الاحتفالية بين عالم يتغير وعقل عربي متحجر ــ121/ د.عبد الكريم برشيد
مجلة الفنون المسرحية
الاحتفالية بين عالم يتغير وعقل عربي متحجر ــ121
فاتحة الكلام
لست ادري ان كان من حقي ان اعطي النصائح لمن يريد ان يدخل عالم هذا المسرح
وفي مثل هذا الحال اجد نفسي اتساءل، ومن اعطاني الحق في أن اكون في هذا المسرح معلما، وأن أكون فيه فقيها، وان اكون مفتيا؟
ــ وهل الأمر بهذه السهولة و بهذه البساطة، وذلك في صناعة مسرحية مركبة و معقدة وماكرة وزئبقية؟
واجدني في كل الحالات اقول في هذا اليوم نفس الكلام، وأراد نفس الكلام التالي:
ــ وهل من يدخل هذا المسرح يدخله باختياره؟
ــ وهل من يعرف باب البيت المسرحي فقط، يمكن ان يعرف ما بداخله من اسرار خفية؟
ــ ومن يعرف كيف يدخل هذا المسرح، هل يمكن ان يعرف كيف يخرج منه بسلام، او باقل الأضرار على الأقل؟
ويقول الاحتفالي، بان هذا المسرح هو دنيانا الحقيقية، والتي تختارنا قبل ان نختارها، ونحن في هذه الدنيا المسرحية نولد مسرحيين، ونحن في مسارها الوجودي نتعلم من غير معلم، وبهذا يكون أصدق المعلمين، في هذا المسرح هو المشاهدة وهو القراءة وهو التجربة وهو المعايشة وهو المعاناة الصادقة، اي ان نعيش المسرح اولا، ومن بعد نعرفه ويعرفنا، وتصبح هذه المعرفة في درجة الحب، ويصبح بيننا وبينه الفة وصحبة ورفقة ومودة ورحمة
ولقد وجدت في هذا المسرح، وفي اكثر من مرة، من يسالني من الشباب نفس السؤال، والذي هو :
ــ بماذا يمكن ان تنصحني ايها المسرحي المجرب؟
وهل يمكن للكاتب الذي يسكنني، والذي قال في اكثر من مناسبة ( السائر في الطريق ادرى بالطريق، وبان صاحب الجرح ادرى بالجراح) ان يوجه النصائح لمن يمشي مثله في الطريق، ولمن يفترض فيه ان يعرف الطريق الذي اختاره، عن حب و اقتناع، وعن عشق وشغف؟
واعتقد ان الطائر الذي يطير في السماء، لا يحتاج لمعلم يعلمه كيف يطير، وهو بهذا لا يمكن ان يكون بحاجة لأن يدخل مدرسة الطيران حتى يطير، ولا كان له في يوم من الأيام معلم في هذه المدرسة، من غير الفطرة طبعا، ومن غير الحس السليم، وغير الذوق القويم، وفي نفس هذا المعنى يقول المثل العربي ( الديك الفصيح من بيضته يصبح)
نعم، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمسرحي، في خطواته الأساسية الأولى، واعلم ايها المسرحي الشاب ان أصدق كل المعلمين هو انت، فعلم نفسك بنفسك، و استفت قلبك، و انصت إلى الأصوات الخفية التي تاتيك من داخلك، وكن انت المسرح، حتى يكون المسرح هو انت، وتاكد بان من يحب المسرح حبا صادقا يحبه المسرح، واياك ان تعتقد انه من الممكن ان يكون ببنك وبين هذا المسرح زواج شرعي، وان يكون هذا الزواج زواج متعة عابرة او زواج منفعة ظرفية، وإذا اعطيت انت كل شيء فيك لهذا لمسرح، فإنه في المقابل لا يمكن ان يعطيك إلا شيئا قليلا جدا منه
وكيف تنتظر مني ان انصحك ابها المسرحي الجديد، وانت تعلم بان مسرحك غير مسرحي، وان زمانك غير زماني؟ وإذا كنت انا قد عجزت عن معرفة مسرحي، والذي ينتمي في جزء كبير منه إلى الماضي، و ينتمي جزء صغير منه إلى الحاضر، فكيف يمكن ان اعرف مسرحك انت، والذي هو مسرح موجود في الغيب، اي في ذلك الزمان الآتي غدا او بعد غد؟
وعليه، فإنني اكتفي بان أهمس في اذنك بالكلمات التالية، والتي لا يمكن ان ترقى لأن تكون في درجة نصائح، او في مستوى تعليمات او إملاءات، لأنه لا تعليمات ولا إملاءات في الفن والفكر،. اقول لك :
ــ انت لست انت، في كل الحالات والمقامات وفي كل السياقات، لأنك اساسا حركية وطاقة محركة، ومن غير المعقول ولا المقبول أن تكون انت هو انت في تجربتين مسرحيتين مختلفتين، وانت بهذا ممنوع من ان تكون نفس الكاتب في لحظات متباعدة، ولهذا فاحرص على ان لا تقلد نفسك، وعلى ان لا تستنسخ نجاحك، وعليك ان لا تقف عند تجربة عابرة واحدة وتقول هذا هو مسرحي.. كل مسرحي.. و مسرحك الحقيقي هو الذي سوف ياتي ..
ــ وكن دائما حيث تريد انت ان تكون، اي في المقام الذي يليق بك، و لا تكن حيث يراد لك ان تكون، في المقامات الدنيا، او في المواقع الجانبية و الهامشية، وكن حاضرا في كل الملتقيات والمنتديات، محتفلا مع كل المحتفلين ومعپدا مع كل المعيدين، و افرح مع كل الفرحين، وابتعد، بالقدر الذي تستطيع، عن الماتميين وعن العدميين وعن الظلاميين
ــ و طهر نفسك من الإشاعات ومن كثير من المقولات الخاطئة، ولا تصدق كل ما يقال وكل ما يكتب، ومارس آلية النقد مع كل ما تسمع وترى ومع كل ما تشاهد, ومع كل ما تقرا، وانتقد نفسك قبل ان ينتقدك الآخرون، وثق بنفسك وبتجربتك، في الحدود التي لا تصل الى درجة الغرور ..
ــ و احرص على ان تكون خارج اليمين وخارج اليسار، وان تكون في الأمام دائما، وان لا تلتفت خلفك، إلا من اجل ان تعرف اين انت، ومع من انت، وحاول ان تشبه ايامك، وان لا تتخلف عن ساعتك البيولوجية قبل ساعتك الميكانيكية او الإلكترونية، و احرص على ان تكون حديثا خارج عنوان الحداثة، وعلى ان تكون في الطليعة، فكريا وجماليا، وألا تخدعك مصطلحات الجرائد اليومية، لأن الحقيقة فيها هي حقيقية يومية وظرفية
وضع في ذهنك الحقيقة البسيطة التالية، وهي انني انا غير انت، فانا القادم من الماضي وانت القادم من الآتي، ومن الممكن جدا ان نلتقي في الملتقيات العامة، وان نفترق في الملتقيات الخاصة، وان المطلوب منك هو ان تعطي ما لم أعطه انا
ــ احد البيانات الاحتفالية الأولى اكد على ما سماه قانون ( التحدي و التجاوز) ولهذا فإنني اقول لك ما يلي: إذا كان ضروريا ان تتحدى احدا، فابدأ بنفسك اولا، ومارس التحدي على تجربتك اولا، واعمل على ان تتحدى ذاتك، وعلى ان تتجاوز نفسك، وعلى ان تكون اليوم غير ذلك الذي كنته بالأمس
ــ و سر في طريقك خطوة خطوة، واعلم بان رحلة المايل تبدا بخطوة، والتي هي الخطوة الأولى، والتي تعقبها بعد ذلك خطوات بعد خطوات، وعش اللحظة كاملة، وحاول ان تخرج من اية تجربة جديدة بفكرة جديدة و برؤية مسرحية جديدة
ــ وكن في مسرحك صاحب راي، وقل هو راي واحد بين كل الآراء، وقد يكون رايك هذا صادقا، كما قد يكون خاطىئا، وان كان صائبا فدافع عنه، بالحجة والبرهان، وان كان خاطئا، فقم بتصويبه
ــ واقرا في هذا المسرح اكثر مما تكتب، وشاهد اكثر مما تسمع، و احضر أكثر مما تغيب، و عش حياتك في مسرحك، و عش مسرحك في حياتك، وكن مسرحيا داخل المسرح وخارج المسرح، واعلم بانه لا وجود لأي عالم خارج عالم المسرح
ــ ولا تسابق احدا من المسرحيين، وسابق نفسك فقط، وكن اليوم في مسرحك غير ما كنته بالأمس، واياك ان تفوتك لحظة لا يحضر فيها المسرح، ولا يصاحبك فيها السؤال المسرحي، واعلم ان العمر، مهما طال قصير جدا، وان المسرح طويل وعريض و عميق وأزلي وسرمدي وأبدي، وخالد، وردد مع أم كلثوم وهي تغني :
( وإن مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عمري
وبالتاكبد فإن وجود يوم بلا مسرح، هو يوم بلا حياة وبلا حيوية وبلا جمال وبلا جمالية وبلا معنى، كما ان وجود وطن، بلا مسرح صادق، وبلا نبوءة مسرحية، هو وطن بلا روح وبلا حياة
كما تكون أنت يكون مسرحك
وخوفا على المسرحي، من التيه في هذا المسرح، والذي هو بحر بلا ضفاف، يقول هذا المسرحي الاحتفالي لذاك الشاب السائل، ولكل من يهمه الأمر ما يلي:
ــ اعرف نفسك اولا، لتعرف مسرحك ثانيا
ــ واعرف مسرحك حتى تعرف نفسك
ــ واعلم ان مسرحك موجود بداخلك، وان المسارح لا تباع في الدكاكين ولا في الصيدليات، ولا في الأسواق العامة
ــ وكن صادقا مع نفسك، اذا كنت تريد ان تجد نفسك، وإذا وجدت نفسك فقد وجدت مفتاح العالم، وإذا وجدت مفتاح العالم فإنه من الممكن ان تفتح امامك كل ابواب المسرح وكل نوافذه وكل شرفاته ــ واياك ان تخدع نفسك، وان تقتنع بأنه من الممكن ان تكون أي احد غيرك، وان ترتدي غير زيك، وان تضع على وجهك قناع غيرك، وان تنطق بغير لغاتك الحية
ــ و اعرض وجهك صباح كل يوم على مراتك الداخلية، و صدقها اذا كانت صادقة، و احرص على ان لا تخدعك المرايا الخادعة، وابتعد بالقدر الذي تستطيع عن كل المرايا الكاذبة، ولاتثق بالمرايا المكسرة، والتي يمكن ان تجد فيها صورتك مكسرة، ولا تثق بالمرايا المقعرة، والتي قد لا تعطيك حجمك الحقيقي، و اهرب من المرايا المجاملة
ــ عش لحظتك الحية بصدق، ودع الباقي ياتي من تقاء نفسه، واعلم بان كل لحظة( تؤسس ابداعها، و تؤسس فنها، و تؤسس فكرها، و تؤسس حفلها المختلف والمغاير، والذي لا يمكن ان يشبه إلا ذاته الواحدة والوحيدة، والذي لا يمكن ان يكرر هذه الذات اكثر من مرة واحدة، ولعل هذا هو ما جعل المسرح الاحتفالي يجدد ولا يكرر، ويجعله يؤسس ولا يقتبس، ويجعله يبدع ولا يتبع، ويجعله يحيا اللحظة العيدية ولا يحكيها، ولا يحاكيها) هكذا تحدث الاحتفالي في كتاب ( زمن الاحتفالية)
ويقول الاحتفالي بأن هذا المسرح صعب سلمه، وان هذا السلم الذي يصعد إلى الأعلى لا يرتقيه إلا الذي يعلمه ويفهمه ويعيشه ويعشقه بشكل حقيقي، هكذا أقول انا، وهكذا أكتب دائما، ويخطئ من يظن أنه يمكن أن يمارس الفعل المسرحي ممارسة آلية ومزاجية وعشوائية وبلا معنى، أي بدون شغف وبدون معرفة، وبدون علم، وبدون فهم، وبدون خيال، وبدون حلم، وبدون تعلق بذات هذا المسرح أولا، وبذات ذلك المسرحي الذي يسكننا ونسكنه ثانيا، وثالثا، بذات تلك اللحظة التاريخية الممسرحة الحية، والتي نحياها، ونحيا بها وفيها، والتي نحتفل ونعيد فيها، والتي لا يمكن إلا أن نشبهها لحد التطابق التام، تشبهنا في الكليات وفي الجزئيات وفي الثوابت و المتغيرات، وأن تشبهنا في كل شيء أيضا، وبالتأكيد، فإن كل لحظة مسرحية لا تشبه من يعيشها، ولا تشبه مكانها، ولا تشبه لحظتها الوجودية، فإنها لا يمكن أن تكون لحظة احتفالية ومسرحية و عيدية حقيقية. وقد تكون كل شيء الا تكون مسرحا خقيقيقا
ونحن في هذا العالم نحن نسكن المسرح، وعنواننا الحقيقي موجود في هذا المسرح الكبير، والذي يسمى الدنيا، نعم، هو موجود فيه وليس خارجه، وهذا ما قد لا تعيه كثير من الأفهام، والتي تبحث عادة عن الشيء الموجود خارج هذا الوجود، وذلك هو عين العبث، وهو عين اللامنطق، وكما أننا نسكن هذا المسرح، فهو يسكننا أيضا، وهو بهذا روحنا وجسدنا، وهو زينا الذي اخترناه، وهو جلدنا الذي اختارنا، وهو لغتنا الكبرى التي نعبر بها، والتي نتواصل بها ومن خلالها مع بعضنا البعض، ولهذا فقد كان مسرحنا الحقيقي أقرب إلينا من حبل الوريد ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري، ومع ذلك، فقد تخيل البعض منا بأن هذا المسرح غائب، مع أنه حاضر في حضورنا، وأنه حي بحياتنا وحيويتنا، ويخطئ من يعتقد أن هذا المسرح موجود فقط هناك وليس هنا، أي موجود عند الآخرين في الثقافات الأخرى وفي اللغات الأخرى وفي التجارب المسرحية الأخرى، وكيف يمكن أن يسيقيم ـ منطقيا وعقليا ـ أن نكون نحن موجودون هنا، وأن يكون مسرحنا موجود هناك، وأن ننطق نحن لغة عربية، وأن ينطق هو لغة إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية؟
مسرحنا إذن موجود فينا وفي لحظتنا، وقديما قال سقراط كلمته المشهورة ( اعرف نفسك) ومن ضيع نفسه، ومن ضيع لحظته، ومن ضيع هويته، ومن ضيع ذاكرته، ومن ضيع لغته، ومن ضيع إرثه الثقافي، ومن ضيع وعيه بذاته وبغيره و بالعالم، هل يمكن أن يجد مسرحه؟ واين يمكن ان يجده؟ خارج التاريخ وخارج الجغرافيا وخارج الذاكرة الجماعية وخارج المخيال الجماعي ..؟
في مسرحنا إذن كثير جدا من الوهم السقيم، وفيه قليل جدا من الفهم السليم، ونعرف أن من سيئات وسلبيات النقد المسرحي العربي اليوم، أنه لا يبدأ عمله النقدي من نقطة البدء الحقيقية، والتي هي إرادة المعرفة وإرادة الفهم، وبدلا عن ذلك، فهو يبدأ من نقطة إرادة الحكم والتحكم، ولعل هذا هو ما يفسر أن نجد هذا النقد غارقا في الأحكام الغريبة و العجيبة و المتناقضة، والتي لا تستقيم مع منطق الأشياء ولا مع منطق الفن ولا مع منطق الفكر، والذي لا يخلص إلى الحكم إلا بعد الفهم أولا، وهذا طبعا اذا جاز الحكم في مجالات الذوق و التذوق
المسرح بين الشعارات الكاذبة والاجتهادات الصادقة
هناك حقيقة أساسية و جوهرية ينبغي أن لا نقفز عليها، وهي أنه لا وجود لمسرح حقيقي بدون عشق حقيقي، وبدون شغف مسرحي حقيقي، وبالتأكيد فإن من يعشق هذا المسرح ـ والذي هو أبو كل الفنون ـ مطالب بأن يعرفه أولا، وهو مطالب بأن يبحث عنه ثانيا، وأن يصل إليه بعد ذلك، ومطالب بأن يعرف علمه وفنه وفقهه وآدابه وأخلاقه وطقوسه وصناعاته المتعددة والمتنوعة، وأن ينطلق دائما في بحثه واجتهاده وجهاده من الحقيقة الأساسية والجوهرية التالية، وهي أن الأساس في المسرح هو أنه فعل أولا، وأنه فعل حي ثانيا، وأنه فعل عاقل ثالثا، وأنه فعل حر رابعا، وأنه فعل محكوم بالتجدد الدائم خامسا، وأنه فعل جماعي واجتماعي سادسا، وهو بهذا علوم وفنون وصناعات متضامنة ومتحدة ومتناغمة فيما بينها، وهو تظاهرات وتمظهرات احتفالية وعيدية تصاحب الإنسان في حياته اليومية وفي مساره التاريخي العام، وفي هذا المسرح الحي لا يمكن أن تكون غائبا، أو ان تكون مغيبا، لأن شرطه الأساس هو الحضور الفاعل والمنفعل والمتفاعل، وذلك لأنه لا مجال للتعييد المسرحي إلا بالحاضرين المتمسرحين، ولا معنى لأي احتفال مسرحي يغيب فيه المحتفلون والمعيدون، ويغيب عنه موضوع الاحتفال، ويكون بلا مناسبة وبلا معنى وبلا هدف وبلا خطاب وبلا رسالة.
هذا المسرح، يسعى اليوم لأن يعيش زمنه الحقيقي، وبغير هذا فإنه لا يمكن أن يكون ذاته، وأن يكون في جلده وفي سياقه وفي شروطه الموضوعية الحقيقة، وما ينطبق على المسرح ينطبق على الإنسان بصفة عامة، ونعرف أنه في زمن مضى، وإلى عهد قريب جدا، كان الإنسان في العالم العربي يرتدي الجبة والطربوش والعمامة، وكان هذا رمزا لأصالته أو لسلفيته، وكانت ثقافته أيضا ترتدي نفس الزي، وكان الزي عنوانا عليه، ثم تغيرت خرائط التاريخ، وجاء من قفز قفزة إلى الأمام أو إلى الأعلى أو إلى اللاجهة، أو قفز إلى الآخر في الجغرافيا الأخرى، وانتقل إلى ارتداء القميص والبنطلون والبرنيطة، واعتبر أنه بهذا فقط، يمكن أن يكون معاصرا، وأن يدخل عصر العلم والتقدم والحداثة، وأن يقطع مع قرون طويلة من التخلف ومن التحجر ومن الانغلاق، ولقد اعتقد أنه بهذا العنوان الشكلاني والبراني قد حقق ثورة كبيرة وخطيرة في التاريخ، ولم يكن يعي بأنه قد استبدل سلفية بسلفية، وأنه انتقل من تقليد الآخر الميت إلى تقليد الآخر الحي، وفي الفعلين معا، لم يحضر العقل، ولم يحضر الإبداع، ولم يحضر الوعي النقدي، ولم يحضر الاجتهاد العلمي والفكري والجمالي، ولهذا فقد تم استبدال سلفية بسلفية، وإلى اليوم، مازلنا نكتفي بالزي الخارجي، ومازلنا نجري وراء الموضة العابرة، ونعتبر أن الظواهر المرضية في المجتمعيات الغربية هي جوهر تقدمها، ونرى الهامشي والعابر، ونعمى عن رؤية الأساسي والجوهري والحقيقي، وفي هذا المعنى يقول محمد شراك في مقالة ( المثقف الشمكار) لمجلة ( روافد) المغربية ( في المغرب مجموعة من الكتاب والمثقفين يرتدون جينز الحداثة بل وما بعدها، يتبجحون في الندوات والمنابر والمناظرات والتراث بمغرب الحداثة ضدا على الظلام، ينافحون عن مغرب التعدد في الرأي واحترام الاختلاف والتعدد في الرأي واحترام الاختلاف والتنوع: وعدم مصادرة الآراء .أو امتلاك الحقيقة و اليقين.. )
آخر الكلام
وفي تقديري الشخصي فإن أكثر الذين يرفعون شعار الحداثة اليوم هم أكثر الناس بعدا عنها، كما أن أكثر الأنظمة التي حملت اسم الديمقراطية لم تكن ديموقراطية، ابتداء من ألمالنيا الديموقراطية ووصولا إلى كل الجمهوريات العسكرية في العالم العربي وفي أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية، نفس الشيء يمكن أن نقوله عن مسارح تدعي الحداثة وما بعد الحداثة، وتدعي التجريب العلمي وهي غارقة في الفكر الأسطوري والغيبي وفي السلفية المقنعة
وإنني أتساءل دائما، أمام قولين مختلفين، أو أمام صيغتين اثنتين من القول، الأول يقول لك (حدثنا أبو هريرة قال) والثاني يقول لك ( حدثنا أبو رولان بارت قال) وأجد نفسي أسأل نفسي: أين الفرق بين هذين القولين، أو بين هاتين العقليتين؟ فهما معا ينطلقان من نفس المنطلق، الأول سلفيته واضحة ومكشوفة ومعلنة، والثاني سلفيته خفية ومخبأة ومهربة، ورغم أن الثاني يدعي المعاصرة والحداثة، أو ما بعد الحداثة، فهو سلفي التفكير والروح، وهما معا، السلفي السافر والسلفي المقنع، يقدمان فعلا يقوم على حضور الرواية وعلى غياب الدراية، مما يدل على أنهما يحكيان ويحاكيان فقط، وأنهما لا يأتيان بأي فعل أو قول أو علم أو فهم جديد، وفي (حكيهما) هذا يحضر الآخر دائما، وذلك في الزمن الآخر، أو في المكان الآخر، أو في السياق الثقافي والحضاري واللغوي الآخر، وبهذا نجد في (فعلهما) النقل ولا نجد العقل، ونجد الاتباع ولا نجد الإبداع، ونجد الأجوبة ولا نجد الأسئلة، ونجد القديم ولا نجد الجديد، ونجد المألوف والعروف ولا نجد الغريب والمثير والمدهش، ونجد الثابت الجامد، ولا نجد المختلف والمخالف، وبهذا نقول بأنه ما في ساحتنا الثقافية والفنية المغربية والعربية اليوم غير السلفية، وكل ما نسمعه ونقرأه هو محض مزاعم وادعاءات كاذبة، وهو محاولات ببغائية لمجاراة (الموضة) الثقافية العالمية، وهو ارتداء أزياء الحداثة، وهو التقنع أقنعتها، وهو القبض على رمادها دون القبض على جمرها الملتهب، والكل اليوم يمارس نفس الفعل، والذي هو الهروب، سواء إلى الخلف مع السلفية السافرة، أو إلى الأمام مع السلفية الأخرى المقنعة.











0 التعليقات:
إرسال تعليق