'لا مخرج' عرض مسرحي سوري يطرح أسئلة دون إجابات
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
وسيم السلطي - العرب
ترى كيف سيكون الوجود، لو ساءلنا هذا الوجود، وناقشناه في علاقته بالآخر، وعرّى هذا الآخر بدوره حقيقة هذه العلاقة أمام الجميع، ولكن ليس في العالم الأرضي، وإنما في مكان آخر يدعى الجحيم؟ هذا السؤال يطرحه العرض المسرحي السوري “لا مخرج.. الأبواب الموصدة” المقتبس عن نص للفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر، وقد أعدّه وأخرجه علاء الدين العالم، وهو شاب مسرحي سوري واعد.
على بطاقة العرض المسرحي السوري “لا مخرج.. الأبواب الموصدة”، الذي عرض مؤخرا بدمشق، والمقتبس عن نص للفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر، كتب حوار مقتضب هذا نصه:
غارسان: بالتأكيد لم أكن أتوقع هذا، أنت تعلم ما يخبروننا به في الأسفل.
الخادم: يخبرونكم عن ماذا؟
غارسان: عن هذا المكان.
الخادم: حقا، سيدي كيف يمكن أن تصدق مثل هذه الترهات؟ ويخبرك بها أناس لم تطأ أقدامهم هذا المكان من قبل.
غارسان: تماما. (يضحك الاثنان).
الحوار وباقي فصول المسرحية من إعداد وإخراج المسرحي السوري علاء الدين العالم في تجربته الأولى، وأدّى الأدوار الأربعة في المسرحية كل من جان دحدوح، كندة حميدان، لمى بدور ومعن حمزة.
العرض قُدم في مكان بديل، واختير له قبو بيت يهودي قديم يعود تاريخ إنشائه إلى أكثر من 500 عام، حيث جدران القبو مرصعة بالأحجار الضخمة والبارزة، وقد استخدم فيه ضمن ديكور فضاء العرض أثاث من الطراز الدمشقي القديم، عوضا عن الطراز الإمبراطوري الفخم.
لم يُقدم العرض باللغة الفصحى، بل بالعامية السورية، والبيئة السورية لم تشمل اللغة فقط، بل العرض أيضا، إذ تم إعداد النص وتبيئته ليكون عرضا سوريا، وشخوص المسرحية “الخادم، غارسان، إستيل وإنيز” أضحوا في العرض “الخادم، سامر، رند ونورا”.
يبدأ العرض بدخول الخادم (معن حمزة) بلباس سوري قديم (بدلة سفري)، فاتحا باب الجحيم -الذي جُعل هو الآخر حجرا من روح الجدران- مصطحبا معه سامر (جان دحدوح) الصحفي الذي أعدم بالرصاص أثناء محاولته الخروج من سوريا، تعبيرا عن رفضه لما يجري في وطنه، وعجزه في نفس الوقت عن التعبير عن موقفه بحرية وهو في الداخل.
بعد تفقد سامر للمكان وطرح أسئلته على الخادم الذي ذهب دون أن يجيب بشكل شاف عن تلك الأسئلة، والتي استقبلها بمزيج من الجدية والسخرية، وغالبا ما يرفق إجاباته بضحكته الخاصة، يُفتح الباب مرة أخرى لتدخل منه رند (كندة حميدان)، التي ماتت جرّاء خنقها بالغاز من قبل عشيقتها سلمى.
رند قدمت لأول مرة في المسرح السوري قضية “المثلية الجنسية” بهذه الجدية، فلم يتمّ تناولها كما جرت العادة بشكل هزلي رديء ودون إلقاء الضوء عليها بشكل مباشر، وإنما بشكل يعبر عن الحريات الشخصية وخيارات الإنسان، التي تقابل عادة بالرفض من الآخر، بسبب عدم قدرته على تحمل تلك الحرية إذا ما تمّ الإفصاح عنها.
العرض لا يقدم إجابة محددة لما يطرحه من إثارة للتساؤلات، حتى تبقى الأسئلة وأجوبتها طليقة ومتفاوتة بين الحضور
الشخصية الأخيرة التي تدخل الجحيم نورا (لمى بدور) وقد حملها إلى هذا المكان التهاب الكبد، فتاة حسناء كلفتها الرغبة والمتعة قتل ابنتها الصغيرة وانتحار عشيقها لأجلها، ورغم وجودها في الجحيم لم يجعلها ذلك تتخلى عن فكرة أنها جميلة وبأن الجميع في الأسفل كانوا يرغبون فيها.
لم تتوان نورا عن إغواء سامر الذي بقي غير مهتم بها في البداية، لتجد رند عدم الاهتمام هذا هو سبيلها لاعتراض تلك الغواية، وسبيلها لتعبّر عن مدى اهتمامها بوجود نورا وجمالها.
أمام هذه الشخصيات وسلوكاتها وخياراتها المتعارضة، وصراعاتها الداخلية التي يتمّ التعبير عنها بعد مرور فترة حوارات التعارف والمحاولات البائسة في الإحجام عن الكلام، حيث تدور جولات يعبر كل منهم عمّا يدور في باله من أفكار تشغله في مثل هذا المكان، ليحتدم النقاش بينهم، في محاولة كل منهم الدفاع عن وجهة نظره وإثبات صحتها وأحقيتها بالنسبة إلى الآخر.
سامر لم يتوان عن القول بأن ما قام به ليس هروبا أو جبنا، وإنما صدر أو أراد له أن يصدر عن موقف رجولي وكانت كلفته حياته بأكملها، بل يصل به الحد في إصراره على إقناع رند بأن رفض الخروج من الجحيم بعد أن يُفتح بابه فجأة، إثر الصراخ والمطالبة بفتحه، ليصل في النهاية إلى مقولة “الجحيم هو الآخرون”. وهو ما كانت رند قد أجابت به عند تساؤلها عن غياب المعذب الذي يوجد عادة في مثل هذا المكان، وأجابت بأن كل واحد منهم هو المعذب للآخر. ونورا في تلك الأثناء كانت تحوم بين حوارات سامر ورند في الابتعاد عن رند ومحاولات إغواء سامر، وانتهى بها الأمر إلى قتل رند للحصول على سامر.
رغم الإعداد الجيّد النص ومغامرة تبيئته، إلاّ أن مقولاته بقيت ذاتها، فالأفكار التي يطرحها سارتر لا تخص إنسانا أو مجتمعا محددين، بل هي وجودية وتشمل وجود كل إنسان أينما وجد، وهذا ما ساعد في تأديتها والتعبير عنها في العرض.
تعتبر العامية والشخصيات السورية في المسرحية الممر لطرح تلك الأفكار، فما قدمه العرض -المثلية الجنسية مثلا- لا يخص فرنسا فقط، وكما حُملت مسألة الخيارات وأخذ القرار في العرض على المواقف الشخصية واتخاذ قرارات السفر في سوريا حاليا، ومناقشة الأسباب، والمقارنة بين من بقي في سوريا وما الذي يقوم به، وبين من قرر الرحيل ومصيره.
تخللت العرض أحيانا فترات صمت خانت بعض الممثلين، وطالت بهم أكثر من وقتها المحدد، لا سيما وأن الجمهور في هذا المكان قريب من فضاء العرض، لذا فهو متابع قريب من الممثلين، وتأخذه مباشرة أي ملاحظة تلفت انتباهه.
من المؤكد أن العرض لا يريد إجابة محددة لما يطرحه من إثارة للتساؤلات أمام الجمهور، وخاصة بعد تعرضه لأفكار فلسفية، وقضايا وجودية تخص إرادته وقراره ورغبته في هذا الوقت، والتساؤل عمّا يمتلك من السائد حوله، في وقت حُركت فيه أركان السائد، وهل يمتلك القدرة على الصمود أمام حرية مطلقة يتعامل بها الآخر معه؟ وتبقى الأسئلة وأجوبتها طليقة ومتفاوتة بين الحضور.
0 التعليقات:
إرسال تعليق