أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأربعاء، 2 أغسطس 2023

حين يُصبح كرسي العرش هشاً كالزجاج! "الملك لير" أفريقياً! على خشبة المسرح الأفريقي اللندني كوكرين Cochrane

مجلة الفنون المسرحية


  حين يُصبح كرسي العرش هشاً كالزجاج!   "الملك لير" أفريقياً!  على خشبة المسرح الأفريقي اللندني كوكرين Cochrane 


علي كامل: لندن


لير: هل هنا من يعرفني؟ 

هذا ليس لير.. أيمشي لير هكذا؟ أينطق هكذا؟ من له أن يخبرني من أنا؟
    
البهلول: أنت ظلّ لير يا سيدي.

لم تشهد مسرحية منذ إسخيلوس وسوفوكليس حتى يومنا هذا جدالاً وخلافاً في الرؤى والتأويلات مثلما شهدته مسرحية "الملك لير" في أوساط الفلاسفة والكتّاب وعلماء النفس والنقاد والمخرجين على حد سواء. ربما بسبب المزج الفائق بين الأخلاقي والديني والسيكولوجي والسياسي بهذا الشكل الهارموني الفريد، فالبعض اعتبر المسرحية هي أعظم ما كتب شكسبير إطلاقاً، فيما البعض الآخر، ومنهم تولستوي مثلاً، كان قد اتهمها بالركاكة والسخف، ومنهم من أضفى عليها بُعداً دينياً

ودرساً في الأخلاق الرواقية أمثال إدوارد داروين. أما فرويد، فقد كشف عن مديات أخرى لمغزى المسرحية عبر تقصيه المضامين الأسطورية والصلة القائمة بين النورنات الثلاث (*) وآلهة القدر والجمال عند الإغريق، أي العلاقة بين الثلاثيات الأنثوية وبنات لير الثلاث وتحّول إلهة الموت إلى إلهة الحب، وتوحّد كورديليا، ابنة لير الصغرى، مع كلتيهما. ما أراد فرويد التوصل
إليه هو أن مغزى الملك لير يكمن في الرفض المأساوي من جانب رجل عجوز في "التخلي عن الحب واختيار الموت ضرورة لتوطين النفس". أما الناقد البولوني يان كوت، فقد كتب: "لا توجد في مسرحية الملك لير شخصيات بالمعنى الرومانسي أو الواقعي، أما عنصر المأساة هنا فقد حل بدله العنصر الغروتسكي، وهو عنصر أشد قسوة من المأساة". 
النقاد الأكثر تفاؤلاً ولعل برادلي أبرزهم، فقد كتب يقول: "الملك لير هي أكثر المسرحيات توليفاً لمغزى القانون والجمال الذي نُحسّه في الآخر. ليس الحزن أو اليأس، إنما إحساس الخوف في الألم ووقاره الملغز الذي يصعب علينا سبر أغواره".

 فرقة "تالاوه" المسرحية الزنجية غامرت بجرأة في تقديم الملك لير بطاقم فني وتقني خليط
العرقية "أفريقي، آسيوي وأوروبي"،‬ ربما بهاجس أو حافز من الراحل بيتر بروك ومركز بحوثه المسرحي في باريس الذي كان يهدف في مشروعه الجمالي إلى مزج الثقافات وإقامة حوار بينها. 


المخرجة الزنجية إيفون برويستر في معالجتها الإخراجية لهذا النص استطاعت أن تتخطى حاجز 
العرقية وهي خطوة مدهشة وخطيرة في ذات الوقت. ‬‬‬‬‬‬‬والمخرجة إيفون برويستر هي من أصل جامايكي قدمت إلى لندن في أواسط الثمانينات وأسسّت فرقتها الموسومة "تالاوه". وقد أخرجت عشر مسرحيات أبرزها "الطريق" لسوينكا، و "رائحة البرتقال" التي هي من تأليفها، ومسرحية "فضاء الحب" لنتوزاك شانج، وعرضها المميز "ذهب أراواك" وهو بانتوميم جامايكي قام بأدائه كارمن تيبليج وتيد دواير.
عُرفت إيفون بنشاطها المسرحي البارز في مسارح جامايكا وبعض الدول الأفريقية والولايات المتحدة قبل مجيئها إلى لندن. فضلاً عن ذلك إيفون تمارس تدريس مادة الدراما، وقد صدر مؤلفها الأول المتكون من مجلدين عام ١٩٨٧ وهو بعنوان "المسرحيات السوداء".

                                                                     ***

                                   حين يصبح كرسي العرش هشاً كالزجاج!


لير: أما من نجدة؟ ماذا، أأسيرٌ أنا؟ 

إن أنا إلا أضحوكة الدهر. أحسنوا معاملتي. ستُدفع لك الفدية.

جيئوني بجرّاحين، إني مُجرّحٌ حتى الدماغ. 


ما أن تدخل قاعة مسرح كوكرين حتى تُفاجئ بصدى أنفاس ثقيلة أشبه بالأنين تأتيك من عمق المسرح والعرض بعد لم يبدأ. إنها أنفاس الملك العجوز لير ممتزجة بريح تزوم في الخارج. تُفتح
كوة ضوء من خلفية المسرح فيطالعنا معمار السينوغرافيا الغرائبي، حيث الجدران وقد اكتست بالسواد، وثمة حبال سميكة حمراء أشبه بقضبان تسيّج خشبة المسرح، تتدلى من السقف مثبّتة بأوتاد حديدية في الأرض. أما كرسي العرش المصنوع من الزجاج فقد احتل مركز خشبة المسرح تضيئه مصابيح من الأسفل، ومن الأعلى تدلّت قماشة بيضاء كبيرة أشبه بغيمة.

هذه اللوحة لوحدها، والعرض لم يبدأ بعد، كافية لمنح المتفرج انطباعاً مشوباً بالخوف والترقب والدهشة. صورة توحي بطقس جنائزي لمملكة سجينة ينتظرها هلاك وعتمة. فجأة تقرع الطبول ويدخل لير (الممثل بن توماس) يسحب أقدامه المتعبة، ملك أشبه بطوطم، بمشية متغطرسة وصوت أجش وعيون مطفأة، عيون حاكم مستبد، حاكم سينتهي إلى شبح ملك أو ظلّه كما يقول البهلول. إنها ملامح وجه ملك معكوسة على حطام مرآة مهشمة، هي خليط من الألم والندم والإثم. إنه لير الهش هشاشة عرشه الزجاجي.


على العكس من أسلافه ومعاصريه، لم يطرح وليم شكسبير في تراجيدياته أهدافاً أخلاقية ذات سمات محددة تتناغم وأخلاقية عصر النهضة، إنما كان يسعى إلى إخضاع كل تلك القيم الأخلاقية إلى اختبارات قاسية ومريرة، وهذا الأمر يجد تعبيره الساطع في مسرحية الملك لير، فكل شيء 
هنا يخضع للتجربة والاختبار: الحب، الكراهية، الزنا، الشرف، الصدق، التزلف، الغنى، الفقر، العقل، الجنون، الطبيعة، المجتمع، العدالة والجور، وأخيراً الملك والسلطة.

على الرغم من وجود حبكتين في المسرحية، الأولى والرئيسية، ممثَّلة بالملك لير وبناته الثلاث ريغان، گورنيل وكورديليا. وفي متن هذه الحبكة يتخلى الملك عن مملكته لابنتيه ريغان وگورنيل 
ويحرم ابنته الصغرى كورديليا من حقها في المملكة. أما الحبكة الثانية والثانوية، فهي تتمثل بشخصية ﮔلوستر وأولاده، أدموند "الابن غير الشرعي" الذي يمنحه والده السلطة، والابن الثاني إدغار "الابن الشرعي" الذي يُحرم من السلطة بسبب وشاية من شقيقه أدموند وتلفيقه لرسالة تشي عن نية إدغار في قتل أبيه وتقاسم السلطة مع أخيه.

ما فعلته المخرجة إيفون برويستر، رغم وجود هاتين الحبكتين، أنها سعت إلى تأمل العالم الداخلي لبطلها لير. بتعبير آخر أدق، أخضعت وعي لير إلى اختبار واختيار بين عالمين، عالم السلطة وروح الاستبداد وفردية القرار، عالم البلاط المترع بالأقنعة والولاءات الزائفة، حيث الأنذال بريئين والشرفاء خونة، وبين عالم الطبيعة الحر، البرية، وسط العاصفة، هناك حيث يتجرد لير ليس من ثيابه فحسب، إنما من وعيه الزائف. عالم يخلو من العسس والدسيسة والولاءات الكاذبة
والتسلسل الهرمي. 
إنَّ الصدع الأكبر في مأساة لير هو جهله بمعرفة ذاته. هنا وسط العراة والشحاذين والمجانين فقط يستطيع أن يسترد نقاء وعيه وعافيته، ولكن متى؟ فقط حين يفقد قواه العقلية.
 
في جنونه، يكتشف الملك لير كل حماقاته، مدركاً لأول مرة، خطأه الفادح وسقوطه المدوّي وهو 
في عقده الثامن. والسقوط هنا يتجاذبه الروحي والمادي معاً، ولعل الناقد البولوني يان كوت هو أفضل من أضاء هذا الجانب بقوله: "... في البدء كان ثمة ملك ذو بلاط ووزراء. بعد ذلك، ليس هناك سوى شحاذين أربعة هائمين في البرية تتناوشهم الرياح الغضبى والأمطار الهامية... للملك لير حاشية من مائة رجل، ثم خمسين، ثم رجل واحد فقط هو.. البهلول..".
تجربة الإذلال والبؤس التي يخضع لها لير وسط المعوزين والمشردين والمجانين بعيداً عن السلطة تكشف له عن الصدأ العالق في وعيه وافتقاره إلى القدرة على التمييز بين الزائف والحقيقي. أما موته هو وابنته الصغرى كورديليا في هذا الفضاء الأجرد القاسي والعاصف، فما هو إلا نوعاً من تطهير الذات من مستنقع أدرانها. 
حين يرى لير إدغار، الذي ظنه والده ﮔلوستر خائناً، وقد تشرّد هو الآخر في ثياب شحاذ مجنون، يخاطبه قائلاً:
".. لخير لك أن تكون في القبر من أن تتحمل قسوة السماوات بجسدك المعرّى. أهذا هو الانسان كله؟ تأملوه جيداً. لستَ مديناً للدودة بحرير، للثور بجلد، للخروف بصوف، للقط بعطر. نحن 
الثلاثة هنا ملفِّقون. وأنت، أنت فقط الشيء الحقيقي. فما الانسان بلا رياش إلا هذا الحيوان المشطور الأجرد المسكين الذي هو أنت. إليكِ عني أيتها الاستعارات. تعال فك أزراري هذه. (يمزق عنه ثيابه)". 

حين يصاب بلوثة الجنون في مشهد العاصفة، يكتشف لير في نفسه الإدراك الفطري والحديث التكّون للدلالات الحقيقية للمملكة خارج نطاق السلطة السياسية:
"أيها التعساء العراة المعدمون أينما كنتم، وأنتم تحتملون ضربات هذه العاصفة التي لا ترحم. أنّى لرؤوسكم بلا مأوى وجوانبكم بلا طعام، وشعثكم مثقّب مخرق، أن تقيكم هول مواسم كهذه؟ 
آه، ما أقل ما عنيت بهذا. اجرعي الدواء يا أبهة. نفسك عرضيّها لتُحسّي ما يُحسّه التعساء لعلّكِ تنفضين كل فيض عنك لهم فتبدو السماوات أكثر عدلاً وقسطاطاً".

عندما يفقد ﮔلوستر بصره بعد أن سملت عينيه بأمر من ولده أدموند، الذي ظنه مخلصاً، توجّه هو الآخر إلى البرّية بحثاً عن الملك لير. 
العمى هنا، هو الآخر ترميز لعمى القرار، عمى السلطة التي تصنعها الآثام والخديعة والفتنة وشهوة الجلوس على العرش.

الحبكة الثانوية للمسرحية هذه ما هي إلا صدى أو انعكاساً لضوء الحبكة الرئيسية، فهي صورة مصغرة أخرى للفساد الأخلاقي والجور الانساني. 

إنَّ رؤية سياسية كهذه لم تكشف عظمة النص الشكسبيري وقدرته على التناغم مع كل الأزمنة فحسب، إنما فتحت باب التأويل على مصراعيه لافتراض أمكانية أن يكون الملك لير أسود أو أبيض أو أصفر، بعيداً عن العرقية وقريباً من الانسان، وهذا ما جسّده العرض الذي كان يضم طاقماً متعدد الجنسيات والأعراق.
الجدير بالذكر أن بن توماس هو الممثل الأسود الوحيد في بريطانيا الذي لعب دور الملك لير. ربما ايرا ألدريج، الممثل الأسود، فقط هو من سبق بن توماس في لعب هذا الدور عام 1959.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)

النورنات: آلهة القدر الثلاث اللواتي يتحكمنَّ في مصائر البشر، حسب الميثولوجيا الاسكندنافية، وهنَّ أخوات ثلاث: أورد (الماضي)، فرداني (الحاضر) وسكول (المستقبل). الإلهة أورد كانت عجوزاً تتطلع نحو الماضي، فيما تتطلع فرداندي نحو الأمام صوب الحاضر، أما سكول فكانت تمثل المستقبل وتتطلع باتجاه معاكس لاتجاه أورد. وحسب الأسطورة الاسكندنافية، النورنات الثلاث هذه تحدّد قدر الإنسان والآلهة، وكان الإسكندنافيين القدماء يعتقدون أن ثمة نورنات صغرى وأن هناك واحدة لكل شخص. 

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption