ما هو الوعي ؟ .. هنري برجسون - ترجمة د. علي مقلد
مجلة الفنون المسرحية
ما هو الوعي ؟ .. هنري برجسون
إنك تعتقد تماماً أنني لن أعرف شيئاً بمثل هذا التحديد الضيق وبمثل هذا الحضور الدائم أمام تجربة كل منا . ولكن دون إعطاء تحديد للوعي أقل وضوحاً منه ، أستطيع أن أميزه بسمته الأكثر بروزاً : الوعي يعني قبل كل شيء الذاكرة . قد تفتقر الذاكرة الى الإتساع ، وقد لا تشمل إلا قسماً من الماضي . وقد لا تحفظ إلا ما حصل من قريب . ولكن الذاكرة تكون موجودة والا لا يكون الوعي موجوداً فيها . فالوعي الذي لا يحفظ شيئاً من ماضيه والذي ينسى ذاته باستمرار يتلف ثم يولد في كل لحظة : والإ كيف يمكن تعريف اللاوعي بغير هذا ؟ عندما قال (ليبنتز) أن المادة " هي روح آنية " ، ألم يصرح بقوله هذا عن قصد أم عن غير قصد ، إنها غير حساسة وإنها لا تعي ؟ كل وعي هو ذاكرة إذا : احتفاظ وتراكم الماضي في الحاضر .
ولكن كل وعي هو استباق للمستقبل . أنظر الى توجه فكرك في أية لحظة : نجد أنه يهتم بما هو قائم ، إنما من أجل ما سوف يكون . إن الانتباه هو انتظار ، ولا يوجد وعي ، بدون انتباه للحياة . المستقبل ، هناك انه يدعونا بل إنه يجرنا اليه : وهو الجر الذي لا ينقطع ، والذي يجعلنا نتقدم فوق طريق الزمن هو أيضاً دافع يدفعنا الى التحرك باستمرار ، وكل عمل هو تطاول على المستقبل .
الإمساك بالشىء الذي لم يعد موجوداً ، واستباق ما لم يتوجد بعد ، هذا هو الدور الأول للوعي . والوعي ليس له حاضر إذا اقتصر الحاضر على اللحظة الحسابية . فهذه اللحظة ليست إلا الحد النظري الخالص الذي يفصل الماضي عن المستقبل .
هذه اللحظة يمكن عند الضرورة تصورها ، انما لا يمكن إدراكها أبداً ، وعندما نظن أننا فاجأناها ، تكون قد ابتعدت عنا . إن ما ندركه في الواقع هو نوع من تكثيف المدة التي تتألف من قسمين : ماضينا القريب المباشر ومستقبلنا الداهم . إلى هذا الماضي استندنا ، والى هذا المستقبل تطلعنا ، والاستناد والتطلع هما من خصوصيات الكائن الواعي . فلنقل إذاً إذا شئت أن الوعي هو همزة وصل بين ما كان وما سيكون . انه جسر بين الماضي والمستقبل . ولكن لماذا يستعمل هذا الجسر ، وماذا يطلب الى الوعي أن يفعل ؟ .
(*) الطاقة الروحية ، هنري برجسون ، ترجمة د. علي مقلد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق