) أنظر إليه، لقد أصبح مجرد ذكرى!
(الزوجة تتجه نحوه، تحاول انتزاع الكرسي من يديه، لكن نافع يدفعها بعيدًا بعنف).
الزوجة: (تصرخ) لا تلمسه! هذا هو ما بقي له، لا تسرقه منه!
نافع: (غاضبًا) هو الذي سرقنا، وليس أنا! هو الذي جعلني أعيش في هذه الظلال القاتمة!
(الرجل على الكرسي المتحرك يحاول رفع يده نحو نافع، لكن جسده خائر تمامًا).
نافع: (بصوت مرتفع) لا يمكنني أن أعيش على أطلالكم، ولا على أطلال هذا الكرسي!
(يحاول أن يخرج مسرعًا بالكرسي، لكن الزوجة تقف في طريقه).
الزوجة: (بحزم) لا تخرج، نافع! هذا البيت ليس مكانًا لك إن كنتَ تريد أن تُفرغ قلبك من كل شيء.
نافع: (باستفزاز) وهل ستمنعيني؟!
(بينما يدفع الزوجة بعيدًا، يدخل الأب فجأة في مشهد مؤثر. يرفع رأسه ببطء، ويداه ترتجفان. لكنه لا يستطيع الكلام، إلا أن نظراته تعكس خيبة أمله).
(الزوجة تُسرع إلى الأب، تضع يديها على كتفيه، وتحاول تهدئته).
الزوجة: (بحزن) لا تدعه يخرج.
(لكن نافع يصرخ، ويهرع إلى الباب، يقف عنده لبرهة، ثم يلتفت مرة أخرى إلى والدته).
نافع: (بصوت يعلو) هذا البيت لا يحتمل المزيد من الخوف!
الزوجة: (بانهيار) ماذا تعني بهذا؟!
نافع: (غاضبًا) يعني أنني لن أعيش هنا بعد اليوم. سأخرج… إلى حيث يكون لي مكان آخر، بعيدًا عن الماضي هذا.
(يتحرك نحو الباب، بينما الزوجة تتابعه بنظراتها، محطمة تمامًا).
الزوجة: (وهي تهمس) نافع… ابني…
(نافع يخرج، يترك الباب مفتوحًا، بينما يظل الصوت في الخارج يردد: “أثاث قديم للبيع… عتيق للبيع…”).
(الزوجة تنهار على ركبتيها بجانب الأب، الذي ينظر إلى الباب المغلق بنظرات فارغة، متأملًا في ما تبقى من عائلته. الصمت يهيمن على المشهد، بينما صوت الرياح يختلط مع ندائها المتقطع: “أثاث قديم للبيع… عتيق للبيع…الغرفة التي اعتدنا عليها، لكن ملامحها اليوم تبدو وكأنها في انتظار التغيير. الضوء خافت، في الركن الجانبي من الغرفة، حيث لا يزال الرجل جالسًا على كرسيه المتحرك، فقد بدا أكثر ضعفًا ومرضًا مما سبق. الزوجة، جالسة بالقرب منه، تنظر إلى الأرض بصمت، كأنها تحمل همومًا كثيرة. الباب يُفتح فجأة، يدخل نافع محاطًا بحماية مشددة. يمسك بيده كرسيًا جديدًا، شبيهًا بالكرسي القديم، لكنه أكثر فخامة وعصرية. تطلع الزوجة إلى الكرسي بحيرة، وعينها تتنقل بين نافع ووالده. يخطو نافع بثقة، وكأن دخوله إلى الغرفة يحمل معه رياحًا من التغيير الحتمي.)
الزوجة: (تنظر إليه بدهشة،)ماذا تفعل هنا، نافع؟
نافع: (بصوت ثابت، يبتسم ابتسامة زائفة)أظنني قد جئت لأعيد الحياة إلى هذا المكان. (يشير إلى الكرسي الجديد) أليس هذا أفضل؟
(الرجل يحاول النهوض من كرسيه المتحرك، يبدو أنه يريد فعل شيء، ولكن فجأة يسقط أرضًا، فتسرع الزوجة نحوه محاولة مساعدته. بينما يظل نافع واقفًا مكانه، يشاهد المشهد ببرود).
الزوجة: (بقلق شديد، تجلس بجانب الرجل وتحاول مساعدته على النهوض)
لا تحاول النهوض… ستسقط مجددًا!
نافع: (ساخرًا، بنبرة هادئة)
إنه مثل هذا الكرسي، أليس كذلك؟ كلما حاول الوقوف، سقط…
(يقترب من الكرسي الجديد، ويبدأ بتعديله في مكانه، كأنما يُحاول أن يغير كل شيء).
الزوجة: (بغضب، ترفع رأسها نحو نافع)ألم تتعلم بعد أن لا شيء يمكن أن يعوض هذا الكرسي؟ هذا كان رمزنا، كان جزءًا من كل ما بنيناه. هل تعتقد أن المال أو الكراسي الفاخرة يمكن أن تعيد لنا ما فقدناه؟
نافع: (يتنهد بصوت عميق، ويجلس على حافة الكرسي الجديد)
الماضي ليس سوى سراب. لا شيء يعيد ما فقدنا. هذا الكرسي الجديد هو كل ما تبقى لي الآن. لا يجب أن نعيش في ظل الخيبات.
الزوجة: (تلتقط أنفاسها ببطء، وتحاول أن تتمالك نفسها)
أنت لا تفهم… هذا الكرسي كان أكثر من مجرد خشب! هذا كان رمزًا لكل شيء مررنا به، حتى للآلام التي عشناها.
(الرجل يُحاول رفع يده مجددًا، كما لو كان يريد أن يوقف الحديث أو يُوقف هذا الصراع الداخلي، لكن حركته بطيئة جدًا، وسرعان ما يتراجع إلى الخلف).
نافع: (بصوت حاد)لا وقت للحديث عن الرموز. والدي أصبح باردًا كما هذا الكرسي المهدم. أنتِ كذلك… لا يمكننا البقاء عالقين في الماضي، لا يمكننا إعادة عجلة الزمن.
الزوجة: (بغضب، تقف وتبتعد عن الرجل)وماذا عنك؟ هل أصبحت مثلهم؟ تخدعنا بالكراسي والمال؟
(نافع يبتسم ابتسامة قاسية، يخرج مبلغًا كبيرًا من المال من جيبه ويرميه أمامها على الأرض، بقوة، كأنه يصفعها بصوته الصامت).
نافع: (بصوت جاف، يبتعد عن المكان)
خذيه… هذا هو ثمن كل شيء. أما البقية، فهي مجرد أوهام.
(الزوجة تتسمر في مكانها، لا تستطيع تحريك يديها. هي في حالة من الذهول التام، عيونها مشدودة إلى المال على الأرض. تقترب منه ببطء، بينما يظل نافع يبتعد إلى الباب. مع كل خطوة له، يشعر بأنها تُحمل عبئًا لا يُطاق).
الزوجة: (همسًا لنفسها، بصوت غير مسموع)
هل أقبله؟ هل أُمسك به كما لو كان حلًّا؟ أم أنه ليس أكثر من قيد جديد؟ (تسحب نفسها ببطء نحو المال، ثم تتوقف) هل سيعني هذا أنني أصبحت مثلهم؟ أنني خنت كل شيء؟
(يُسمع صوت الباب يُغلق خلف نافع، وهو يترك الغرفة ويغادر المكان. في تلك اللحظة، تدخل لحظة من الصمت الرهيب. الزوجة، بعد أن بقيت وحدها، تتراجع عن المال قليلاً، ولكن عيناها تبقيان عليه، تتأملان، تتساءلان… هل سيتغير شيء إذا أخذته؟ أم أن كل شيء سيتلاشى مثلما حدث مع الكرسي تتراجع عن المال، وتبتعد عن الأرض، في حين أن صوت الرياح يُسمع في الخارج، وكأنها تدعوها لتذهب إلى مكان آخر).
الزوجة: (بصوت منخفض، تُكمل حديثها مع نفسها)
ليس المال هو الذي يعيدنا إلى الحياة، بل القيم التي تبنيناها… أو التي فقدناها.
(تظل في مكانها، عيونها تركز على الكرسي القديم الذي لا يزال جالسًا عليه الرجل، والشعور بالهزيمة والقلق يملأ الغرفةالتي تبدو وكأنها تُحاصر بتغيرات عميقة. الأثاث قليل، الضوء خافت، والصمت يملأ المكان. الرجل، كما هو، جالس على كرسيه المتحرك، عيناه مفتوحتان ببطء كما لو أنه ينتظر شيئًا. الزوجة، جالسة على طرف آخر من الغرفة، تتنقل بين التفكير والهمسات التي لا تنتهي. يبدو على ملامحها الإرهاق، وتوتر النفس. يُسمع صوت طرقات على الباب، متكررة ومتسارعة. تنظر الزوجة نحو الباب، يبدو عليها التردد، ثم تنهض بتثاقل.
الزوجة: (وهي تقترب من الباب، تتحدث مع نفسها)
ماذا الآن؟ هل هو نافع؟ هل عاد ليعطينا المزيد من الأوهام؟
(تفتح الباب ببطء، يدخل نافع حاملًا حقيبة غالية الثمن. يليه مجموعة من الرجال، يتنقلون بهدوء، يضعون الكراسي في كل ركن من أركان الغرفة، بعناية فائقّة، كما لو كانوا يرتبون لوحات فنية في صالة عرض. الكراسي مختلفة الأشكال والأحجام، بعضها عتيق وبعضها عصري، لكن لكل واحد منها صوته الخاص. تُشبع الغرفة بالهدوء المتوتر، والمشهد يبدو كالتمهيد لشيء غير متوقع).
الزوجة: (بتفاجؤ، تهمس) ما كل هذا؟ لماذا جلبت كل هذه الكراسي؟
نافع: (بابتسامة عريضة، يضع حقيبته على الطاولة، ويشير إلى الكراسي حوله)أردت أن أضفي بعض التغيير. الكراسي هذه ليست كغيرها، هي تُمثل كل شيء جديد. ستساعدنا في أن نرى الحياة من زاوية جديدة.
(يسكت للحظة، ينظر إلى الكراسي ثم إلى الزوجة التي تقف متجمدة، غير قادرة على الرد).
الزوجة: (بصوت مرتفع، يشوبه الانفعال)أنت لا تفهم! لم أعد أريد كل هذه الفخامة. أنا لم أعد بحاجة إلى الكراسي الجديدة أو المال، كل شيء أصبح فارغًا، متعبًا. (تقترب من الرجل الجالس على الكرسي المتحرك، وتمسك يده)نحن بحاجة إلى شيء آخر، ليس إلى كراسي ولا إلى هداياك التي لا تنتهي. نحن بحاجة إلى سلام، إلى هدوء!
(يظل نافع صامتًا، بينما يواصل الرجال وضع الكراسي في أماكن بعيدة، وهم يتحركون بسرعة وكأنهم في مهمة معينة. زوجة الرجل تتراجع إلى الوراء قليلاً، وتحاول فهم الموقف، قلبها يملؤه التناقض).
نافع: (يقترب من الزوجة، محاولًا تهدئتها)لكن الحياة لا تسير في اتجاه واحد. إن التغيير هو ما نحتاجه لكي نكون أقوياء. لا يجب أن ننتظر أن يعيد لنا الزمن ما فقدناه. هذا الكرسي، (يشير إلى الكرسي الذي يجلس عليه الرجل) لن يعود بنا إلى الماضي. لم يعد هذا هو الحل.
الزوجة: (غاضبة، ترفع صوتها)
هل تعتقد أن هذه الكراسي ستُعيد لنا الأب؟ هل تظن أنها ستمحو الألم الذي نحياه؟! (تلتفت إلى الرجل)
أنت لا تفهم… ماذا نريد نحن؟ هل نريد حقًا كل هذه العظمة التي لا تعني شيئًا؟
نافع: (بصوت هادئ، لكن مشبع بالقوة)نحن نريد الأمان. الأمان يأتي مع التغيير. إذا لم نكن نحن من نصنع التغيير، فسيحدث التغيير دون أن نعرف كيف نتعامل معه. (يبتسم ساخرا) إذا كان لديك رغبة في المضي للأمام، فعليك أن تتقبل التغيير، يا أمي.
(يسكت الجميع، وتظل الزوجة تحدق في الكراسي المنتشرة حولها، في حين أن الرجل لا يُظهر أي رد فعل على ما يحدث، وكأن قلبه قد فقد القدرة على العيش مع هذا التغيير).
الزوجة: (بصوت منخفض، أكثر هدوءًا)أنت لا تعرف، لا تعرف شيئًا عن المعاناة التي نعيشها. كل شيء هنا أصبح مجرد شيء فارغ. الكراسي، المال، كل شيء من حولنا، كل شيء يبدو وكأنه يدور في حلقة مغلقة، لا ينتهي ولا ينقض.
(الرجال يخرجون من الغرفة، يتركونها مليئة بالكراسي. نافع يلتفت إلى الزوجة، الذي يتحدث بعينين مليئتين بالحزن، قبل أن يلتفت إلى الكرسي القديم الذي كان الرجل يجلس عليه).
نافع: (بصوت شديد، متجهم الوجه)
لا تظني أنني أريد أن أبقى في مكانك، أن أعيش في الماضي، أن أكون عبئًا عليك. أنا قد قررت أن أسير في الطريق الذي يجعلني قويًا، الذي يجعلني قادرًا على مواجهة المستقبل.
الزوجة: (بصوت متعب، تهمس)
وماذا عن الماضي؟ ماذا عن كل شيء فعلناه معًا؟ هل سيبقى وراءنا مثل هذه الكراسي؟
نافع: (يبادر بالحديث، حانقًا)
الماضي أصبح شيئًا فارغًا. لو أردنا العيش فيه لظللتِ في تلك الغرفة المظلمة مع والدك. لكنني اخترت أن أعيش، أن أنمو، أن أكون شيئًا أكبر.
(يغادر نافع الغرفة، تاركًا الزوجة جالسة على الأرض، تتأمل الكراسي الجديدة التي لا تعرف كيف تعيش في ظلها. الرجل على الكرسي المتحرك لا يُظهر أي رد فعل، وكأن وجوده مجرد صدى في المكان. تُفتح الباب مرة أخرى، والزوجة تبقى وحيدة، تتأمل التغيير في حياتها وفي نفسها).
(تظل الستارة مفتوحة لان الفعل لم ينته بعد ولربما يعاد بشكل اشد قتامة ومع كراسي أخرى).
0 التعليقات:
إرسال تعليق