شاعرية التمرد أبرز مظاهر "المونودراما الدولي" بالقاهرة عروض مسرحية تكشف أقنعة الزيف الحضاري وتفضح التناقضات الاجتماعية.
مجلة الفنون المسرحية
شريف الشافعي - العرب
تبقى لغة الفن هي المظلة الرحبة التي تلتقي تحتها الأجناس والأعراق والديانات والأيديولوجيات والفلسفات المتنوّعة، للاتفاق الضمني على مفاهيم مشتركة، والتعبير عن هموم وأزمات ومتطلبات وآمال وأحلام وقضايا إنسانية عامة، لها جوانبها الفردية والمجتمعية في آن.
جسّدت عروض مهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما في دورته الثالثة المنتهية أخيرا، الرغبة الملحّة لدى الإنسان المعاصر في اقتناص فرص البقاء المتاحة على ظهر هذا الكوكب، على الرغم من انتشار العنف والحروب والقيم المادية وألسنة الدمار والأدخنة وأمواج الاضطراب والانهيارات العاتية. واتسمت عروض الممثل الواحد بالثورية والحركية والرهافة الشعرية والتشبث بالجوهر الآدمي الأصيل، الذي لم يصبه الزيف ولم تنل منه التشوهات الاجتماعية.
وجاءت مسرحيات أيام القاهرة الدولي للمونودراما، من مصر والكويت وليبيا والعراق وتونس وفرنسا وكوريا وإسبانيا وروسيا وساحل العاج وغيرها من الدول، وكأنها ذات أرضية واحدة. إذ انطلقت من أفكار ومعالجات متقاربة، وسلكت تقنيات فنية وجمالية متقاطعة في الكثير من نقاطها وتجلياتها.
ويثبت المسرح يوما بعد يوم أنه الفن الأخصب والأشمل، والأقرب إلى روح العصر، خصوصا بأشكاله الحديثة والمتطورة خارج العلبة المسرحية التقليدية. كما أنه الفضاء المحتوي على سائر الثيمات الفنية من نص أدبي ودراما وتشكيل وشعر وموسيقى ورقص وسينما وإبداعات أدائية حركية وبصرية وسمعية.
وهو الأقدر كذلك على استغلال هامش الحرية المتاح لتفجير قضايا مصيرية وجادة بصيغ ذكية منفلتة من التضييق ومقص الرقيب، لاتكائها على حيل كثيرة منها اللجوء إلى التاريخ وإلى الرموز والإسقاطات والأقنعة.
تتميز عروض المونودراما بقدرات أكبر على ممارسة هذه الأدوار المسرحية المتعددة، الفنية والاجتماعية، التنويرية والتثويرية، لكونها أعمالا مكثفة مركزة إلى أبعد الحدود، في بؤرة الدائرة الزمانية والمكانية والمشهدية الضيّقة التي يشغلها ممثل واحد، حيوي الطاقة بالضرورة، ليمكنه تمرير الرسائل كلها وإحداث التأثير المرجوّ وفق منظومة تفاعلية.
هذه الأهداف كلها، وغيرها، حرصت عليها عروض الدورة الثالثة من الكرنفال الدولي القاهري على مسارح البالون ودار الأوبرا المصرية، إلى جانب اهتمام المهرجان بتكريم الرموز من المسرحيين، والورش الموازية حول المسرح الحركي، لكل من الفرنسي فرانسوا كيليكا ولوندري آمون من ساحل العاج، ومسابقة الكتابة المسرحية، و”منصة الحكواتي” بمشاركة أوروبية وعربية، وغيرها من الأنشطة الداعمة لوجوه المسرح المدهشة.
مناهضة القسوة
اتسمت عروض مهرجان المونودراما بالرهافة والعزف على أوتار هشة وحساسة، بنزعة عاطفية وتدفقات انفعالية، من أجل استثارة كوامن الحياة في طبقات الإنسان العميقة المتوارية تحت السطح الجامد البارد، وتحسّس ما بقي من الخميرة النشطة، والجمر المتّقد تحت الرماد، وفي جوف أنقاض العالم الخرب.
عروض مهرجان المونودراما اتسمت بالرهافة والعزف على أوتار هشة وحساسة، بنزعة عاطفية وتدفقات انفعالية |
انطلق العرض الكوري “المنزل” من أغنية شاعرية، فجّرها لقاء فتاة مع روح أمها الراحلة عن دنيانا منذ سنوات. واستثمر العرض هذه الطاقة النورانية الآتية من المجهول في إضاءة الواقع الحالي المر، وفضح ويلات الحروب والشرور، وتعرية الأحوال المتردية للبشر، الضائعين في الزحام، المتنافسين من أجل الاستئثار بالقوة والمال، متناسين جدوى الحب، أهم ما في الوجود.
بدوره، مضى مسرح ساحل العاج صوب مناهضة العنف والوحشية والطبقية من خلال عرض “إس.إس.إس.إل.إل.إل”، المنتمي إلى ما يُعرف بـ”مسرح القسوة”. وأبدع العرض في المزج بين التحدث والصمت، والنص والارتجال، والتمثيل والحركة والرقص، من أجل كشف المستور حول حياة المشرّدين والهامشيين الذين يعانون أوضاعا صعبة، تئن فيها الروح قبل الجسد.
من بواعث أهمية وخصوصية مهرجان المونودراما التفاته إلى هذه الفئات الاجتماعية المنسيّة، ليمنحها دور البطولة لدقائق معدودة على المسرح. ومن ذلك أيضا ما فعله العرض المصري “الممثل”، الذي أسند بطولته لفنان غير معروف “كومبارس”، يحلم بفرصة حقيقية. لكنها لم تأت له طواعية، فخلقها بيده خلقا بواسطة حبسه جميع الممثلين في غرف خلع الملابس، ليطل على الجمهور منفردا، كاشفا سوءات حياته الهزلية الدامية.
انتصرت عروض المونودراما للعاديين والبسطاء، فهي مسرحيات تنطلق من الذات الفردية في الأساس، وتنخرط في اليوميات والتفاصيل، شأن القصص القصيرة، وقصائد النثر، المفتّشة عن ومضات باعثة على إشعال ما لم يخمد بعد من معان وأحاسيس.
وقد انحاز عرض “ورد” من سلطنة عمان للثورة والحب معا بإبراز استماتة شاب ريفي زرع وردة ووقع في غرامها. وظل يدافع عنها حتى الموت أمام حاكم جائر احتكر الزراعة والحصاد لنفسه فقط، تاركا الفقر والجوع والهموم للمزارعين المقهورين المسجونين في بيوتهم.
كذلك تناولت أغلبية العروض هذه الشرائح الاجتماعية المغلوبة على أمرها، ومنها مسرحية “الكنّاس” من ليبيا، المأخوذة عن مسرحية “الزبال” للسوري ممدوح عدوان. وفيها خلط فانتازي بين التهميش الاجتماعي والسياسي الإجباري، وبين أن يرتضي الذليل لنفسه أن يكون هو تلك “الكناسة” الملفوظة في المجتمع.
وتصدت عروض مهرجان المونودراما لويلات الحروب وشرورها حول العالم، على اعتبار أن هذه الحروب مسؤولة عن القسط الأكبر من الدمار والفزع والفقر والتشرّد للملايين من أبناء الشعوب المختلفة. كما أعلت المسرحيات من قيمة علاقات الحب المتبادلة بين البشر، بوصفها بداية العودة إلى الجذور والأصالة والطبيعة الإنسانية الحرة البريئة.
في هذا الإطار، اعتبر عرض “فقدان” من جنوب السودان أن الضياع الملازم للإنسان منذ مهده إلى لحده هو بسبب هذه الحروب. وذلك بتصوير لجوء أم ورضيعها إلى الغابة والعالم الوحشي هربا من المعارك والأسلحة التي اجتاحت كل المدن والقرى، إذ لم يعد هناك ملاذ من القتل سوى الهرب إلى تهلكة أخرى.
دارت أجواء عرض “سومريون” العراقي السويدي حول مآسي العراق في الوقت الحالي، وجراحاته المضنية التي سببتها الحروب والانقسامات. وجعل عرض “مكالمة تليفونية” الروسي العشق مرادفا لعودة الموتى إلى الحياة. كما كثفت مسرحية “رسائل” المصرية الضوء على المحبة والمشاعر اليقظة الكامنة في الضمير.
خارج الإطار
طرحت عروض مهرجان المونودراما أفكارها ومعالجاتها وتقنياتها المتفوقة خارج الإطار النمطي. فهذه الثيمات المسرحية الفردية هي مجال فسيح للتجديد والتجريب وإطلاق ملكات الذات، ومدّ نطاق الرؤية والخيالات إلى أقصى حد، وبلورة آخر ما وصل إليه الفن المسرحي على أيدي فرق الشباب والأجيال الراهنة.
ولم يكن غريبا، على سبيل المثال، أن يلعب “شَعْر” امرأة دور البطولة في العرض الألماني الذي جاء عنوانه أيضا مفردة “شَعْر”. وجاءت الأساليب المتابينة لتعامل المرأة مع شعرها بإسداله وتضفيره وقصّه وتغيير نمط تصفيفه وملمسه وما إلى ذلك.. كمرايا عاكسة لانحيازات الإنسان وقراراته واختياراته وقناعاته الفكرية ومواقفه السياسية، في طرح أدائي حركي عجائبي مثير.
كما عنيت عروض مهرجان المونودراما بما بين السطور، وبالمجهول والمسكوت عنه، وبكتابة الامّحاء، وقراءة الصمت، وتتبّع الأمراض التي ربما لا يعرفها الطب التشخيصي الاعتيادي. وهنا تكون للفن كلمته الاستباقية. ومن ذلك، ما قدّمه العرض التونسي “تلاشي” حول مرض الفقدان التدريجي للبصر الذي ظل بطل العرض يحاربه خارج دائرة الطب، خوفا من أن يتطوّر إلى فقدان للبصيرة، وأن تنتقل العدوى إلى كل عربي.
في هذا الطقس التخييلي الجارف، أظهر العرض الكويتي “أحضان الموج” ذلك الحبر السري المكتوبة به خبايا العلاقة التبادلية بين البحّارة وأمواج الحياة المتلاطمة التي تذهب بالبشر بعيدا، بغير رجعة أحيانا. وفجّر العرض الإسباني “اذكرني” ثورة في التعبير المسرحي الحديث، القائم على دمج الرقص المعاصر وفنون الجسد والتشكيل والشعر في كيان واحد متكامل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق