المسرح الكردي ،ولادة في تابوت
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
حين يتم تشريد الأمكنة ويتحول اللامكان: البراري، الساحات المهجورة، باحات البيوت في الأحياء الشعبية المقذوفة بعيداً عن مراكز المدن، حاضنة لنشاطات الإنسان الابداعية، قسراً لا خياراً، تصبح ممارسة الفن مغامرة سياسية لا فنية، وأمنية لا فكرية، ويحل القلق بكل ما له من قوة تدميرية لروح الابداع والتواصل محل شحنة الابداع والتواصل التي تحدث عنها ستانسلافسكي، واقع حال عاشه الفن الكردي وأهله زمناً مازال يصر على الاستمرار، ورغم ذلك استطاعت الفرق الكردية الفلكلورية أن تروي بعضاً من ظمأ المتلقي الكردي في عروض مسرحية تتحدث بلغته وتعالج قضاياه وهمومه وطموحاته.
في نهاية العقد السابع من القرن الفائت، وفي فورة فنية غير مسبوقة، ظهرت مجموعة من الفرق الفلكلورية الكردية السورية، وقدمت رقصات وأغان ولوحات شعبية ممسرحة مستوحاة من التراث الكردي، في محاولة للتعبير عن ذات الكردي وعن هويته الثقافية المغيبة والمهمشة، وذلك برعاية من تنظيمات كردية لدعم نشاطاتها السياسية.
غير أن هذا الجهد الكبير الذي بذلته الفرق على مدى ربع قرن من الزمن، متجاوزة ومتحدية كل المعوقات والمحبطات والمصاعب، الأمنية والمعيشية، لم يقابلها حصاد فني صالح للاستهلاك أو التصدير، وذلك بسبب المناخ السياسي الخانق وانغلاق التجربة المسرحية الكردية على نفسها. .
لا شك أن للعرض المسرحي أسبقيته في الوجود على النص، فهو الذي يمنح العمل صفته المسرحية، غير أن ذلك لا يعني يحال من الأحوال تهميش عنصر النص، أو قتل صاحبه، أو نفيه خارج محراب المسرح، فحضور الكلمة ليس وسيلة للتواصل أو أداة الحوار الرئيسة وحسب، بل ضمانة أكيدة لعدم جنوح العمل نحو تهويمات وشكليات تضحي بالبعد الفكري وربما الدرامي للعمل المسرحي، وخاصة في بيئة حديثة العهد بهذا الفن، فخوض تجارب من هذا القبيل يحتاج أول ما يحتاج إلى خبرة وتراكم في التجربة المسرحية، ليس لدى صناع العرض المسرحي فحسب، بل ولدى المتلقي والجمهور المسرحي عامة، وهو ما تفتقده التجربة المسرحية الكردية التي ألجأها خلو جعبتها المسرحية من نصوص كردية أو معنية بالهم الكردي، وجمهور عاطفي خام إلى مسرحة حكاية كاوا الحداد الأسطورية وتقديمها كلازمة في كل نوروز، اليوم الذي يتطهر الكردي فيه من انفعالاته المتراكمة على مدى سنة وهو يشاهد ما اختزنته روحه من توق وقهر ومعاناة مجسداً أمامه على مسرح بلا جدران ولا خشبة: بساط يحتل مساحة صغيرة من المكان، أو ألواح خشبية مرصوفة على مرتفع، ينتصب فوقها ممثل أمام جمهور عريض، متشوق ومتلهف، يوم تكثر فيه العروض المسرحية بما يشبه المهرجان: عروض متحررة من أسر العلبة الإيطالية، بدفع اجباري لا دافع تجريبي، فكان من الطبيعي أن لا يقتصر تقديم العروض على يوم نوروز المصادف 21 آذار من كل سنة، فظهرت الحاجة إلى مسرح جوال يجوب المناطق الكردية من عفرين حتى ديريك في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، وهي حركة تحتاج إلى نصوص تعالج قضايا قريبة من الهم الكردي. وبسبب خلو اللوحة الثقافية الكردية من حقل المسرح بالذات، عدا مسرحية يتيمة كتبها الأمير جلادت بدرخان في خمسينيات القرن الفائت، ولم تر النور، وبسبب ندرة النصوص المسرحية العربية التي تتناول الكردي، شخصيات وقضية وحتى مجرد ذكر عابر، وللتعويض عن هذا الفراغ الأدبي المسرحي؛ سعت الفرق المسرحية منذ البداية إلى عملية الإعداد عن حكايات شعبية وأحداث تاريخية كردية، تجلى ذلك أكثر ما تجلى في تجربة كل من فرقة خلات وميديا و حلبجة وفرق فلكلورية أخرى متفرقة، إضافة إلى اعتمادها بشكل أساسي على النصوص المسرحية العربية والعالمية التي تعالج هموماً وقضايا تلامس من جانب ما معاناة الجمهور الكردي وهمومه، من اضطهاد وتهميش وخيانة وتفرقة وتخلف وضياع هوية.
ففرقة خلات التي تأسست في نوروز سنة 1978 وقدمت العديد من الفقرات الفنية الفلكلورية في قامشلي وخارجها مثل مهرجان بصرى سنة 1980، قدمت باللغة الكردية العديد من العروض المسرحية القصيرة والطويلة، الموجهة للكبار وللأطفال، مثل مسرحية الجرح الأسود ليوسف العاني(1987)، والبئر المهجورة لفرحان بلبل(1990) وإطلاق الرصاص من الخلف لوليد إخلاصي(1992). وموت الحجل لأحمد اسماعيل اسماعيل (1995) وأنا أمك يا شاكر ليوسف العاني.
ومسرحيات أخرى للكبار والصغار مثل مسرحية جبل البنفسج للكاتب نور الدين الهاشمي وأحلام الحمار الكسول لأحمد اسماعيل اسماعيل.
ولفرقة ميديا التي تأسست سنة 1989 تجربتها في مجال المسرح التي قدمت بدورها عروضاً مسرحية باللغة الكردية لاقت حينها صدى طيباً مثل مسرحية وحش طوروس للكاتب التركي الساخر عزيز نسين (1992 (و مسرحية من هناك لوليم سارويان (1995) ومسرحية النقيب كوبينك لكارل توكسماير (1996) ومسرحية عندما يغني شمدينو لأحمد اسماعيل اسماعيل (1999) ومسرحية المتقاعد لجواد فهمي باشكوت والفيل يا ملك الزمان لسعد الله ونوس ومسرحية هيكابي ليوربيدس ومسرحيات أخرى.
وبالمثل يمكننا أن نتحدث عن تجارب مسرحية لفرق كردية أخرى مثل فرقة خاني وفرقة نارين وفرقة فولكان.. وهي تجارب تكاد أن تكون متقاربة من ناحية تعاملها مع النص المختار وأسلوب إعداده، ومتفاوتة من ناحية طريقة التجسيد على مسرح بلا مكان مسرحي، وهو أمر مرهون برمته بالظرف المعيشي الصعب للكوادر والمناخ الأمني ودرجة شدته والاستثمار الآني والدعائي الذي تمارسه التنظيمات الكردية الراعية لهذه الفرق، مما انعكس سلباً على طبيعة هذا المنتوج الابداعي، فلم يستطع الفنان الكردي حتى اليوم إضفاء أية خصوصية على ما يقدمه من عروض، على مستوى النص أو شكل العرض، وبدل استثمار معاناته والنفي الذي تعرض له مسرحه وعروضه إلى أماكن قصية عن مركز المدينة وخارج الأطر الرسمية والمراكز الثقافية وعلبها الايطالية في صياغة الأسلوب والشكل الفني المختلف والجديد، كفّ الفنان الكردي عن مواصلة نشاطه في تقديم العروض المسرحية رغم تواضعها، وأصبح همه الحصول على أبسط شروط العيش الكريم والقليل من الأمان والسلامة.
إذا كانت سياط أجهزة السلطة قد فعلت فعلها المؤثر في المسرح الكردي، وأوقفت فورة نموه، فإن المتلقي المسرحي، سيد الظاهرة المسرحية، والشريك الأساسي لصناع العرض، والذي كان على الدوام وفياً في متابعته لعروض الفرق رغم المخاطر الأمنية التي كانت تصل إلى حد اعتقال المتفرجين أيضاً. وعلى عكس غيره من جمهور المسرح في أماكن أخرى وأزمان بعيدة وقريبة، لم يعبر هذا الشريك عن عدم رضاه بالغضب، أو بإطلاق الصفير استهجاناً، أو مغادرة المكان تذمراً، بل كان على الدوام متسامحاً ومشجعاً، وذلك بروح حية ومتدفقة ستكفل عودة المسرح بفاعلية أكثر ومستوى أفضل، ولكن بعد أن تكنس هذه الرياح الركام من الشوارع ويطلق الربيع الناهض أجنحة الخيال في فضاء سماؤها زرقاء وعالية.
أحمد اسماعيل اسماعيل - شانوكار
0 التعليقات:
إرسال تعليق