مسرحية “أهريمان”.. جماليات الأسطورة بين حرية الحركة وغياب المعنى / صميم حسب الله
مدونة مجلة الفنون المسرحية
شكلت الأساطير القديمة والمعتقدات الدينية الراسخة في ذاكرة الشعوب رافداً مهماً في تيارات المسرح الأوروبي بدءاً من (أرتو) وليس انتهاء بتجارب (روبرت ويلسون وريتشارد فورمان) في مسرح مابعد الحداثة ، ولم يكن المسرح العراقي والعربي بمعزل عن ذلك فقد تنوعت التجارب المسرحية التي استقت من الأساطير مضامين نصية ارتبط حضورها مع شخصيات فاعلة على مستوى الأسطورة.
فضلا عن ظلالها الرمزية التي أفاد المسرحيون من إعادة انتاجها على خشبة المسرح بما ينسجم مع الرؤية الإخراجية المعاصرة لتلك الشخصيات، لاسيما شخصية (كلكامش) التي قدمت على خشبة المسرح مرات عدة كما في تجارب الاستاذ (سامي عبد الحميد) ، الأمر الذي كشف عن امتلاك تلك الشخصية وغيرها من الشخصيات ذات السمة الأسطورية ، القدرة على الانسجام مع الرؤية الاخراجية في أزمنة مختلفة ، كما ان تجارب (الرقص الدرامي) الذي تطورت عروضه على نحو واضح مع فرقة (مردوخ) العراقية ، أفادت هي الاخرى من مصادر أسطورية في عدد من عروضها ونماذجها ( نار من السماء ، و طائر الزو .. وغيرهما) الأمر الذي كشف عن قدرة المشتغلين بالمسرح على التعاطي مع المنجز الأسطوري والعمل على إعادة إنتاجه على خشبة المسرح على وفق فرضيات إخراجية مغايرة لما توافر عليها في الأسطورة ، كما في العرض الراقص (أهريمان) ، كيروكراف ( علي دعيم) تجسيد ( علي دعيم ، امين جبار ، عقيل سعدون، ضرغام عبد الهادي، محمود عاشور ، سهيل نجم، أحمد سعد، أنسام كريم، علي جبار، محمود رجب، أسل فلاح، اثير نجم، هنري كونوي، هشام جواد ، أيمن صباح، مسلم عقيل ، عمار حسون ) تصميم الإضاءة ( ناظم حسن) موسيقى ( ضرغام عبد الهادي) ، والتي قدمت على خشبة المسرح الوطني في بغداد مؤخراً .
مرجعيات الأسطورة والرؤية الإخراجية
في البدء علينا أن نحدد تعريف (الكيروكراف) الذي إخطاره (علي دعيم) لكي لا يكون بديلاً عن المخرج المسرحي ، إذ يعرّف (الكيروكراف) في المعجم المسرحي بوصفه ( مصطلح يعني اليوم فن تصميم الرقصات ، وتطلق تسمية كوريغراف choregraphe على مصمم الرقصات والمسؤول عن التنظيم العام للحركة في العرض، وهي تعني حرفياً فن تدوين حركات الرقص) ويدل ذلك على ان صانع العرض (علي دعيم) قد اختار مسمى الكيروكراف في الإشارة إلى الوظيفة التي تقع ضمن حدود اشتغاله ، الأمر الذي دفعنا إلى التساؤل التالي: (هل استطاعت الحركة لوحدها وبمعزل عن باقي عناصر العرض التعبير عن الفكرة التي تصدى لها فريق العرض؟) يبدو ذلك مستحيلاً ، ذلك أن (الكيروغراف) قد غادر وظيفته في التصميم الحركي واعتمد على وظيفة المخرج المسرحي في تأثيث فضاء العرض على المستوى البصري ، فضلا عن اختيار الازياء التي كانت تجرد الراقصين من هوياتهم التي اعتمدت الحركة فقط كاشفة عن شخصيات متعددة تمتلك كل منها خصوصيتها في الحياة الاجتماعية ، الأمر الذي بات معه العرض في حالة عاصفة من التقاطعات التي تكشفت عبر الحركة وجمالياتها/ والأزياء ودلالاتها ، بمعنى ان كل راقص قد تحول بفعل الزِي الذي يرتديه إلى شخصية تختلف عن غيرها من شخصيات العرض ، كما ان التقاطع كان حاضراً في الفعل الحركي الموحد الذي اعتمده الكيروغراف في تصميم الحركة ، والذي اسهم في غياب تام للسلوك الفردي الذي تحتكم عليه كل شخصية بمعزل عن غيرها ،لاسيما أن (الكيروغراف) كشف في بداية العرض عن شخصياته التي كانت تجوب فضاء صالة المتفرجين من اجل التأكيد على معنى مزدوج ارتبط الأول بالتأكيد على ان شخصيات العرض هي جزء من هذا المجتمع ومن البيئة ذاتها ، والمعنى الآخر يأتي من اجل تعريف المتلقي بوظيفة كل شخصية ، كما هو الحال مع شخصية (الصياد) وغيرها، ولا يقتصر الأمر على الشخصيات الراقصة بل يتعداه إلى الشخصيات الرئيسية وأعني (علي دعيم ، و أمين جبار) اللذين امتلكا قدرة ومهارة حركية عالية تكشف عن حجم الجهد الذي بذله كل منهما ، إلا ان اختيار (الكيروغراف) العمل على توحيد الشكل والحركة دفعنا إلى التساؤل مرة اخرى عن السبب الفكري والجمالي في اعتماد شخصيتين متشابهتين في السلوك والوظيفة داخل العرض، على الرغم من انتظار المتلقي لتلك اللحظة المفقودة في زمن العرض والمتمثلة بحدوث الصراع بينهما إلا انها ظلت لحظة من نسيج خيال المتلقي فحسب ولم تتحول إلى فعل تعبيري على خشبة المسرح، على الرغم من ان فرضية الصراع تلك تتكئ على معطيات توافرت في عنوان العرض الذي ألقى بظلاله الأسطورية على المتلقي ودفعه إلى التساؤل عن معنى (أهريمان) الذي بدا مجهولاً للوهلة الأولى، إلا ان حضور ( GOOGL ) للمساعدة كانت كافية في الكشف عن معنى (أهريمان) الذي يعرّف: ( في ديانة زورووأستر إله الشر وهو في حرب دائمة مع إله الخير المسمى أموزد وسينتهي الأمر بهزيمته وغلبة الخير المحض على العالم فلا يكون للشر وجود) ، وفي موضع آخر يعرّف ( أهريمان) على انه (الشيطان أو روح الشر في الديانة الزرادشتية) ، وقد استطاع (علي دعيم) توظيف هذه الشخصية الأسطورية وتحويلها من المتن الإلهي الغيبي إلى الوجود المادي الحاضر الذي ارتبط بالجماعات الإجرامية المتطرفة التي تعتمد الشر سلوكاً والقتل منهجاً من اجل تحقيق مصالحها، إلا ان ذلك لم يعف العرض من الوقوع في شرك المغالطات الفكرية التي هيمنت على جماليات الحركة والتشكيلات البصرية التي توزعت على مستويات عدة ، احدها ارتبط بالشكل الأيقوني الثابت الذي تضمن وجود شخصيات اعتمد الكيروغراف على الوعي الجمعي في التعرف عليها عن طريق الأزياء وغطاء الوجه والألوان السوداء في إشارة إلى تلك الجماعات الطفيلية التي تعتاش على القتل ، الأمر الذي بدا فيه المسرح منقسم إلى مستويات ثلاث ارتبط احدها وهو في عمق المسرح على وجود تلك الجماعات التي اعتادت التواجد في الظلمة كما هي الخفافيش، والمستوى الثاني في وسط المسرح يكشف عن وجود شخصيات المجتمع المتنوعة (عن طريق الأزياء) ، والمستوى الثالث يتمثل في مقدمة المسرح وفيه (اهريمان المزدوج)، الأمر الذي منح المتلقي قراءة متعددة للعرض (الكيروغرافي) ، لاسيما مايتعلق بفكرة سيطرة (أهريمان) على أفراد المجتمع ، وهو الموضع الوحيد الذي بدا منسجماً في توحيد الحركة بين جميع الشخصيات ، في إحالة واضحة إلى تحويل الجميع إلى ضحايا (سبايكر) المغفور لهم ، ذلك ان (الكيروغراف) أفاد من المادة التلفزيونية الموجعة التي تعرض الضحايا ضمن نسق حركية بدا معروفاً عند المتلقي العراقي ، ولم يقتصر الانسجام على هذه اللحظة فحسب بل تعداه إلى منطقة المستوى الاول المتمثل بوجود إيقونات التكفير ومجرميه، إذ كشف التشكيل البصري الذي اعتمده (الكيروغراف ) عن معنى دلالي متقاطع يتمثل قسم منه في وجود اللون الابيض في موضع يكتنفه السواد ، ومن جهة اخرى فإن المعنى الدلالي يحيل إلى براءة الشهداء وما الأبيض إلا إشارة إلى براءة أرواحهم الطاهرة ، الامر الذي يترك المتلقي في حيرة من الاشتغال القصدي الذي اعتمده (علي دعيم) في توصيف المشهد ، وفي ختام العرض كشف (الكيروغراف) عن حاضنة الإرهاب الحقيقية مستفيداً من العلامة التكنولوجية المعروفة (APPLE) والتي تأتي تعبيرا عن الهيمنة الأميركية وقدرتها المستمرة في صناعة الفوضى والدمار في بلاد لايدرك رجال السياسة فيها ان الصراع على السلطة لاينقذ المجتمع من الخراب ، وعلى الرغم من أهمية الفكرة إلا انها بدت خجولة في نهاية العرض كأنما الكيروغراف تنبه إلى ضرورة وجود طرف آخر لمعادلة الموت ، بعد ان كشف العرض عن صورة أحادية لصانعي الموت في بلادنا.
علاقة جمالية بين الظل والضوء والموسيقى
كشف العرض المسرحي الكيروغرافي عن عدم قدرته على التعاطي مع المعنى بمعزل عن عناصر العرض المسرحي ، الأمر الذي بدا فيه التوظيف الجمالي واضحاً على الاشتغال الضوئي ، لاسيما مايتعلق بمشاهد الظلال المتمثلة في المنطقة التي تضمن مجرمي الليل ، فضلا عن عدم اعتماد المصمم على الحركة المتشعبة في التنقلات الضوئية بل كانت منسجمة على نحو كبير مع منطلقات الحركة الجسدية، كما ان اعتماد الكيروكراف على توظيف مشاهد خيال الظل أسهمت في خلق تكوين بصري جمالي لاسيما مشهد السلالم ، التي امتلكت دلالات فكرية مغايرة لجماليتها ذلك انها تقع ضمن المستوى الاول في العرض والمرتبط بالجماعات التكفيرية التي يسعى العرض إلى كشف جرائمها والإطاحة بها بينما جاء المعنى الذي أنتجه الشكل البصري مغايراً لأنه جعلها ترتفع عالياً فوق مستوى الجرائم التي ارتكبتها بحق المجتمع والإنسانية ، من جهة اخرى فإن اختيار الموسيقى كان موفقاً ومنسجماً في كثير من المواضع باستثناء بعض المواضع التي كانت فيها الموسيقى اكثر فاعلية من الفعل الحركي لاسيما مايتعلق باللحظات الموسيقية التي تكشف عن وجود حالة ترقب على خشبة المسرح إلا انها ظلت بمعزل عن معادلها البصري / الحركي على خشبة المسرح ، فضلا عن ذلك فان عدم التحكم بمستوى الصوت سبب ارباكاً سمعياً عند المتلقي في بعض المواضع ، كما ان توظيف المؤثرات السمعية لاسيما الصرخات التي تخرج عن الراقصين كان لها أثر فاعل في إغناء الفعل الدرامي ، إلا انها ظلت خجولة ، كان بإمكان الكيروغراف تفعيلها وخلق تنويعات متعددة منها ذلك ان صرخات الضحايا تختلف عن صرخات قاتليهم من مجرمي التكفير والتطرف، وهي مغايرة ايضاً لتلك التي يطلقها (أهريمان المزدوج).
0 التعليقات:
إرسال تعليق