التجريب طبيعة فن المسرح وهو فن حيّ يفيض من عناصره والفرق المسرحية الكبيرة فقدت مصداقيتها لأنها تأثرت بالعولمة
مدونة مجلة الفنون المسرحية
التجريب طبيعة فن المسرح وهو فن حيّ يفيض من عناصره والفرق المسرحية الكبيرة فقدت مصداقيتها لأنها تأثرت بالعولمة
غروتوفسكي ومعمله والسؤال المحير:
لم يكن هذا المعمل بالمسرح الذي تعودنا أن نحدد ملامحه أياً كان اتجاهه ولكنه حسب تعريف المعلم غروتوفسكي لم يكن هذا المعمل إلا مختبراً في ما بعد المسرح، وهو شيء فريد في نوعه لغروتوفسكي ومعاونيه، ولا ينبغي أن ننظر اليه على أنه نموذج Model من الحرفية أو التقنية ولو أن كثيراً من المتشيعين يحبون أن يترجموا من خلاله أفكار غروتوفسكي تحقيقاً لأنشطتهم الفنية وهذه الأفكار تظل تحدياً.
وفي النظريات الحقيقية هذا التصور من جانب غروتوفسكي رغم وجاهته فإنه يتفق والنظريات التي سبقت أطروحتها المحافظة على سرية المسرح وأبعاده الخفية التي ترفض كل ما هو قديم ومعاد ومخزني النزعة عملاً بنظرية الإبداع وعمق أهدافها. فالمسرح الحقيقي هو ما يعرض أصلاً ولم يسبق له ظهور من أي شكل ومن أي نوع حتى أن استانسلافسكي رغم جهوده المضنية في صنع مناهجه أو نظامه عاد ليعلن „لا تقل منهجي منهجك، عليك أن تصنع بنفسك منهجك أو طريقتك”.
ومهما يكن من أمر غروتوفسكي فنحن نتفق معه في أفانين الإبداع المسرحي التي ينبغي أن تصل إلى صورها المبدعة دون تقليد أو تحريف وهذا هو المفيد في عالم المسرح، فغروتوفسكي قد وصل بنظريته إلى ما يشبه مجال الصوفية وأسانيدها على مستوى التفسير للعرض المسرحي، وخلاصة القول إن المحبين والمريدين أو المقلدين لم يستطيعوا تقليد أعمال غروتوفسكي في أحاسيسها الروحية التي تعلمها تلامذته على الرغم من قدرتهم تقليد معالمها الخارجية.
وعندما رحل غروتوفسكي إلى أميركا في جولات ما بعد معمله البولندي لم يستطع الوصول إلى نتائج مماثلة كتلك التي وصل اليها من قبل حتى مع اصطحاب بعض تلامذته في تلك الجولة.
غروتوفسكي بين الصواب والجنوح لدى محبيه:
في مسرحية „أبوكاليبسي Apocalypsis” التي استمرت تجاربه عليها أكثر من عشر سنوات بدأت كعمل مسرحي كلاسيكي ينفصل تماماً عن مجموعة مشاهديه التي بلغت أربعين مشاهداً يجلسون على أرائك خشبية بطول أحد الجدران المحيطة يشاهدون الممثلين وسط الغرفة. ويقول الممثل ريزارد جيسلاك Ryzahd Gieslak وأخيراً أزحنا الأرائك من الطريق مع زيادة عدد المشاهدين إلى 150 عضواً وجلسوا جميعهم على الأرض في شكل دائرة حولنا وكانوا أكثر حميمة الينا ثم غيّر الممثلون ملابس شخصياتهم إلى ملابس عادية وفي النهاية قاموا بتكسير طبقة المحارة السوداء لتظهر خلفه قوالب الطوب. وبهذا كما يقول الممثل تخلصنا من الغرفة السوداء الكئيبة. صحيح أن هذه التغيرات أعطتنا الفرصة أن ننظر اليها نظرة جديدة في سبيل خلق ردود فعل بين الممثلين والجمهور ولكن الشيء الأكثر أهمية كان الحالة التي تخلقها العلاقة بين الطرفين.
لاوتعليقنا على هذا ينبع من مشاهدتنا المتعددة للفرق الطليعية التي استقبلها مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي لأعوام عدة وأعمال لا ترتفع إلى مستوى الشعبية ولكنها تعمل بأسلوب شفاف منفرد في نزعته لأن غروتوفسكي في النهاية لم يكن مسرحاً يُقدم ولكنه كان يقدم معملاً بكل معانيه.
وعلى الرغم من محاولات فرقنا الجديدة لاكتشاف أبعاد تقنيات غروتوفسكي التي لم تأخذ حقها في إرساء أصولها، بسبب اهتمامه بشحذها وصقلها على الدوام، أقول إن محاولات الشباب لا شك مفيدة ومثمرة وما ينقصها هو غياب شخصية غروتوفسكي. وأضيف أن كل راغب في أعماله من حقه أن يجرب ومن حقه أن يبدع على هدي محرابه أو معمله وليس عليه أن يقول إنه صنع عملاً غروتوفسكي النزعة.
أنتونان أرتود Artuaud:
الحديث عن أرتود يصل الينا من ممارسة بروك التي دعم بها أعماله الثائرة في الستينيات ولا يزال يعتقد بعض النقاد أن آثار أرتود سوف تظل معيبة دائماً على زعم بعض النقاد.
ويهمنا في هذا المجال تتبع آثار الإثراء الذي انتقل إلى المسرح العربي والذي كان السبق فيها ناتجاً عن أعمال بروك فهو قد زار المسرح العربي في تونس في ستينيات القرن العشرين وامتدت آثار أعمال بروك إلى العالم العربي في وقت تواجد فيه نفر من أبناءمصر في أوروبا وانكلترا وكم سعدت بمشاهدة عروض بروك ابتداء من „لير Lear” إلى دي ـ صاد ويواس US حلم ليلة صيف. أعمال وظف فيها بروك تمرينات أرتود بمساعدة جيرزي غروتوفسكي، ونظراً لأن الأصوات والإيقاعات أساسية جداً لهذا الشكل من المسرح الأرتودي يكون سبر غور طاقتها وعلاقتها كوسيلة للتعبير هو نقطة انطلاق صالحة فالمخرج يستطيع أن يعطي للممثلين أشياء مختلفة ليحدثوا بها أصواتاً ـ عصياً وأحجاراً وعلباً من الصفيح وصناديق ـ ثم يقوم الممثلون بسبر غور المدى الكامل للصوت الصادر من الآلات ويخفتونها بحزاء الجسد ويعلقونها في الهواء وفي أوضاع مختلفة على الأرض ثم يستطيع المخرج أن يقدم إيقاعات منوعة إلى حدٍ كبير في سرعة الحركة وشدتها.
وهكذا تكون التجارب الأرتودية أكثر إقلالاً واستيعاباً للجمهور العربي الأمر الذي يوجب على الدارس الوعي بها.
منهج التغريب (Alienation Effect):
هي نظرية ترتبط باسم بريخت ومفادها إيجاد تأثير على تحويل أذهان المتفرجين بمسرحه حتى لا يتسرب الانفعال العاطفي بين الممثلين والجمهور ومسرح بريخت كما نعلم كان له ميل سياسي اجتماعي بصفة أساسية وهو مهيأ لتعليم المتفرجين وكان يروق للعقل أكثر مما كان يروق للعواطف.
ومسرح بريخت من المسارح شديدة الجذب للجمهور المصري والعربي فهو مسرح سياسي اجتماعي يمس حياة الكادحين والعاملين وما أكثرهم في مجتمعاتنا النامية وقد تأثر المسرح المصري والعربي في الثلاثين سنة الأخيرة بمسرح بريخت، كما كُتبت عشرات المسرحيات بالنظام البريختي واستقى الكتّاب مصادرها من سير شعبية وأساطير مصرية وعربية تنتسب لألف ليلة وليلة وأحداث التاريخ المصري والعربي ومن هؤلاء ألفريد فرج وسعدالله ونوس وعز الدين مدني وغيرهم.
جوليان بيك (Julian Bec):
وكان صاحب فرقة المسرح الحي في أميركا Living Theatre وقد وضعت الفرقة على مدى عمرها القصير بصمات حقيقة في حياة المسرح الطليعي المعاصر. فرقة تحدث المسرح الواقعي ومدارسه التقليدية. ومهما كانت اتجاهات المسرح الحي وما شابها من عنف وفوضى إلا أنها فتحت الطريق أمام الكثيرين بتأثيراتها التي ما زالت تظهر على المسرح هنا وهناك مع احتفاظها بنفس الأفكار التي تعتمد الصدام مع الجماهير.
زمن ما بعد الحداثة:
يرى الراحل العربي إدوارد سعيد أن ما بعد الحداثة يشكل نزعة أوروبية أساسية يبعد كل البعد عن انتماء عالمنا العربي له. ويرى إدوارد أن ما بعد الاستعمار Post Colonialism بكل سلبياته كان حجر الزاوية في استعادة كياننا السياسي القومي والمحلي في ما يلي:
1 ـ مناهضة الامبريالية.
2 ـ إعادة مفاهيم التاريخ والثقافة العربية التي انحرفت عن طريقها الصحيح.
3 ـ التعبير عن مطالب سياسية محلية وقومية.
4 ـ الاهتمام بالأوضاع المحلية والعربية والأحداث الطارئة.
5 ـ الاهتمام بوسائل التحرير المختلفة.
6 ـ مراعاة ظروف الطبقات الدنيا والفلاحين والعمال.
ويضيف إدوارد سعيد عن زمن ما بعد الاستعمار أن التركيز ينبغي أن تظهر بوادره في الأبحاث دائماً في النماذج ومهارات الممثلين والتقنيات الجديدة.
أما ما بعد الحداثة في الغرب فيجرنا إلى المخرجين والمهتمين بأسانيد السينوغرافيا باعتبار أن الإخراج المسرحي كانت له اليد الطولى في تطوير الحركة المسرحية المعاصرة.
وممن حملوا لواء ما بعد الحداثة في الغرب بيتر بروك الذي أفضنا في البحث عنه في هذا البحث. وبيتر هول في بريطانيا ورواد العبث في فرنسا وغروتوفكسي في بولندا وجوليان بيك وجوديث مالينا في أميركا وغيرهم.
ويقول إدوارد سعيد هناك صرح متين من واقع خبراتنا التاريخية في طرح الظاهرين الأساسيتين في الحركة الأدبية والفنية: الأولى: ما بعد الاستعمار (Post Colonialism) الثانية: ما بعد الحداثة (Post Modesnism).
ولقد أمعنت النظر في تأثير ظاهرة ما بعد الاستعمار وأيقنت ضرورة اعتبار الـ15 سنة الماضية تقريباً في عمر عروضنا المسرحية كان قد واكبها تغيير كبير ولكن: ما الذي تسبب في إحداث هذا التغيير؟؟
إنه العولمة (Globalization) مدفوعة بسقوط الاتحاد السوفياتي ومن ثم تغيّرت الأوضاع.
ومع هذه العولمة حدثت تغيرات جديدة سياسية واقتصادية هزّت أنحاء المنطقة العربية، وحدث تواصل بين مختلف البلاد بشكل لم تعد فيه للحدود سيطرتها التقليدية وظهرت قوة الاستعمار الجديدة متمثلة في منظومة الاستهلاك Consumarism حين تكشفت مواطن الاضطرار والضعف للمتعاملين مع نظامه على الرغم من أننا مختلفو النزعات حيال هذه الأسواق على مدى واسع في مواجهة المنتجات الأميركية والأوروبية وتأثيراتها الايديولوجية والثقافية.
وكان لكل هذا نتائجه المتعددة وهكذا بدأت عمليات النظام المسيطر في الذوق (مشاهدة تلفزيونية ـ شرب الكوكاكولا ـ ملابس الجينز) انتشار صور من ثقافتنا في إطار صور سياحية مثل (مزار رجب السياحي الفرعوني) بمعنى أننا أصبحنا أجانب تورد إلينا ثقافتنا، وأصبحنا الآن نصور لا كما ينبغي أن نكون ولكن كما نبدو في مناظر تسر العيون وتمتع القلوب.
ـ إن العولمة تسير بأسرع ما تكون اختصاراً للوقت عما كان قبل ذلك مع الخروج على ما هو متعارف عليه (شعبان عبد الرحيم يرقص ويغني في ملابس ومواقف مختلفة ـ الرئيس السادات شجع الاستهلاك وكان هذا سابقاً على عصره وقد انعكس هذا في مسرح القطاع الخاص).
لماذا كانت العولمة العربة التي حملت ما بعد الحداثة الى مسرحنا المصري؟
دعونا ننظر الى بعض السمات المتعارف عليها في زمن ما بعد الحداثة والتي أثّرت على فنون عروضنا المسرحية:
ـ استخدام التاريخ بصورة تافهة كتصوير أحد ملوك مصر في صورة هزلية.
ـ مصطلح باستيش Pastiche الفرنسي شيء جاد يتحوّل الى مثال To Pee ot Net Pee وليست جملة شكسبير الشهيرة لهاملت.
ـ مسرحية كوميدية عادية تتحوّل الى كوميديا سطحية.
ـ الاستهلاك مع استخدام صور واتجاهات من إعلانات (سينما ـ تلفزيون ـ فيديو كليب).
ـ التنوع والجديد في غاية الأهمية (تنافس الفرق في أسبقية العرض).
ـ التكسير The Deconstruction محاولات لاستكشاف الأصالة للنص والشخصيات… إلخ.
ولكن هذا يقود الى كتابة اسكتشات توضح شرائح من البشر وتعتمد على كوميديا شرسة من خلال طاقة الممثل.
ـ لم يعد هناك مجال يقال فيه إن هذه مسرحية مهمة مما كان يؤخذ عن رواة القصص Grand Narrative.
ـ ثقافات متعددة Multi Culturalism في شكل عناصر موسيقية ومرئية (مخدة الكحل).
ـ المسرحيات لا بد أن تتعامل مع الوقت الراهن (الآن) ونتيجة لهذا فهي في الغالب ساخرة Satirical سياسية اجتماعية جنسية (اللعب في الدماغ ـ اثنين تحت الأرض).
ـ تغيير كامل بالتكسير Nihilistic الابتعاد تماماً عن الماضي لأنها كما قلت ترفض الماضي وتتعامل مع الحاضر والسؤال لماذا كل هذه الزوابع؟
لا شك أن ما بعد الحداثة لها تأثيرات شديدة على كافة أوضاع المسرح عامة، إذ أن كل ما هو جديد مرغوب وجذاب وهو مطلوب أيضاً، والشباب لا شك معذور لأن المسرح العام والمسرح الخاص لا يعطي الصور الجديدة التي قد يحلم بها هؤلاء، وعلى صعيد آخر فإن حماس الشباب ومن يدفعونهم تحت ستار حقوقهم المشروعة واهمون فالمسرح أولاً وأخيراً فن مركب يفيض من كافة عناصره العاملة كبار وصغار على حد سواء، وبعبارة أخرى المسرح فن تواصل بين المبدعين والمستقبلين.
إن التجريب طبيعة فن المسرح وهو فن حي Live Art وأقولها بصراحة إن الفرق المسرحية الكبيرة فقدت مصداقيتها هي الأخرى لأنها تأثرت بالعولمة لأنها فقدت ثقتها بنفسها بما أدى الأمر الى انكماش فترات عروضها الى حد لم يسبق له مثيل، وما أصاب القطاع العام أصاب القطاع الخاص الى الحد الذي تضاءلت معه فترات عروضه.
إن الأمر بات مقلقاً للغاية وأصبح على المسرحيين أولاً وكل من يهمهم أمر المسرح إعادة النظر في خريطته وإعادة الأمور الى نصابها.
كلمة أخيرة:
أعود الى نظرية المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد الذي رأى أن ما بعد الحداثة تشكّل نزعة أوروبية أساسية تبعد كل البعد عن انتماء عالمنا العربي لها وأن ما بعد الاستعمار يعد بمثابة قفزة جريئة أمام العالم العربي ومبدعيه من مؤلفين ومخرجين وممثلين ويحدوني في هذا المجال أن أطرح مثالاً لإحدى أعمال بيتر فايس الألماني الذي قدم للعالم مجموعة مسرحيات كانت علامة شديدة التأثير في المسرح السياسي، ولعلي أتناول مسرحية غول لوزيتانيا التي تناولتها في المسرح المصري تحت اسم (الغول).
أولاً المسرحية مكتوبة بأسلوب المسرح السياسي الوثائقي Documentary Political Theatre والمسرحية كما كتبها فايس تمثل واقعاً تاريخياً مع انحياز الكاتب واستخدامه للنظام البرتغالي كمثال ولكنه يحاكم النظام الرأسمالي في المسرحية. والمسرح الوثائقي مسرح ملفات ورسائل وإحصاءات وتقارير مالية وصناعية ومحادثات وأحاديث وجرائد وأفلام وتسجيلات صوتية ومرئية ومن هنا جاءت التسمية بأنه مسرح تسجيلي.
عرض الغول نموذجاً للمسرح السياسي المصري:
أخرجت المسرحية بأسلوب المسرح الشامل لطبيعة النص الوثائقي الملحمي العبثي لمجتمع أنغولا. عرض تجلت فيه عبقرية ديكور الفنان سمير أحمد تضافراً مع السينوغرافيا والإخراج والتمثيل الذي أزاح من الطريق كافة الأدوات والزوائد المسرحية التي استغنيت عنها واستبدلتها بحركة الممثلين والتعبير بالجسد وشارك فيها الممثلون بالرقص والغناء والعزف والأداء لتفعيل الرسالة الأصلية للمسرح، وقد جاء عرض الغول نموذجاً لعرض سياسي مصري، نموذج قلده المخرجون المصريون والعرب حتى الآن.
0 التعليقات:
إرسال تعليق