مسرحية " رماد أحزان الكوفة " تأليف حسين عبد الخضر
مجلة الفنون المسرحية
الكاتب حسين عبد الخضر |
المشهد الأول
( المسرح خال من الديكور ، سوى قفص يقف خلفه رجل عجوز ، جميع الأصوات الأخرى تأتي من خلف المسرح ) .
صوت الجوقة : الكوفة تجتر المأساة ، تنشد حزن الماضي ... غادرنا الطيف ، أردته رصاصات
الغدر شهيدا . غابت شمس الكوفة . فلتبكي الأشجار عليه . فلتبكيه الأنهار . يصـوم
الأذان وتحتد الصلوات . رحل النور وعاد الليل طويلا يتوعدنا . رحل النور فليس سوى حلم تغطيه السنوات.
العجوز : ( ينظر وكأنه يرى الناس أمامه ويخاطبهم ) أنا لم اقتل أحدا . نصــــحت سعيدا وهانيا
لأني كنت أرى خاتمة اللعبة .
صوت الجوقة : الصمت هو القاتل . الصمت وجبن الجبناء .
العجوز : سكت لأني كنت أرى في الظلمة . سوط الجلاد وسيف القاتل ، سكت لأني كــــــنت أرى
آلاف الأموات يلتهمون الأحياء ( يجلس ) جسدي ينحل وقواي تخور . إني أكــثر موتا مـــــــن نفس الموت .
( يدخل طيفا هاني وسعيد) .
الطيفان : لماذا أطلقت علينا النار ؟
العجوز : ( بفزع ) أنا لم اقتل أحدا .
الطيفان : بل أطلقت علينا رصاصات صامتة .
العجوز : قلت باني لا أقوى أن أطعن أو أُطعن .
طيف هاني : ادعوك أن تتوحد مع نفسك .
طيف سعيد : لماذا تتركنا الآن ؟
(يخرج الطيفان ) .
العجوز : مالي أصبحت أرى الأشباح تطاردني ؟ لماذا يتعزز فيّ شعور أني القاتل ؟ ( يحاول أن
يبدو طبيعيا ) أنا لم اقتل أحدا وقدر الكوفة أن يغشاها الليل .
صوت الجوقة : القاتل ينكر طعن المقتول . يذرف دموع الحــــــــزن ، ويهيل الدمع على أوزار جريمته القاتل يلبس كفن المقتول . لكن الكوفة لا تنسى الشـــــــــــهداء ولا تغفر للجلادين . . عروس الليل المغتصبة لا تغفر للنخاسين .
(صراخ . يهرب العجوز إلى القفص . صمت . يخرج من القفص ويكلم أشخاصا يتوهمهم ) .
العجوز : سعيد مالك ترمقني شزرا . لا داعي للفرقة ما دمنا رفيقين . ألسنا صديقين سعيد ؟ هاني . . ولو أني لا اعرفشيئا عن مزج الألوان وهذا الخط الباهت يفرق بين الأبيض والأسود لكني أرى أن اللوحة مازالت تحتاج إلى بعض الإصــــلاحات .. لماذا لا تتكلم ؟ تكلما . . إني اغرق وحدي في هذا الحزن . اغرق وحدي في هذا البحر من الظلمة . . سنوات.
صوت الجوقة : الكوفة يغشاها الليل . يشرد فيها الأيتام ويسرق خبز الفقراء . انهار الكوفة عطشى
وليس لضام فيها شربة ماء .
العجوز : مالي والأيتام ، مالي والفقراء ، لماذا تطاردني الأشباح وتبصق في وجــهي الجدران ،
أنا لم اسرق أحدا . أنا لم اقتل أحدا . قدر الكوفة أن يغشاها الليل .
صوت الجوقة : من أطفأ شمس الكوفة منذ سنين ؟ من أوقد نار الفتنة فيـها فعادت تغرق في الظلمات؟ملعون من شتت شمل الأمة وفرق بين الـــناس الأحقاد . الكـوفة لا تنسى الشهداء ولا تغفر للجلادين . .عروس الليل المغتصبة لا تغفر للنخاسين .
العجوز : أعوام مرت ظلماء . أدور على نفسي كالمجنون . لا أغفو ليلي . لو أغمضت عيوني ،
تفتح في وجهي عين وتشير إليّ أصابع كل الموتى في الكوفة وأصابع كــل المحتجزين في الزنزانات وتحت الأرض . هو ذاالقاتل . وأرى عنقي يـدور بحبل المشــــنقة . أراه يدور . . . ولكني أحيا ونفسي أكثر موتا من نفس الموت .
( يدور العجوز على الخشبة . الضوء مسلط عليه فقط ) .
العجوز : حبال سود تلتف عليَ السنوات . صخور جرداء تتراكم حولي الأيـــام . أتمنى لو أطرد عن ذاكرتي رائحة الدم والمـوت . أتمنى لو تختصر السنــوات إلى القبر . فيبتعد القــبر وتمتد الســنوات . الإثم يخيــم في ليل النفس وأرى روحي تلتهب بنيران النـدم . . . الندم اللا مجــدي . كالجبل على ظهــري يجثم ذاك الــماضي . . الــماضي . يضج بـرأسي صراخ المــاضي ، يزدحم خيــالي بمشاهد ذاك الماضي . كــأن الأحداث تمر الآن . . . كأن الأحداث تمر الآن .
المشهد الثاني
( المسرح شبه مظلم ، يقف ثلاثة شباب خلف أقفاص عالية موزعة على خشبة المسرح . الجوقة تقف خلف قفص كبير في وسط المسرح من الجانب البعيد وأيديها مقيدة إلى القضبان ) .
( يعلو صوت صراخ لرجل يعذب من خلف المسرح فيتلوى الجميع ألما . ينظر الشباب الثلاثة بخوف إلى كل الاتجاهات ) .
هاني : ( وهو ينظر إلى الأعلى ) . ثلاثون عاما والسماء تمطر دما أسود .
سعيد : ثلاثون عاما والظلام يفترس المدينة . يغتال الأقارب والأصدقاء والأحلام .
رشيد : ثلاثون عاما هي كل عمري الذي لم أحيا منه يوما واحدا . ثلاثون عاما هي الخوف والانتظار . انتظار اللحظة التي اصرخ فيها صرختي الأخيرة وأتلاشى .
هاني : ( نحو الجمهور) اللوحة مازالت تستقبل الغبار . الألوان تجف باستمرار . وأصابعي مازالت
متحجرة .
سعيد : ( نحو الجمهور ) . حاولت كتابة قصيدتي فبدت الكلمات أثقل من الصخور . هذا زمن لا يصـلح لغير الصراخ . وهذه مدينة لا تحيا بغير الصمت ؟ ! فكيف اكتب الصمت ؟
رشيد : ( نحو هاني وسعيد ) كفى أيها الحالمان . لاشيء أمامنا سوى أن نمـوت في هذا الظلام وننسى لقد ولى زمن الأحلام .
هاني : لو كان صحيحا ما تقول . فيجب أن اكســر ريشتي واطــمر أصابعي في الــتراب . لو ولى زمن الأحلام ، فما قيمة أن يجري الماء بنهر ميت . ما قيمة أن يحيا الإنسان ويلتهم الساعات .
سعيد : لا . . لا يمكن أن يرضى ذلك حتى فار يقضم في جحر تحت الأرض خبزا يابسا وينام .. لابد لنا من حل . . محاولة أخرى .
رشيد : ( منتفضا ) محــاولة أخــرى ؟ ! محاولة أخــرى هي مــوت آخر ، سجون أخرى ، عذاب آخر . مازلت أتنفس رائحة الدم . مازال السوط على ظهري يكتب تاريخ النكبة ( يجلس بعيدا عنهما ، يضع رأسه بين يديه . يسلط الضوء عليه ) مازلت اذكر ذاك اليوم .. مازلت اذكر .
( يضيء المشهد عن الجوقة وقد تجاوزت القفص وهي تهتف ) .
الجوقة : الــموت للظلام . . الــموت للظلام . . يأيــها الفارس الذهبي أقبل . تعال واروي العطشى . تعال واحــمي الأيتام . . الــموت للظلام . انهض أيها الراقد في الأحــلام . تعال وامتطي حماس تلك الحشود . . تعال . . تعال .
( تتوقف الجوقة عن الهتاف وهي تنظر صوب جهة بعيدة ، الشباب الثلاثة ينظرون أيضا إلى تلك الجهة ، مترقبين ظهور احد ) .
الجوقة : لاشــيء يأتي من هناك . لاشــــيء حتى الآن في الدرب البعيد . ولا أحد . ( ترتفع أصواتهم )
هبت على نيراننا ريح الملل .. والجمر يخبو ويخبو على راحة الانتظار .
( الشباب الثلاثة وقد ملوا الانتظار أيضا ) .
هاني : الطيف الأبيض لم يأت بعد .
سعيد : لم يأت بعد . الجمرة في جسدي تبرد . عسى أن يأتي قبل غروب الصبر .
رشيد : عســى أن يأتي . عســى أن يأتي . الغائب لم يأت والظلمات احتشــــدت في كل مكان . . من كل مكان .
( أصوات معركة . قصف بالمدافع والأسلحــــــة الخفيفـة . يتخبط كل من على الخشبة في حركة
تراجع إلى الخلف ) .
رشيد : ( بصوت عال ) مؤامرة .
سعيد : ( بصوت عال ) الليل يهاجمنا من كل مكان .
هاني : ( بصوت عال وهو يشعر بالدهشة وخيبة الأمل ) من باع الكوفة ؟ من خنق الأصوات ؟ من فتح الباب لهذا البحر الأسود وأغرق بظلمته الكوفة ؟
( يغادرون الخشبة فيظلم المسرح لينكشف من جديد عن الجوقة وهي تقف خلف قفصها الكبير مقيدة اليدين تبدو عليها آثار التعذيب ) .
الجوقة : ( تنشد بطريقة تشبه النواح ) ارتدت الحياة ثوب حدادها الأسود . الموت والدماء عنوان هذه الأرض . تخــلى الفارس عن صهــوة جواده . هــذا اليــوم لا يشبه يوم آخر في التاريخ .
الكوفــة تبحث عن فــارسها . الكوفــة تنادي شهابها الجديد . . رفـــعت صوتها بوجه الظلام فاكتست الشوارع جثثا واغتسلت الأرصفة بالدماء .
( يتسلل الثلاثة الواحد بعد الآخر ) .
رشيد : ها ؟
هاني : جثث حمراء ودماء سوداء وسكون .
سعيد : ( يضع أذنه على الأرض ) قلب الأرض ينوح . بعينيّ رأيت الأطفال تحطمهم سرفات الدبابات . رأيت النسوة والشبان يقادون إلى الموت زرافات .
( يرقد رشيد كالنائم بينما يدور هاني وسعيد على الخشبة ، كأنهما يبحثان في المدينة عن أثر للحياة . يسمعان صوت رشيد وهو يهذي ) .
رشيد : لا . لا تقتلوني . لا تحرقوني . أنا لم افعل شيئا . أنا لم اصرخ . أنا لم اصرخ . لا تدفنوني . . لا. ادفنوا هاني أو سعيد . ادفنوا هاني أو سعيد .
( يوقظانه فيستيقظ فزعا ، خائفا وهو يصيح بصوت مريض ) .
: لا . . لا تقتلوني .
هاني : لا بأس عليك رشيد .
سعيد : ( وهو يضع يده على جبهة رشيد ) غارت عيناه وحرارته ارتفعت .
( رشيد ممدد في وسط الخشبة ، يجلس إلى جانبه هاني وسعيد بمواجهة الجمهور ) .
الجوقة : مــاتت عصافير الكوفــة فوق الأغصان . ماتت وهي تردد لحن الغائب . فتحول لحن العصفور إلى هذيان . الدم والمـوت صديقان . اللحن صديق الدم . والدم عدو الإنسان . لا منجي للكوفة من الهذيان . تفترش الأحلام وسادة حزن قاتمة الألوان وتهذي . . تهذي .
المشهد الثالث
( المسرح شبه مظلم . حبال وسلاسل تتدلى من سقف المسرح . الشباب الثلاثة خلف أقفاصهم والجوقة في قفصها . خلفية المسرحصورة مدينة مدمرة ) .
الجوقة : من يعطي خبزا للجــائع ، صوتا للأخرس ، حزنا لهذا القلب الفارغ ، حملا لهذا الزمن العاقر،
سيفا تتحد عليه أصابع يدنا المبتورة ، فتات الأحلام . . . من يهدي للروح فتات الأحلام ؟
هاني : ليس لنا سوى أن نحلم . وحتى الأحلام بلونين فقط .
رشيد : ( مقاطعا ) لا تتكلما . . لا تتكلما . الشوارع مزدحمة بالعيون . الجدران تتجسس علينا . توقف أيها الرسام عن أحلامك اللعينة وكف عن هذيانك أيها الشاعر .
سعيد : صـارت الحيـاة هي الهذيان . كلام بلا فائدة ، كلام يجر الكلام ، كلام يتخم السجون ، كلام يقتل، كلام يزرعالجوع في قلوب المشردين . أليست هذه هي الحياة ؟ أليس هذا هو الهذيان؟
رشيد : آه أيها الشــاعر المهذار ، ما أكثــر ما تتكلــم ، ما أكثر ما تمشي على الحد الفاصل بين الأرض وبطــن الأرض . . . استمعــا اليَ . أنصتا لصوت الحكمــة . كل النوافذ مغلقة بإحكــام. كل أمل يتفسخ في مكانه ويموت . من يسكت يعش أكثر أما من يتكلم فلا مكان له في هذا العصر .
هاني : الموت والسكون متساويان . الفرق هو أن الساكت فوق الأرض يعد الأيام .
سعيد : ملعــون من خذلنا . من سلمنا لموتنا بهذه السهولة . حـــاول أن تصل إليه بخيالك أيها الفنان. وأنت يا رشيد .
رشيد : ألا تستطيع أن تسكت . . أسكت ، فالموت ضريبة الكلام .
سعيد : أتمنى لو تتمكن من إقناعي . لكن هل تتمكن من كبت الأمل الذي في داخلي ؟ لابد من فجر جديد أراه في أحلامي . في يقظتي أراه . . فجر يحتضن بجناحيه الكوفة .
هاني : هل مر على الكوفة ليل بلا نهار ؟
الجوقة : تلاشت ظلمــات كثيرة . افــلت شموس وأقمار . ليــس للحياة وجهـا واحدا أبدا . مهما تفرعن الظلام . مهما طغى . لابد أن يشع في يوم ضياء . فجر آخر يولد من رحم الأيام . فلنبحث عن
خلاصنا الأتي . فلنبحث عن ماء لأنهارنا . . عن ثمر لأشجارنا . فلنبحث .
سعيد : ( متسائلا ) نبحث ؟
رشيد : أين ؟ الظلام يطبق قبضته على المدينة . لا مكان بلا ظلام والبحث ضريبته الموت .
هاني : نبحث في الطرق السرية .
رشيد : لا تــوجد طرق سرية . في الكوفة لا يوجد غير الموت يجوب الطرقات ، فالتزما مثلي الصمت. كل الناس أجادوا فن الصمت . فلماذا تتكلمان ؟ الكل يطبق جفنيه ليغفو وأنتما وحدكما الحالمان .
سعيد : ما قيمة أن يغفو الإنسان بلا أحلام . . الحزن عصارته حلم عن فجر آت .
هاني : الحــلم خيال الإنسان الأبيض يبحــر في بحر ازرق يطوقه حزن اسود فدعنا نحلم أن نكسر هذا الطوق .
رشيد : تأتي الأحــلام مع الليل . تحمـل معها روحا منه . فما يدرينا إن الأحلام ليست جاسوسا للظلمة؟ أكثر من دفنواأحياء كانوا ضحايا الأحلام .
هاني : الأحلام ضماد جراحات العالم . زهرة حب ببيضاء تبقى بعد دمار الحقل . فلا يمكن . . .
رشيد : ( مقاطعا ) بـل يمكن . يمكن أن تصبح هذه الزهرة سوطا بيد الجلاد . أو حبلا يلتف كأفعى فوق الرقبة .
سعيد : رشيد . أراك تشــل إرادتنا . حتى الأحـلام تحطمها . . حتى الأحلام ، ولا تفتح نافذة أخرى ، لكنك تغلق كل الأبواب فقط .
هاني : يكاد كلامك يقتلنا . فإنك تطلب منا أن نتجمد كالتمثال لنحيا .
رشيد : لا جــدوى من بحثكما . الجبن يعشش في النـاس ، والهم الأوحد أن يستـــلوا رغيف الخبز ولو
بالحيلة . فكيف تريدون من الكوفة أن تتبع شمسا لن تشرق .
)أصوات ترتفع من خلف المسرح ) .
: بالروح بالدم نفديــك يا ظلام . . بالروح بالدم نفديــك يا ظلام . يعيش الظـــلام . . حبيب القلوب الظلام.
رشيد : أرأيتم كيف انقلب الناس . أرأيتم كيف تغيرت الكوفة . ها قد سمعوا صوت الحكمة .
سعيد : حكمت هذا الزمن الضال . ترهات الحكماء المهزومين . سوط ناعم يقود الناس إلى الليل .
هاني : نداء الخوف . . رغيف الخبز الصعب . . وهؤلاء ( مشيرا إلى جهة الصوت ) ليسوا كل الناس .
رشيد : الخوف هويتنا . لا تقفا ضد التيار . ليكون الماضي لنا عبرة .
( يطرق الثلاثة لفترة كافية للتأمل ) .
الجوقة : ليــس التيـار سوى الخـوف . الخوف هو الظلمة ، سجن النفس ، سوط الجلاد ، دماء القتلــــــى ، القبر المجهول تنوح عليه حمــامات سـود ، هو الخــوف . الكــوفة بأزقتها السوداء ، بعيون يتاماها انقلبت خــوفا . أين الفجــر الموعود ؟ أين نجوم الشهداء ؟ . . . عيون الأطفال ، نبض الأبطال . أحلام عذارى الكوفة تترقب . تنظر صوب الدرب الصحراوي .
سعيد : ولو أن اليأس يطبق فكيه على القلب ويغرق هذا القلب ببحر الظلمات ، حتى أصبح أعمى ، لكن هتافايعلو في نفسي يولد عندي أملا ، بل إحساسا ، أكاد اسميه يقينا . . إن الفجر لات .
هاني : تعدد ألوان الطيف ، يجعلني أدرك ، أن هنالك لون آخر سيرسم وجه الكوفة .
الجوقة : ( تنظر صوب جهة بعيدة ) لم تطرقه قدم حتى الآن . الدرب الصحراوي المهجور ، تعوي فيه الريــح وتحرك ذرات الرمــل ، تنمــو على جنبيـه الأشواك . تخاف الكوفة أن تغزوه الأشواك
فيضع لدرب الصحراوي إلى الكوفة ويضيع القادم .
هاني وسعيد : ( وكأنهما قد تذكرا سيئا قد غاب عنهما ) الدرب الصحراوي . . الدرب الصحراوي .
( يذهب الجميع صوب الدرب الصحراوي خارج المسرح ، يبقى رشيد وحيدا ثم يتبعهما على غير قناعة ) .
المشهد الرابع
( المسرح شبه مظلم . خلفية المسرح (( مسجد الكوفة )) . هناك منبر في وسط الخشبة من الجانب البعيد . الشباب الثلاثة يقفون خلف أقفاصهم . الجوقة تقف خلف القفص الذي تغير موقعه إلى الجانب الأيمن من الخشبة ) .
الجوقة : ( صوب الجمهور) الكــوفة تستبشر خيــرا . عــذراء وجدت فارسهـا . وجدت من يطعن قلب الظلمــة بالكلمــات ويدميهــا ، فيرديهـا . موعدكم يوم الجمعة . . في المسجد من يوم الجمعة
تبتدئ ألطف .
سعيد : أتسمعان ؟ شمس الكوفة تشرق .
هاني : يتسلل إلى نفــسي خيط من ألوان . هنالك أمل يتدفق من بين صخور الظلمة . الكوفة لن تعطش بعد اليوم .
( يتوجه بالكلام إلى رشيد المنزوي عنهما كأنه لا يسمع ما يدور ) .
: أسمعت رشيد . شمس في الكوفة تشرق . فجر آخر عبر الصحراء متجها صوب مدينتنا .
رشيد : ماذا يطلب هذا الفجر في بلد أنهكه الجوع ؟ ماذا يغريه ببلدتنا ؟ للثروة جاء أم السلطان ؟
سعيد : تهب الشمس أشعتها مجانا . ترسلها في كل مكان ، لتضيء دروب الناس . لا من اجل الثروة
والسلطان .
هاني : للكوفة حين يجن الليل صباح . هذا قدر الكوفة ، ويكون الأجدر أن لا نخطئ في التقدير .
رشيد : ها قد قلت . يكون الأجدر أن لا نخطئ في التقدير ، فما يدريك بأن القادم نورا ؟ ما يدريك بأن
الظلمة لأتلبس وجها آخر ؟ فكيف نفرق بين النور أو النار ؟
سعيد : لا يــوجد ابسط من ذلك . الفرق الواضح في الأقوال وفي الأفعال كالفرق بين دم المقتول وسيف القاتل .
رشيد : ( بصوت عال منطبع بنبرة الخوف ) في الظلمة لا تدرك فرقا بين القاتل والمقتول ، في الكوفة لا تدرك فرقا بين عدو وصدق . عدو اليوم صـديق الأمس ، وإذا ما استــعرت نار الحرب ستجد الكل يريدون هناك قتالك .
سعيد : الظلمـة لا تمنع عاقلا أن يشم رياح القاتل أو يتنفس ريح المقتول ، والشمس إذا طلعت تسفر عن هيئتها ، لكنك تمعن في ظلم الناس ، لماذا تلقي اللوم على الناس ؟
هاني : رشيد . أراك تراوغ نفسك . تلتف على رغباتك . تحاول أن لا تبصر . اهو الخوف رشيد ؟
رشيد : ( بتردد ) لا . لكن الحكمة تدعوني أن أتروى . فغدا من يعرف ما يخفي الغد ؟
هاني : من يتردد في الحكم على نور الشمس مجنون وليس حكيما .
رشيد : دعني أتمعن في الأمر .
( تمر فترة من الصمت . يرتفع بعدها صوت الأذان . يسلط الضوء على المنبر . ثم يرتفع صوت السيد الشهيد محمد صادق الصدر(( قدس سره )) ) .
صوت السيد : ( اللهم صل على محمــد وآلــه الطيبين الطاهرين . توجد ملاحظة أود بيانها قبل الابتداء بالشيء الرئيــسي في الخطبــة . في الحقيقــة البلاء الدنيوي إذا لاحظناه منسوبا إلى قضــاء الله وقدره ، كالفقــر أو التعرض للشمس أو انقطــاع الكهرباء وان كان صعبا ويحتــاج إلى صبر وجلد ومعاناة إلا انه يحدث نتائج طيبة في الدنيا والآخرة معا . أما في الآخرة فعلو الدرجات . وكلما كانت الدنيا أصعب وبلاءها أكثر كانت الآخرة أسـهل . وكلــما كانت الدنيا أدنــى كانت الآخرة أعلى ولنـا أسوة حسنة بالحسين عليه السلام الذي قيل له (( لك مقامات لن تنالها إلا بالشهادة )) .
( يشع الضوء في كل جهات المسرح . يقترب هاني وسعيد وكذلك الجوقة من المنبر أثناء الخطبة بينما يقف رشيد بعيدا عنهم ) .
الجوقة : ( تقف في وسـط المسرح ) أشرقت شمسكـم يا أهل الكوفة . قوموا إلى أرضكم فاحرثوها
الفرات يــنادي أرضكم المجدبة فشقـــوا أنهاركم واحيوا بساتينكم . هذا الشهاب الأبيض ينادي في أزقتكم . توشك الأشجار أن تضع ثمارها فلا تضيعوا جنيكم .
( تعود إلى مكانها خف القفص ) .
سعيد : ( يــخاطب المنبر ) أيهــا الشهاب الفريد . أيهـا الرجل الأبيـض . خذ بأدينا إلى عالمك النوراني حيث تفجر الكلمات ينابيع الروح فيتدفق الشعر انهارا من عسل .
هاني : ( يرفــع يديه إلى أعلى ويحــرك أصابعه ) أصابــعي بدأت تتحــرر . أرى لوحة جديدة تتكون في داخلي . . كم كانصعبا أن أرسم في الظلمة شيئا آخر غير الظلمة . أتشعر مثلي أيها الشاعر؟
سعيد: أرسم يا صديقي لوحاتك الآتية . . وسأكتب قصائدي . سأدعو الكوفة لاستقبال هذا الصباح .
رشيد : الكـوفة لا تؤمن بالكلمات أو الألوان . الكوفة تتبع قاتلها ، أنسيتم أن الدفة ليست في أيديكم بعد؟ مهلا حتى تتضح الأحداث وتنكشف الغبرة .
سعيد : ستصير الدفة في أيدينا ، ونحن الأقوى لو يجتمع الناس .
رشيد : لو يجتمع الناس . . اجتمع الناس لمرات قبل الآن ، لكن الكوفة تتفرق لو لمحت سيفا أو مدفع . الناسإذا سمعوا صوتا يلتفون ، بدوافع شتى يأتون . لكن لو شموا رائحة في الريح وتوجس أحدهم خوفا ، فإن الناس يفرون .
سعيد : الكــوفة هذا اليوم ليست كالكــوفة بالأمس . رفــع الناس بشعبان صــوت الرفض ، وانتظروا . . انتظروا حتى ذابوا في الليل ، فلا تطلب منا أن ننتظر الآن .
هاني : فهــذي الشمس تضيء ، ورأيــت الأشباح المذعــورة تنسحب إلى الظلمات ، لكني لم أرك هناك رشيد .
رشيد : مازلت أدقق في الأمر .
سعيد : أنت تخاف رشيد .
رشيد : لا ، لســت أخاف، لكني أتمعن ، فهذا عصــر الحيـرة والشك ولابد لنا أن نتروى في الحكم على الأشياء ولا لوم علينا.
هاني : من يتمعن في الشمس طويلا يصبح أعمى .
رشيد : ( مترددا ) ما زلت اشك .
هاني : لا تنفث شكك بين الناس فتعميهم . الأفضل أن تسكت . أو أن تعزل الناس .
هاني : لا تسكــب ظلمة نفســك في نفس أخــرى . كل الأرواح البيضــاء تتطلـع صوب النور ، إلا أنت ، فلتنسحب إلى كهف ، ذلك أفضل من أن ترشق وجه الشمس ، بغبار اسود .
رشيد : لو ننظر في الأمر قليلا . لو نتمهل . لو ..........
سعيد : كفاك ، كفى . تختلق الأعذار .
الجوقة : ( نحــو الجمهــور ) في الزوايــا المظلمة تحاك المؤامرات . تنسج العناكب خيوطها الفولاذية وتنصــب المشــانق في بيــوت الطغــاة . ليس الطغــاة وحـدهم يبغون اغتيال الشمس . هناك
المنافقون والانتهازيون ومروجوا الإشاعات . حذار يا أهل الكوفة من رؤوس نسجت أفكارها في الظــلام . حــذار من الحكمــاء العــوران اللاعقيــن صحون الحرام . اقتلعوا ما زرع الآباء الماضون من العار . فجر آخر جاء يناديكم فرووا عطشه . . فجر جاء يناديكم فرووا عطشه .
رشيد : ( يدور في المسرح (ألا يوجد لون آخر بين الظلمة والنور ؟ ألا يوجد غير الدم والجلاد ؟
هاني : يوجد لون آخر بين الأبيض والأسود ، واراك تزينت به الآن فأصبحت بوجهين .
رشيد : لا افقه شيئا من لغة الألوان . فاخبرني ما تقصد ؟
سعيد : يقصد انك مشمول باللعنة . لا مع أو ضد . والرجل الواحد لا يملك قلبين ، لكن من المكن أن
يعيش بوجهين .
هاني : ندعوك لان تتوحد مع نفسك . أرفع من روحك أستار الظلمة .
رشيد : لا . . لا . مازلت أرى نهر الدم . مازلت أرى الأجداث بلا أسماء . . . مازلت أراها .
( ينسحب إلى خارج المسرح ) .
الجوقة : ( نحو الجمهور ) يا أهل الكوفة . . لم يخرج أشرا أو بطرا . لا يطلب جاها أو سلطان . بل جاء لإصلاح بين الناس ، لأمر بالمعروف ونهي عن منكر . لا تذروه وحيدا . . . لا تذروه وحيدا . . . لا تذروه .
هاني : ما بال رشيد ؟
سعيد : يخاف .
هاني : ليل الكوفة كان طويلا . . ورشيد ليس سوى . . . . فلنذهب نستطلع أحوال الناس .
المشهد الخامس
( خلفية المسرح صورة لمدينة الكوفة . المنبر في وسط المسرح ، يلفه قماش ابيض ، أقنعة عديدة وأوراق تشبه المنشورات معلقة على جدران المسرح) .
( هاني وسعيد يدخلان من الجانب الأيمن للمسرح ) .
هاني : ما بال النــاس ؟ كأن الكــوفة تهوى خلط الألوان . كــأن الحيات تنفث سمــا في الأبصـار وفي
الأذهان .
سعيد : رغم شروق الشمس مازالت ناس الكوفة تتخبط مثل العميان . . . . الخــوف ! وماذا يخشى من يقترب رويدا نحو الموت ، كل نهار .
هاني : ( مفكرا ) سماء الكــوفة تغطيها غيــوم حبلى بالفتن . وأخشى أن تندلق القرب بنهر الدم ( إلى سعيد ) أسمعت صراخ الأصوات الخرساء ؟ أسمعت عواء الشيطان ؟
سعيد : أخشى ن تلد الأيام الحبلى طاحونا مجنونا . يطحن كوفتنا ويذريها في وجه الريح ( يدور على
الخشبة وبلهجة يشوبها الخوف والرجاء ) لكن الأمر بعيد . . الأمر بعيد ( يضع كفيه على رأسه) قل إن الأمر بعيد .
هاني : الأمر بعيد . . أتمنى لو كنا نحلم ، لكن الكوفة ، كل الكوفة تتكلم عن واقعة أخرى ، وكهوف الليل ابتلعت أفواج الناس .
سعيد : ( وهو يفرك صدغيه ) اخبرني ما الأصل بهذا الكون ، النور أم الظلمة ؟
هاني : الظلمة والنور عدوان ، لكن البعض يحب النور والبعض الآخر يهوى الظلمة .
سعيد : والكوفة ماذا تهوى ؟
هاني : الكوفة تحب النور وقد قالت ذلك في شعبان .
سعيد : إذن ، فماذا يجري الآن ؟
الجوقة : ( تدخل من الجانب الأيمن للمسرح وهي تصيح بلهجة المنادي ) لا تذروه وحيـدا . . لا تذروه وحيدا . .صبرا يا أهل الكوفة . لا تحرموا القادم من شربة ماء . لا تمنحوه بيعة كاذبة أخرى، ثم تفرون بوجه السيــف . إنها الفتنة والله . وهذه الأقنعة ، جاءت لتخدعكم فخلوا الأقنعـــة . هذه الأبــواق لــم تأو يتيما . هذه الأبــواق لم تشبع جائعا . . لا تذروا القمر وحيدا . فلقد هبت ريح الفتنة وتكدست الظلمة فوق الظلمة كي تبتلع النور .
( تخرج الجوقة من الجانب الأيسر . يدخل رشيد بملابس سوداء اللون ) .
رشيد : علمتم ما يجري ؟
هاني : نعلم . . نعلم أن الظلمة تهم بمحو النور .
سعيد : رأينا الأسلحة المشهورة نحو مصلين عزل .
رشيد : انسحبا . . . انسحبا ، فالوقت يضيق إمام المعركة الكبرى . ستكون المعركة كبيرة تتناثر فيها
الأشلاء . كيف يقف مصلون عزل بوجه قذائف وبنادق ، ها ؟ كيف يقف العزل أمام الدبابات ؟
سعيد : من حقك أن تسـال رشيــــد . . . من حقك أن تســال . فليس العيش لــديك سوى خبز وفراش .
والسكن بجحر تحت الأرض هذا يعني انك بأمان .
رشيد : لماذا تنكر أني املك نظرا ؟ وبأني أحسن بقدير الأشياء ؟
سعيد : نعم . اعرف أنك تمتلك سجلا كبيرا للأعذار . . . وبأنك يمكن أن تصنع من فاسق أتقى الأبرار .
رشيد : هاني ، أوقف صوت صديقك هذا المتبجح .
هاني : لا وقت لدينــا للصــمت الآن . الصـمت مكان خصب لنمو الأقذار . الصمت هو الموت رشيد وما دون الموت ، فلماذا تطلب أن يصمت صديقي هذا التبجح ؟
رشيد : حسنا . فانا لا أنسى بأنا كنا أصحابا . وحلمنا نفس الأحلام .
سعيد : فلماذا تتركنا الآن ؟ ما دمنا كنا نحلم نفس الأحلام .
هاني : كنا نحلم بالنور . رسمنا أطيافا فوق الجدران السوداء وحلمنا أن نبصرها نورا . فلماذا تنسحبالآن ؟
رشيد : ( مطرقا يكلم نفسه ) أريد حيــاة صافية بيضــاء . لا رأس شهيــد فيها أو سيفـا يقطر بالدم . لا أقوى أن أطعن أو أُطعن . أريد حياة خالية من كل الأخطار .
سعيد : تلــك هي الجنـة . والجنـة لا تأتي من غير عناء . من قال بان الجنـة تهــدى للساكــت عن جوع الفقراء . فلا تحلم بالجنـة وأنت تسير بدرب آخر .
رشيد : ولماذا لم تكن الجنة في هذي الأرض ، هنا ؟
هاني : في الأرض الأبيض والأسود والجنة كانت بيضاء .
الجوقة : ( صــوتها يأتي من خلــف المسرح ) في المسجــد من يوم الجمعــة سيناديــــكم . في يوم غد سيناديكم من بين حراب الظلمة .فلبوا يا أرتال الشهداء . في المسجد من يوم غد توعده الجلاد بطف أخرى . فلبوا يا عشاق النور ولا تذروه وحيدا . . لا تذروه وحيدا . . لا تذروه .
سعيد : أسمعت رشيد ؟
رشيد : سمعت ولكن . .
هاني : لكن ماذا ؟
رشيد : ( ساكت (
سعيد : ( لرشيد ) أنت جبان والجنة ليست مأوى للجبناء .
صوت السيد : ( واقتــرب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بـل كنـا ظالمين . انتم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم انتم لها واردون . لو كــان هؤلاء آلهــة ما وردوها وكل فيهـا خالـدون لهـــم فيها شهيق وزفير وهم فيها لا يسمـعون . إن الذين سبقت لهم منـا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهــم فيما اشتــهت أنفسهم خالــدون . لا يحزنهم الفـزع الأكبـر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتمتوعدون ) .
( صوت إطلاق نار كثيف . يسلط ضوء احمر على المنبر. هاني وسعيد صريعان وسط ضوء اخضر ) .
يرتفع صوت القارئ :
( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) .
ستار
حسين عبد الخضر
husayna73@yahoo.com
الناصرية 2003
0 التعليقات:
إرسال تعليق