سيميائية الصـــورة المسرحيـــة / د. جميل حمداوي
مجلة الفنون المسرحية
تتطلب المقاربة السيميوطيقية في التعامل مع العرض المسرحي والدرامي أثناء عمليتي : التفكيك والتركيب البنيويين الانطلاق من مجموعة من النصوص المتداخلة والمتراكبة داخل العرض الميزانسيني، والتي يمكن حصرها في نص المؤلف، ونص الممثل، ونص المخرج، ونص السينوغراف، ونص الراصد. ومن ثم، يصعب الإحاطة سيميائيا بكل تلك النصوص الشائكة والمعقدة. كما يعد المسرح في تركيبته البنائية والجمالية فنا شاملا وأب الفنون . وبالتالي، فهذا يتطلب من السيميوطيقي الإلمام بمجموعة من العلوم والمعارف والفنون والصور، وذلك للاستهداء بها أثناء عملية التشريح والتحليل، كمعرفة تقنيات السينما والموسيقى والأدب والتشكيل والرقص والنحت، والإلمام أيضا بتقنيات الإضاءة والسينوغرافيا ودراسة المنظور…ولكن نحن في عملنا هذا سوف نركز فقط على مقاربة الصورة المسرحية أو ما يسمى
أيضا بالصورة الدرامية ، وذلك من خلال التركيز على العرض الميزانسيني المرئي أو الفرجة الركحية البصرية الحية النابضة بالحركة. ومن المعروف أيضا أن المسرح على مستوى الخطاب يجمع بين خاصيتين: الخاصية اللفظية التي تحيلنا على لسانيات المنطوق، والخاصية غير اللفظية التي تحيلنا على السيميائيات البصرية. كما تحضر في المسرح جميع العلامات الإجرائية المعروفة لدى اللسانيين والسيميائيين من إشارة ورمز وأيقون وإماءة ومخطط ومجسم واستعارة وعلامة ومجاورة ومجاز…
إذاً، ماهي أهم الدراسات السيميائية التي تعرضت للمسرح بصفة عامة والصورة المسرحية بصفة خاصة؟ وماهي المكونات السيميائية للصورة المسرحية على مستوى البنية والدلالة والوظيفة؟ هذا ما سنتناوله في هذه الدراسة التي بين أيديكم.
الصورة في مفهومها العام تمثيل للواقع المرئي ذهنيا أو بصريا، أو إدراك مباشر للعالم الخارجي الموضوعي تجسيدا وحسا ورؤية . ويتسم هذا التمثيل من جهة بالتكثيف والاختزال والاختصار والتصغير والتخييل والتحويل ، ويتميز من جهة أخرى بالتضخيم والتهويل والتكبير والمبالغة. ومن ثم، تكون علاقة الصورة بالواقع التمثيلي علاقة محاكاة مباشرة، أو علاقة انعكاس جدلي، أو علاقة تماثل، أو علاقة مفارقة صارخة. وتكون الصورة تارة صورة لغوية وتارة أخرى صورة مرئية بصرية. وبتعبير آخر، تكون الصورة لفظية ولغوية وحوارية، كما تكون صورة بصرية غير لفظية. وللصورة أهمية كبيرة في نقل العالم الموضوعي بشكل كلي اختصارا وإيجازا، وتكثيفه في عدد قليل من الوحدات البصرية. وقد صدق الحكيم الصيني كونفشيوس الذي قال:”الصورة خير من ألف كلمة”.
هذا، وتتألف الصورة عند فرديناند دوسوسير من الدال والمدلول والمرجع، لكن دوسوسير يستبعد المرجع، ويكتفي بالصورة السمعية(الدال) والصورة المفهومية(المدلول). وبتداخلهما بشكل اعتباطي واتفاقي يتشكل ما يسمى بالصورة أو العلامة بالمفهوم اللساني أو السيميائي.
أما المقصود بالصورة المسرحية ، فهي تلك الصورة المشهدية المرئية التي يتخيلها المشاهد والراصد ذهنا وحسا وشعورا وحركة. وغالبا ما تكون هذه الصورة ركحية وميزانسينية تتكون من مجموعة من الصور البصرية التخييلية المجسمة وغير المجسمة فوق خشبة الركح. وتتكون هذه الصورة الميزانسينية من الصورة اللغوية ، وصورة الممثل، والصورة الكوريغرافية، والصورة الأيقونية، والصورة الحركية، والصورة الضوئية، والصورة السينوغرافية، والصورة التشكيلية والصورة اللونية، والصورة الفضائية، والصورة الموسيقية أو الإيقاعية، والصورة الرصدية.
ومن هنا، فإن ” الصورة المسرحية ليست هي الشكل البصري فقط، بل هي العلاقات البصرية والحوارية البصرية؛ العلاقات البصرية فيما بين مكونات العمل أو العرض الفني المسرحي ذاته، والحوارية البصرية بين هذه المكونات والممثلين والمتفرجين.”
زد على ذلك، فالصورة المسرحية هي تقليص لصورة الواقع على مستوى الحجم والمساحة واللون والزاوية. ويعني هذا أن المسرح صورة مصغرة للواقع أوالحياة، وتتداخل في هذه الصورة المكونات الصوتية/ السمعية والمكونات البصرية غير اللفظية.
ومن المعلوم أن تاديوز كاوزان قد أثبت أن هناك ثلاثة عشر أنواع من الأنساق تعمل في العرض المسرحي: كلام- نغم- تعبير- وجه- إيماءة- حركة- ماكياج- تسريحة شعر- لوازم- ملابس- ديكور- إضاءة- موسيقى- مؤثرات صوتية، إلا أنه وجد أن العلامات البصرية تشكل نسبة كبيرة بالمقارنة مع العلامات اللسانية واللغوية واللفظية. وللتوضيح أكثر، فالعلامات البصرية تحتل تسعة أنساق من أصل ثلاثة عشر، وتحتل العلامات السمعية ثلاثة أنساق، فيما عدا الكلام يشكل نسبة 1/13، وهو كل ما يقال في العرض من حوار ومونولوج وتعليق… وهي نسبة قليلة بين أنساق العرض…
يعتمد المنهج السيميائي على دراسة شكل الخطاب تفكيكا وبناء ، وذلك من خلال تحيين العمل الأدبي وصفيا ، وتحييثه بنيويا كنسق من العلاقات الداخلية ، ودراسته سانكرونيا قصد تحديد بناه الداخلية. ومن هنا، يتعامل هذا المنهج مع الخطاب الدرامي أو العرض السينوغرافي بنيويا من خلال المستويات الفونولوجية والمورفولوجية والدلالية والتركيبية والتداولية والبصرية، وذلك قصد الوصول إلى البنية العميقة التي تتحكم في إنتاج النص الدرامي أو توليد العرض المسرحي، أو البحث عن كيفية انبثاق المعنى والدلالة ، ورصد علاقة الدال بالمدلول، ودراسة أنظمة التواصل داخل العمل الدرامي، وتبيان القواعد البنيوية المجردة التي تتحكم في الفرجة المسرحية .
كما يتسلح هذا المنهج بمجموعة من الآليات السوسيرية والمفاهيم البيرسية والمصطلحات التي وضعها رولان بارت وكريماس وجوزيف كورتيس وأمبرطو إيكو وآخرين، كالعلامة ، والنسق ، والشفرة، والدال، والمدلول، والإشارة، والرمز، والأيقون، والاستعارة، والمخطط، والبنية العاملية، والتعيين، والتضمين، والمحور الاستبدالي، والمحور التركيبي، والتشاكل، والسمات،
هذا، ويمكن الحديث عن دراسات سيميائية عامة حول المسرح والدراما، ودراسات سيميائية خاصة حول الصورة المسرحية. بيد أن الدراسات السيميائية في مجال المسرح والدراما لم تظهر إلا مع مدرسة براغ الشكلانية في بداية سنوات الثلاثين ، وكذا عبر امتداد سنوات الأربعين من القرن العشرين. وقبل ذلك، لم تكن هناك سوى دراسات نقدية أدبية معيارية أو دراسات بويطيقية وصفية تنطلق من مبادئ أرسطو المعروضة في كتابه: ” فن الشعر”.
0 التعليقات:
إرسال تعليق