قراءة نقدية في فلسفة المونودراما وتاريخها
مجلة الفنون المسرحية
قراءة نقدية في فلسفة المونودراما وتاريخها
قراءة نقدية في فلسفة المونودراما وتاريخها
عباس لطيف
يتجلى جدل الحراك والتغاير في تاريخ الأجناس والانواع والتيارات والمذاهب الدرامية والأدبية والفلسفية ومجمل الفكر الأنساني في حقيقته وصيرورته عبر الأحتدام والتشابك مع وجودية الواقع التاريخي وما يحفل بهِ من متغيرات وأفرازات وتبدلات تحولية في كل مفاصل وحقول وانساق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الى جانب الكشوفات ونمط العلائق الفاعلة والقائمة على ميكانزم التأثر والتاثير بين العلوم والفنون والآداب وحقيقة الأفادة من المتجاوزات الأبتكارية لا سيما وقد ازداد هذا التناغم والتنافذ منذ مطلع القرن العشرين وأزدادت وتائره مع أنحسار التيارات والمذاهب التقليدية وأتجاهات انفتاح الفنون والعلوم والآداب على بعضها فأصبحت الرواية والمسرح والسينما والتشكيل تفيد كثيراً من علم النفس والبايلوجيا وعلم الاجتماع بل ان هذا التمازج تجلى بصور التماثل والأستعارة بين الفنون نفسها.
ومن أبرز الأجناس والأنواع الدرامية ما تمثله المونودراما كنوع درامي أمتلك أستثنائية وخصوصية ليس على مستوى أختزال عناصر العرض والأقتصار على ممثل واحد بل امتد هذا البعد الأستثنائي الى ما تثيره من دهشةٍ وجدل وعمق جمالي ومعرفي في شخصية غالباً ما تتسم بأشكالية وجودية وسايسولوجية وقدرتها على أقامة جدل محلق بين ثنائية الفرد ــ الجماعة ، والعزلة والأندماج والصوت والصوت الآخر والمادة والروح والأنكفاء والتوهج والماضي والحاضر والتماسك والتشظي ويمكن القول أن سحر هذا النوع الدرامي يكمن في قدرتهِ على اللعب على اكثر من مستوى وأستعارة عدد من الموجهات والأشكال الواقعية والأفتراضية والتعبيرية والفانتازيا من خلال أستثمار الصوت الأنفرادي وتوحد الذات.
والمونودراما تفرض على صانعيها أن يبتكروا الفكرة والأسلوب والحوار وتقنيات الأتصال الأخرى وفق أشتغال تجريبي ليس بسبب حداثة هذا النمط وعدم رسوخ قواعده وقوانينه بل لأنه شكل درامي لا يمكن أن تحنطه القاعدة فهو مفتوح بسبب أزمة البطولة الفردية وقابليتها للتشكل عبر تشظية بنية الصراع ومسح العوالم العمودية والأفقية للحظة وجودية صادمة. ومن البداهة أن يتعرض هذا الفن الأصعب والأبهى بين الفنون المنشطرة عن البناء التقليدي الى جدلٍ كبير وتباين في وجهات النظر ومن بين الآراء التي تنطوي على نوعٍ من التعسف والغرابة ما قاله « جان لوي بارو» عن المونودراما حين يجزم «بأنها ستبقى شئنا أم أبينا فناً درامياً ناقصاً حيث تفتقد وبشدة لعنصر الحدث الحي وتنحصر دائماً وأبداً في أشكالها السردية رغم محاولة معظم العاملين فيها لأستخدام العناصر المساعدة من أستثمار الهاتف الى أصوات مرتجلة أو حتى عرائس أو صور فوتوغرافية. وتبين الكثير من النقاد العرب والعراقيين بما يقترب من هذا الفهم الذي يعبر الى حدٍ ما الى قصور في الرؤية وأنعدام التعمق في هذا اللون من الآداء المسرحي وربما تعود هذه العدائية والفوبيا النقدية الى نوع من الأرتكاس الناتج عن تقديس الأشكال التقليدية والنزعة المحافظة والتذوق الأستاتيكي الساكن مع أن أنطوان تشيكوف قد أصاب كثيراً حين قال : « أن الفنان مبدع أشكال وليس خالق مضامين ويؤكد هذهِ الحقيقة الناقد ووتر كير في كتابه المهم (عيوب التأليف المسرحي) : « أن كل المذاهب أو التيارات أو ما يسمى تحديداً بالقالب
وكان لا بد في مثل هذا الجدل والتباين في الرؤى أن تنهض الدراسات النقدية لدراسة فلسفة وتاريخ وجماليات فن المونودراما بأفق أكاديمي ونقدي رصين هذا ما انطوت عليه الدراسة العميقة والأستدلالية الموسومة «فلسفة المونودراما وتأريخها ــ دراسة في تحديد وتحديث المصطلح ــ للدكتور الناقد حسين علي هارف ضمن أصدارات الثقافة والأعلام ــ حكومة الشارقة.
فلقد توافرت هذهِ الدراسة على أشتراطات البحث والتتبع التاريخي الدؤوب عن الأرهاصات التاريخية والأنماط الريادية وبدايات هذا الفن وكم أدهشنا ذلك الأكتشاف من أن الجذور الحقيقية للمونودراما قد ظهرت في نهضة اليونان الريادية (فقد كانت المسرحيات الأغريقية المبكرة ذات الممثل الواحد يقدمها «ثيسبس» الذي حفظ التاريخ لنا أسمه بوصفه صاحب أنجاز فني ريادي فأليهِ يعزى فضل إيجاد الممثل الأول الذي أخذ بتبادل الحوار مع رئيس الجوقة) «2»
قسم الناقد الدكتور حسين علي هارف دراسته الأستقصائية وهي بالأصل رسالة دكتوراه الى أربعة فصول. تناول الفصل الأول تاريخ المونودراما وتضمن عدداً من التعاريف والنظريات الأجناسية مع التطرق الى تحديد المصطلح العلمي بعد المرور على عددٍ من التعاريف الأجرائي بعد فحص دقيق ونقد علمي لبعض القصور في كثير من التعاريف فيعرف أخيراً المونودراما بأنها (المسرحية التي تطرح صوتاً درامياً واحداً وتعتمد في بنائها شخصية درامية وحيدة أو مستوحدة تعاني ازمة أو عزلة أو أغتراباً نفسياً واجتماعياً يفرزُ صراعاً داخلياً وتنفرد تلك الشخصية بالجمهور وحيدة أو مستوحدة تعاني أزمة أو عزلة أو أغتراباً نفسياً وأجتماعياً يفرز صراعاً داخلياً وتنفرد تلك الشخصية بالجمهور وبمساحة الفعل الدرامي بشكلٍ طاغ لتبوح أو تسرد تجربتها الدرامية وفقاً لمنظور أوتوقراطي يعكس أحادية الصوت المونودرامي وقد تتضمن المسرحية وجود أو دخول شخص أو شخوص ثانوية ذوي دور أو وظيفة هامشية ــ تكميلية ــ أو جوقة صامتة أو ناطقة مساندة)
ويقدم المؤلف مسحاً تاريخياً لفن المونودراما وظهورها منذ اليونان وحتى العصر الحديث بدءاً من ظهور شكلها الفني على يد الممثل الألماني (برانديز) في الأعوام (1775 ــ 1780) ويؤشر أزدهارها في القرن العشرين بتأثير الدراسات السايكولوجية لاسيما مدرسة التحليل النفسي لسيجموند فرويد وظهور تكنيك تيار الوعي أو التداعي الحر في أعمال فرجينيا وولف وجيمس جويس وكونراد ويتبع الباحث تجارب المونودراما في مختلف العصور والدول وتجارب توسكانا في إيطاليا ويبدو أنها نوع من التهريج الفردي الأرتجالي وكذلك تجارب مشابهة مثل أعمال (فيللون) و(فروتولا) هدفها التسلية والأضحاك ويغوص في أستقصاء تاريخي في أشكال المونودراما في التراث العربي وما قدمه المحاكون والمقلدون والمهرجون وما يرويه الجاحظ في البيان والتبين وغيره من المصادر العربية التي تدلل على وجود هذا الآداء الأنفرادي القريب من المونودراما بصيغته البسيطة بعيداً بطبيعة الحال عن مراحل وخواص النضج والأشتراطات المتقدمة ولكن ما يسوغ هذا التناول هو السعي لأكتشاف الجذور والأرهاصات والأشكال الريادية. ويدرس بعد ذلك المونودراما عند الروسي (فرينوف) وأعمال تشيخوف المونودرامية الشهيرة مثل (أغنية التم) و (ضرر التبغ) وأظن أنهما أنضج واشهر عملين في النمط المونودرامي، ويستعرض المحاولات والنماذج الريادية العربية في أعمال عدد من الكتاب والفنانيين العرب لا سيما يوسف وهبي وأحمد زكي أبو شادي وتوفيق فياض والفريد فرج والطيب الصديقي وممدوح عدوان وجمال أبو حمدان ونبيل الحلو وعبد الكريم برشيد وعبد الخالق الزروالي ويقول المؤلف عن أول عمل مونودرامي في العراق (ثبت لدينا بأن أول عرض مونودرامي شهده المسرح العراقي هو مسرحية (مجنون يتحدى القدر) للكاتب المسرحي يوسف العاني التي قدمت على مسرح لمعهد الفنون الجميلة في 3/3/1950 وقدمتها جمعية جبر الخواطر بكلية الحقوق/ جامعة بغداد).
ويتناول الفصل الثاني : فلسفة الأغتراب في المونودراما ويستعرض بعض الآراء والتعريفات ويعقد مقارنة مهمة والفروق النوعية والدرامية والوظيفية بين فن المونودراما والسايكودراما، ويعتقد الكثير من الباحثين أن السايكودراما مصطلح من علماء النفس وليس من المسرحيين وخصوصاً الدكتور (مورينو) العالم السايكولوجي الذي أبتدع السايكودراما كشكل من أشكال العلاج الجماعي بتحديد موضوع ما لمعرفة حالة المريض ويشترك المعالج في التوجيه والتغيير ويعتمد على الأرتجال وهي عملية موازية لأسلوب التداعي الحر. ولعل من أهم كشوفات وأستقراءات الباحث ذلك الأقتران الموضوعي بين المونودراما وفلسفة الأغتراب بكل أشكاله السياسية والأجتماعية والأقتصادية فالأغتراب حالة فصام ويتسم بتعددية المنظور ولكل منظور فلسفتهِ ومسوغاته ومضامينهِ ويتوصل الناقد حسين علي هارف ويدلل بصيغه تحليلية الى ذلك الأرتباط بين المونودراما والأغتراب بكل أشكالهِ وتجلياته فمعظم (النصوص المونودرامية تتعامل بشكل أو بآخر مع الأغتراب بمختلف مفاهيمهِ وبتعدد أنواعه. وقد حفل الفصل الثالث بفيض نقدي شيق لنماذج من المونودراما العالمية والعربية والعراقية مثل ضرر التبغ لتيشخوف والأستيقاظ لداريوفو وأيدي يوريديس لبدرو بلوخ من (البرازيل) وعربياً مونودراما (الناس والحجارة) لعبد الكريم برشيد (من المغرب) وليلة دفن الممثلة جيم، لجمال أبو حمدان (من الأردن) وبرج النور لعبد الحق الزروالي (من المغرب) وبيت الجنون لتوفيق فياض (من فلسطين) وعراقياً تناول الذي يأتي لعلي عبد النبي الزيدي ويسألونك عن لعواطف نعيم ومجنون يتحدى القدر ليوسف العاني وموت البلبل لأسماعيل أكبر محمد وماري لسعدون العبيدي وتكلم يا حجر لمحي الدين زنكنة.
ويفرد مساحة عميقة وتحليلية ذات بعد تفكيكي لعناصر ومكونات الفن الموندرامي تناول فيها أشكالية الممثل الواحد بين مفهومي المصطلح الملتبس (مسرحية الممثل الواحد) أم (مسرحية الشخصية الواحدة) وهذان التعريفان يحتلان الجدل وتعدد الرؤية والفهم ويتناول المونودراما بين الملحمي والدرامي والفروق والخصائص وخاصة (الروي) التي تجمع بينهما. ويدرس نمط (الشخصية المونودرامية) من حيث الأحباط والعزلة والبوح الداخلي والأستبطان الوجودي وظاهرة (ضمير المتكلم) في بنية السرد المونودرامي، وكذلك يستغرق في دراسة (المكان المونودرامي) والتأسيس الأفتراضي للمكان المغلق الذي يوحي بحصار الشخصية وأنقطاعها مكانياً وسايكولوجياً عن محيطها وتلك هي ومضة التأسيس للصراع الدرامي بين ثنائية الداخل والخارج في شفرة الأداء المونودرامي. ثم يعمد الى دراسة الحدث وطبيعته الأستذكارية والعودة الى الماضي كملمح سايكولوجي لألتقاط الشحنة الدرامية التي تؤسس للصراع الداخلي المتأجج وخاصية المونولوج والتداعي للذات المونودرامية المأزومة.
-------------------------------------
المصدر : الصوت الآخر
0 التعليقات:
إرسال تعليق