-مابعد الحداثة والفنون الادائية - في تجارب المسرح المعاصر صميم حسب الله
مدونة مجلة الفنون المسرحية
مقدمة
كشف فن مابعد الحداثة عن مجموعة من الاشكاليات التي يقف في مقدمتها إشكالية المصطلح الذي تنوعت تسمياته فقد ورد المصطلح في الكثير من الدراسات تحت مسميات عدة من بينها (مابعد الحداثة – مابعد الحداثية ) ويذكر أن الفيلسوف الايطالي (جياني فاتيمو) قد طرح مصطلح " مابعد الحداثة في كتابه نهاية الحداثة وقام بتفسير المصطلح من خلال تمحيص دلالة المقطع الاول من المصطلح – أي مابعد وهو تمحيص تطلب بدوره تعريف مصطلح الحداثة ، ويرى جياني فاتيمو بأن الحداثة هي حالة وتوجه فكري تسيطر عليهما فكرة رئيسية فحواها أن تأريخ تطور الفكر الإنساني يمثل عملية إستنارة مطردة، تتنامى وتسعى قدماً نحو الإمتلاك الكامل والمتجدد(عبر التفسير وإعادة التفسير) لأسس الفكر وقواعده"، وكما هو الحال عادة في ظهور فكرة فلسفية او إتجاه نقدي فإن تيار (مابعد الحداثة) كشف عن قواعد أساسية في تشكيل هذا الفن ، وقد إنقسمت هذه القواعد بحسب (نك كاي) إلى قسمين أحداها تمثل القواعد الاساسية في تكوين (مابعد الحداثة ) والاخرى تكشف عن التقنيات التي يعتمدها فن مابعد الحداثة ، فأما القواعد فهي " تضم قائمة من الخصائص والممارسات والتي منها إستخدام (المحاكاة الفنية الساخرة- parody) و (الحنين إلى الماضي –Nostalgia ) و (خلط الأساليب والخامات) "،اما عن التقنيات التي تعمل (فنون مابعد الحداثة) على توظيفها والتي تشمل " إلى جانب التقنيات الاكثر تعقيدا وتركيباً والتي تظهر في فن التصوير والنحت ، و إستعادة أحداث الماضي أو إستثارة ذكريات معينة ، أو إستخدام قصص رمزية معينة ، أو الإيحاء بقصة ، وبخاصة في الأعمال التي تقيم علاقة جديدة مركبة مع الماضي"،ويبدو ان المؤلف أو المترجم قد وقعا في إشكال تعبيري ، ذلك ان التقنيات التي ذكرت ترتبط بالنص فحسب ، وفي الجزء المخصص للعرض يرد إستخدام تقنيات اخرى ، ينقل (نك كاي) رأي (جينكس) الذي يقول : " أن اكثر التقنيات المتفشية في فن مابعد الحداثة هي (إستخدام الشفرة المزدوجة – double-Coding ) و (التورية الساخرة – Irony ) و( الغموض أو إلتباس المعنى) و(التناقض) ويمضي لرصد قائمة منوعة من التقنيات والحيل البلاغية التي تمثل ملامح هامة لهذا الاسلوب ومنها التناقض الظاهري، والاتساق القائم على التنافر أو (هارمونية النشاز) والاسهاب والتضخيم، والتعقيد والتناقص، والتورية والسخرية، والاقتباس الانتقائي" ،ومن جهة اخرى فقد بدا واضحا ان التقنيات التي تعمل مابعد الحداثة على توظيفها تكون خالية من التوافق والانسجام ، وذلك مايمنحها خصوصية في التنافر فهي "لاتكتفي بإقتباس عناصر من مصادر شديدة الاختلاف والتباين ، بل تتعمد في توظيفها لهذه العناصر المنتقاة أن تقاوم أي نزعة إلى تنسيق هذه العناصر في وحدة فنية متكاملة، بل إنها غالبا ماتلجأ إلى تضخيم إحساس المتفرج بالتناقض والصراع بين هذه العناصر عن طريق إتباع أسلوب يتبنى مبدأ التناقض والتقابل ويعلي من أحساسنا بالاقتباس- وهو أسلوب تتجاوز فيه النصوص والصور المتتالية المالوفة، وتعارض بعضها البعض فتبدو جميعاً مهتزة مقلقلة "، فضلا عن ماتقدم فإن (نك كاي) يستمر في تقديم طروحات مابعد الحاثة ، مستفيداً من التداعيات التي نتجت عن ذلك التيار الفكري ، لذلك فهو يكشف عن أبرز اشتغالاتها في الفن المسرحي على وجه الخصوص ، مقتفياً بذلك أثار العديد من المخرجين الذين تبنوا أفكار (مابعد الحداثة ) والذين يقف كل من (روبرت ويلسون ، وريتشارد فورمان ، ومايكل كيربي) في مقدمتهم، ونراه يستنبط من عروضهم أبرز طروحات(مابعد الحداثة ) والتي تتبنى " صراحة التوجه المينيمالي في الفن – ويعني الاكتفاء بالحد الادنى من الفردات في التشكيل والتصوير الفني، وترفض بوضوح التعامل مع الأشكال والصور التقليدية " .
ومع كل ذلك الاكتفاء بالمفردات التي تشكل العرض المسرحي المابعد حداثي إلا أن (نك كاي) يخلص إلى " أن أي تعريف لمابعد الحداثة لايمكن ان يقوم على رصد مجموعة من الصور والأشكال المحددة الخاصة بها، وذلك لان مابعد الحداثة لاتتواجد إلا كنشاط هدام يسعى إلى خلخلة وتقويض نفس الشروط والمبادئ التي نتوهم انها تنهض عليها " ، ويشير (ليوتار) في معرض حديثه عن الحداثة بوصفها " خطاب شارح يمثل إطاره المرجعي، أي من خلال الاستناد إلى نظرية عامة مثل نظرية جدلية الروح ، أو هرمانيوطيقا المعنى، أو تحرير الذات العاقلة أو الفاعلة ، أو قصة خلود الثروة " .
وفي تعريفه لمصطلح مابعد الحداثة فإن (ليوتار) يختزال الكثير من التفرعات والكليشيهات الكلامية " سوف أتوخى التبسيط الشديد فأعرف مابعد الحداثة بانها التشكيك في كل النظريات أو القصص الشارحة " .
تطور المنظومة البصرية
عند الحديث عن الضوء وأهميته في صناعة العرض المسرحي فإن تجربة السويسري(أدولف آبيا) تقف في مقدمة التجارب البصرية التي أسهمت في تطوير المنظومة الضوئية المعاصرة، على الرغم من ان التقنيات المسرحية التي إشتغل عليها لم تكن بالمستوى التكنولوجي الذي هي عليه اليوم ، إلا انه عمل على تطوير منظومة الاضاءة على نحو غير مسبوق وما تلك التطورات التي تبرز بين حين واخر إلا وتكون جذورها مرتبطة بتجارب (آبيا) ، وعلى الرغم من الدراسات القليلة المترجمة عن تجربته في التصميم ، إلا ان هذا الكتاب يكشف لنا حقيقة تجربته بما يمتلك من قدرة على تحويل الشكل النصي إلى أشكال بصرية متعددة ومتنوعة ، وقد تكونت تجربته على مستويين بوصفه " عاشق الجمال الفني داعية الإصلاح في مجال المشهد المسرحي (الميزانسين) " .
وقد بدا واضحاً ان حركة الإصلاح التي بدأها (آبيا) في الثورة على المناظر المرسومة والعمل على تطوير شكل مختلف عن السائد من خلال تطوير مناظر ثلاثية الأبعاد ، فقد " رفض آبيا بصورة كلية إستخدام الرسم في الديكورات المسرحية ، ونادى بإيجاد نظام يعتمد على وحدات ديكورية ثلاثية الأبعاد ، ونمط من الإضاءة المطواعة (الطليعية) التي زعم إنها ترتبط إرتباطاً عضوياً بالدراما الفاغنرية واحداثها" .
ويكشف الكتاب عن مدى التاثير الذي خلقه (ريتشارد فاغنر) ، على أسلوب المصمم (أبيا) كما هو الحال في التأثير العميق الذي خلقته موسيقى (فاغنر) على الفيلسوف الألماني (نيتشه) وقد بدا ذلك واضحاً في بعض مؤلفات (نيتشة)، الامر الذي يدفعنا إلى الاستنتاج أن مرتكزات الثقافة الاوروبية مترابطة ولا تقتصر على مفصل معرفي دون آخر ، وفي العود ة إلى (آبيا) الذي يعمل على وضع شرطين يجب توافرهما في ادوات التعبير " أولهما ان تكون هذه الادوات تحت السيطرة الكاملة للمؤلف المسرحي ، وثانيهما ان تضم هذه العناصر وحدة عضوية واحدة " ، ونتفق مع (آبيا) في ضرورة ان تمتلك العناصر وحدة عضوية واحدة ، إلا اننا نتسائل عن سبب طرح (أبيا) لفكرة ان تكون تلك الادوات بيد المؤلف ، واعتقد أن هذا خطأ ربما يكون في الترجمة ، كما هي العادة ، ذلك أن عناصر العرض بعيدة عن أدوات تكوين النص الذي يتشكل عن طريق المؤلف إبتداءا .
وعلى الرغم من إشتغاله الرئيس على الاضاءة إلا ان ذلك لايعني عدم اهتمامه بالمنظر المسرحي ذلك انه " على يقين ان الهدف الوحيد ، إذا لم يكن الرئيس للديكورات المسرحية هو التعبير عن التماسك والانسجام والتناغم، ومن ثم فإنه يشبه الجسد الحي للممثل وحركاته، ويرى آبيا ان الديكور المسرحي المثالي هو عبارة عن ساحة للحركات الايقاعية " .
تجارب المسرح البولندي المعاصر
تنوعت التجربة المسرحية في بولندا ، في مراحل عدة من تأريخ المسرح العالمي المعاصر حيث رفدت المجال المسرحي بالعديد من المخرجين الذين إمتلك كل منهم خصوصيته في الاشتغال المسرحي سواء على مستوى تقديم العروض الكلاسيكية او التجريب المسرحي، وعلى الرغم من الخصوصية التي إمتاز بها المسرح البولندي ،إلا ان ماتناقلته المصادر يعد فقيراً بالمقارنة مع تنوع التجربة المسرحية، وهذا ما يكشفه لنا كتاب (المخرجون البولنديون التجريبيون والكلاسيك) حيث إختار المؤلف الكشف عن تجارب عشرة من المخرجين، وعلى الرغم من تنوع تلك التجارب وأساليب الاخراج ، إلا ان المؤلف يشير إلى ان إختيار مخرجين دون سواهم ، إلا ان اختياره هذا يعود إلى التجديد في إخراج العروض المسرحية فضلا عن تنوع المصادر الجمالية التي إعتمدها المخرجون، وبذلك يكون إختيار المؤلف لتلك الاسماء قد جاء " عن وعي؛ فهؤلاء المخرجين المجربين والكلاسيك ، بإعتبارهم أهم من مثلوا حركة التجريب المسرحي في بولندا منذ منتصف القرن العشرين وحتى نهايته منضمين بقوة إبداعاتهم إلى إبداعات حركة المسرح التجريبي الاوروبي والعالمي"، فضلا عن ذلك فقد كان لاستخدام مصطلح (الكلاسيك) في الاخراج ، بالمقارنة مع مصطلح التجريب فكرة خاصة ،إذ يشير المؤلف إلى أن " نشأة مصطلح الكلاسيكية وتصنيفهم به ، يعود إلى ان هؤلاء كانوا يعدون في زمنهم رسل التجريب الذين حملوا بإبداعاتهم رياح التجديد التي هبت؛ فإقتلعت من أمامها جذور كل ماهو تقليدي ساكن" .
وقد تميز المسرح البولندي بالعديد من التحولات في أساليب الاشتغال والتنوع في الانماط التي كانت متسيدة للعرض المسرحي ، فيذكر المؤلف ان هذه المرحلة قد إنقسمت إلى تيارين أساسيين في المسرح البولندي:" التيار الأول هو المسرح الشمولي والشعري ،والسياسي ، للمصلح المسرحي الكبير والمخرج البولندي(ليون شيللر، وكان مصدره الاساسي المسرح الرومانتيكي، اما التيار الثاني فكان المسرح الواقعي النفسي، ومن مبدعي هذا المسرح (يوليوش أوستيرفا و ستيفان ياراتش) وكان هذان المبدعان ممثلين فضلا عن كونهما مخرجين، مما كان يجعلهما يؤكدان في مسرحهما على منهج فن الممثل " .
وبحسب تلك التيارات التي كانت تسيطر على المسرح البولندي الذي لم يكن منفصلاً في قسم كبير منه عن المسرح الروسي وبخاصة مايتعلق بتدريب الممثلين على طريقة الواقعية النفسية التي طورهّا (ستانسلافسكي) الامر الذي كشف عن نوعين من المسرح هما: "المسرح البولندي الذي ينتمي إلى التجريبية الكلاسيكية أو الطليعية الكلاسيكية – إن جاز إستخدام هذا المصطلح – إنما ينقسم إلى قسمين هما : ( مسرح الممثل و مسرح الأدب) ويمثلهما كل من المخرج (أكسير) والمخرج (دايميك) " ، وفي مرحلة لاحقة تطور مفهوم آخر بات يعرف بمسرح (المخرج المؤلف) والذي يقصد به أن المخرج يعيد كتابة النص المسرحي بما ينسجم مع رؤيته الاخراجية "وينحصر مصطلح المخرج المؤلف في لغات عديدة في مفهوم يجعل المخرج بهذا المعنى ، المسؤول الرئيس عن ابداع العرض المسرحي " ، ومن جهة أخرى فإن المؤلف يؤكد على ان تطور حركة التجريب في المسرح البولندي تعود بالاساس إلى عوامل إقتصادية فرضتها الانظمة السياسية الاشتراكية التي حكمت بولندا " فقد كان لهذا الجانب الاقتصادي الأثر الكبير في نمو هذا المسرح فنياً ، ومنح الفرص للمبدعين المسرحيين للتعبير عن تجريبهم المسرحي" ، إلا أن حرية التعبير المسرحي وتطور مفهوم التجريب كان مرتبطاً بعدم التدخل في الشؤون السياسية ،" مادام هذا التجريب لايتعرض للمبادئ الاساسية لسياسة الدولة بنقد مباشر أو تقييم لاذع " ، وبذلك تكون حرية التجريب مشروطة وإن كانت منفتحة على فرضيات عدة في التعبير الفكري والجمالي .
ومن اهم الاسماء الإخراجية التي إمتلكت خصوصيتها في التجربة المسرحية البولندية الحديثة:
أولا : المخرج (أكسير) :
ويمكن تحديد ملامح تجربته الاخراجية بالاستناد على مسؤوليته عن إدارة المسرح الحديث ، وقيادته (الربرتوار) المسرحي ، على مدى سنوات طويلة والمحافظة على الانضباط الدقيق في البرنامج المسرحي، وقد إنعكس ذلك على نحو خاص في تجاربه المسرحية التي تنوعت بين الإشتغال على تقديم النصوص الكلاسيكية والمعاصرة، إذ إتسمت الرؤية الاخراجية بروح المعاصرة حتى مع النص الكلاسكي ذلك انه " أراد أن يعود إلى الكلاسيكية القديمة ، ويتعامل معها بإعتبارها إبداعاً معاصراً وحديثاً ، مستخلصاً منها قضايا إنسانية تمس الحاضر الراهن".
كما ان مسرح (إكسير) ينتمي إلى (مسرح المؤلف) ذلك انه كان كاتباً مسرحياً لذلك كانت الكلمة تعني له الشيء الكثير، إذ " يكون السيناريو الدرامي هو مادة المخرج والكلمة هي مادة الممثل ووسيطه، ففي المسرح يقال ان جوهره هو الكلمة، ومن يملك الكلمة هو ذلك الذي يمتلك الحقيقة" .
ثانياً : المخرج (كاجيمييج دايميك):
ويرتبط مسرحه على نحو خاص بالعودة إلى التراث وإستنباط الافكار المتوافرة فيه ، حيث يستمد من التراث في" عروضه المسرحية كلا من البعد السياسي واللغة الشعرية، بعضهما بالبعض الاخر في توحيد فني بليغ ".
وقد تكون فكرة اللجوء إلى التراث مراوغة فكرية من اجل الهروب من سلطة الرقيب كما فعل العديد من المسرحيين في العراق في مرحلة سابقة وبخاصة في تجارب (منتدى المسرح ).
ثالثا: المخرج (غروتوفسكي) :
ويعد من المخرجين الذين ذاعت شهرتهم في الاوساط المسرحية العالمية ، ولم تقتصر شهرته على بولندا فحسب بل أن العديد من المسرحين تأثروا بتجربته التي عرفت (بالمسرح الفقير) وراحوا يؤسسون معاهد لتدريب الممثلين على تقنيات الاداء التي يختصر من خلالها جميع التقنيات المسرحية التي يعتبرها (غروتوفسكي) غير ضرورية والعمل على العودة بالمسرح إلى عناصره الاولى التي هي مسرح وممثل وجمهور، حتى أنه كان يختار جمهوره من أجل تحقيق مبدأ التشاركية في العرض المسرحي.
المصادر :
1- كاي ،نك : مابعد الحداثة والفنون الادائية ، تر نهاد صليحة ، ط2 ، القاهرة: ( الهيئة المصرية العامة للكتاب )، 1999.
2- هيويت ، بارنارد : من مؤلفات ادولف آبيا ، تر أمين الرباط ، القاهرة : (وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي -17- ، مطابع المجلس الاعلى للآثار ) 2005.
3- جرودجيتسكي ،أوجست : المخرجون البولنديون التجريبيون الكلاسيك، تر هناء عبد الفتاح ، القاهرة: (مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي -16) ،2004.
كشف فن مابعد الحداثة عن مجموعة من الاشكاليات التي يقف في مقدمتها إشكالية المصطلح الذي تنوعت تسمياته فقد ورد المصطلح في الكثير من الدراسات تحت مسميات عدة من بينها (مابعد الحداثة – مابعد الحداثية ) ويذكر أن الفيلسوف الايطالي (جياني فاتيمو) قد طرح مصطلح " مابعد الحداثة في كتابه نهاية الحداثة وقام بتفسير المصطلح من خلال تمحيص دلالة المقطع الاول من المصطلح – أي مابعد وهو تمحيص تطلب بدوره تعريف مصطلح الحداثة ، ويرى جياني فاتيمو بأن الحداثة هي حالة وتوجه فكري تسيطر عليهما فكرة رئيسية فحواها أن تأريخ تطور الفكر الإنساني يمثل عملية إستنارة مطردة، تتنامى وتسعى قدماً نحو الإمتلاك الكامل والمتجدد(عبر التفسير وإعادة التفسير) لأسس الفكر وقواعده"، وكما هو الحال عادة في ظهور فكرة فلسفية او إتجاه نقدي فإن تيار (مابعد الحداثة) كشف عن قواعد أساسية في تشكيل هذا الفن ، وقد إنقسمت هذه القواعد بحسب (نك كاي) إلى قسمين أحداها تمثل القواعد الاساسية في تكوين (مابعد الحداثة ) والاخرى تكشف عن التقنيات التي يعتمدها فن مابعد الحداثة ، فأما القواعد فهي " تضم قائمة من الخصائص والممارسات والتي منها إستخدام (المحاكاة الفنية الساخرة- parody) و (الحنين إلى الماضي –Nostalgia ) و (خلط الأساليب والخامات) "،اما عن التقنيات التي تعمل (فنون مابعد الحداثة) على توظيفها والتي تشمل " إلى جانب التقنيات الاكثر تعقيدا وتركيباً والتي تظهر في فن التصوير والنحت ، و إستعادة أحداث الماضي أو إستثارة ذكريات معينة ، أو إستخدام قصص رمزية معينة ، أو الإيحاء بقصة ، وبخاصة في الأعمال التي تقيم علاقة جديدة مركبة مع الماضي"،ويبدو ان المؤلف أو المترجم قد وقعا في إشكال تعبيري ، ذلك ان التقنيات التي ذكرت ترتبط بالنص فحسب ، وفي الجزء المخصص للعرض يرد إستخدام تقنيات اخرى ، ينقل (نك كاي) رأي (جينكس) الذي يقول : " أن اكثر التقنيات المتفشية في فن مابعد الحداثة هي (إستخدام الشفرة المزدوجة – double-Coding ) و (التورية الساخرة – Irony ) و( الغموض أو إلتباس المعنى) و(التناقض) ويمضي لرصد قائمة منوعة من التقنيات والحيل البلاغية التي تمثل ملامح هامة لهذا الاسلوب ومنها التناقض الظاهري، والاتساق القائم على التنافر أو (هارمونية النشاز) والاسهاب والتضخيم، والتعقيد والتناقص، والتورية والسخرية، والاقتباس الانتقائي" ،ومن جهة اخرى فقد بدا واضحا ان التقنيات التي تعمل مابعد الحداثة على توظيفها تكون خالية من التوافق والانسجام ، وذلك مايمنحها خصوصية في التنافر فهي "لاتكتفي بإقتباس عناصر من مصادر شديدة الاختلاف والتباين ، بل تتعمد في توظيفها لهذه العناصر المنتقاة أن تقاوم أي نزعة إلى تنسيق هذه العناصر في وحدة فنية متكاملة، بل إنها غالبا ماتلجأ إلى تضخيم إحساس المتفرج بالتناقض والصراع بين هذه العناصر عن طريق إتباع أسلوب يتبنى مبدأ التناقض والتقابل ويعلي من أحساسنا بالاقتباس- وهو أسلوب تتجاوز فيه النصوص والصور المتتالية المالوفة، وتعارض بعضها البعض فتبدو جميعاً مهتزة مقلقلة "، فضلا عن ماتقدم فإن (نك كاي) يستمر في تقديم طروحات مابعد الحاثة ، مستفيداً من التداعيات التي نتجت عن ذلك التيار الفكري ، لذلك فهو يكشف عن أبرز اشتغالاتها في الفن المسرحي على وجه الخصوص ، مقتفياً بذلك أثار العديد من المخرجين الذين تبنوا أفكار (مابعد الحداثة ) والذين يقف كل من (روبرت ويلسون ، وريتشارد فورمان ، ومايكل كيربي) في مقدمتهم، ونراه يستنبط من عروضهم أبرز طروحات(مابعد الحداثة ) والتي تتبنى " صراحة التوجه المينيمالي في الفن – ويعني الاكتفاء بالحد الادنى من الفردات في التشكيل والتصوير الفني، وترفض بوضوح التعامل مع الأشكال والصور التقليدية " .
ومع كل ذلك الاكتفاء بالمفردات التي تشكل العرض المسرحي المابعد حداثي إلا أن (نك كاي) يخلص إلى " أن أي تعريف لمابعد الحداثة لايمكن ان يقوم على رصد مجموعة من الصور والأشكال المحددة الخاصة بها، وذلك لان مابعد الحداثة لاتتواجد إلا كنشاط هدام يسعى إلى خلخلة وتقويض نفس الشروط والمبادئ التي نتوهم انها تنهض عليها " ، ويشير (ليوتار) في معرض حديثه عن الحداثة بوصفها " خطاب شارح يمثل إطاره المرجعي، أي من خلال الاستناد إلى نظرية عامة مثل نظرية جدلية الروح ، أو هرمانيوطيقا المعنى، أو تحرير الذات العاقلة أو الفاعلة ، أو قصة خلود الثروة " .
وفي تعريفه لمصطلح مابعد الحداثة فإن (ليوتار) يختزال الكثير من التفرعات والكليشيهات الكلامية " سوف أتوخى التبسيط الشديد فأعرف مابعد الحداثة بانها التشكيك في كل النظريات أو القصص الشارحة " .
تطور المنظومة البصرية
عند الحديث عن الضوء وأهميته في صناعة العرض المسرحي فإن تجربة السويسري(أدولف آبيا) تقف في مقدمة التجارب البصرية التي أسهمت في تطوير المنظومة الضوئية المعاصرة، على الرغم من ان التقنيات المسرحية التي إشتغل عليها لم تكن بالمستوى التكنولوجي الذي هي عليه اليوم ، إلا انه عمل على تطوير منظومة الاضاءة على نحو غير مسبوق وما تلك التطورات التي تبرز بين حين واخر إلا وتكون جذورها مرتبطة بتجارب (آبيا) ، وعلى الرغم من الدراسات القليلة المترجمة عن تجربته في التصميم ، إلا ان هذا الكتاب يكشف لنا حقيقة تجربته بما يمتلك من قدرة على تحويل الشكل النصي إلى أشكال بصرية متعددة ومتنوعة ، وقد تكونت تجربته على مستويين بوصفه " عاشق الجمال الفني داعية الإصلاح في مجال المشهد المسرحي (الميزانسين) " .
وقد بدا واضحاً ان حركة الإصلاح التي بدأها (آبيا) في الثورة على المناظر المرسومة والعمل على تطوير شكل مختلف عن السائد من خلال تطوير مناظر ثلاثية الأبعاد ، فقد " رفض آبيا بصورة كلية إستخدام الرسم في الديكورات المسرحية ، ونادى بإيجاد نظام يعتمد على وحدات ديكورية ثلاثية الأبعاد ، ونمط من الإضاءة المطواعة (الطليعية) التي زعم إنها ترتبط إرتباطاً عضوياً بالدراما الفاغنرية واحداثها" .
ويكشف الكتاب عن مدى التاثير الذي خلقه (ريتشارد فاغنر) ، على أسلوب المصمم (أبيا) كما هو الحال في التأثير العميق الذي خلقته موسيقى (فاغنر) على الفيلسوف الألماني (نيتشه) وقد بدا ذلك واضحاً في بعض مؤلفات (نيتشة)، الامر الذي يدفعنا إلى الاستنتاج أن مرتكزات الثقافة الاوروبية مترابطة ولا تقتصر على مفصل معرفي دون آخر ، وفي العود ة إلى (آبيا) الذي يعمل على وضع شرطين يجب توافرهما في ادوات التعبير " أولهما ان تكون هذه الادوات تحت السيطرة الكاملة للمؤلف المسرحي ، وثانيهما ان تضم هذه العناصر وحدة عضوية واحدة " ، ونتفق مع (آبيا) في ضرورة ان تمتلك العناصر وحدة عضوية واحدة ، إلا اننا نتسائل عن سبب طرح (أبيا) لفكرة ان تكون تلك الادوات بيد المؤلف ، واعتقد أن هذا خطأ ربما يكون في الترجمة ، كما هي العادة ، ذلك أن عناصر العرض بعيدة عن أدوات تكوين النص الذي يتشكل عن طريق المؤلف إبتداءا .
وعلى الرغم من إشتغاله الرئيس على الاضاءة إلا ان ذلك لايعني عدم اهتمامه بالمنظر المسرحي ذلك انه " على يقين ان الهدف الوحيد ، إذا لم يكن الرئيس للديكورات المسرحية هو التعبير عن التماسك والانسجام والتناغم، ومن ثم فإنه يشبه الجسد الحي للممثل وحركاته، ويرى آبيا ان الديكور المسرحي المثالي هو عبارة عن ساحة للحركات الايقاعية " .
تجارب المسرح البولندي المعاصر
تنوعت التجربة المسرحية في بولندا ، في مراحل عدة من تأريخ المسرح العالمي المعاصر حيث رفدت المجال المسرحي بالعديد من المخرجين الذين إمتلك كل منهم خصوصيته في الاشتغال المسرحي سواء على مستوى تقديم العروض الكلاسيكية او التجريب المسرحي، وعلى الرغم من الخصوصية التي إمتاز بها المسرح البولندي ،إلا ان ماتناقلته المصادر يعد فقيراً بالمقارنة مع تنوع التجربة المسرحية، وهذا ما يكشفه لنا كتاب (المخرجون البولنديون التجريبيون والكلاسيك) حيث إختار المؤلف الكشف عن تجارب عشرة من المخرجين، وعلى الرغم من تنوع تلك التجارب وأساليب الاخراج ، إلا ان المؤلف يشير إلى ان إختيار مخرجين دون سواهم ، إلا ان اختياره هذا يعود إلى التجديد في إخراج العروض المسرحية فضلا عن تنوع المصادر الجمالية التي إعتمدها المخرجون، وبذلك يكون إختيار المؤلف لتلك الاسماء قد جاء " عن وعي؛ فهؤلاء المخرجين المجربين والكلاسيك ، بإعتبارهم أهم من مثلوا حركة التجريب المسرحي في بولندا منذ منتصف القرن العشرين وحتى نهايته منضمين بقوة إبداعاتهم إلى إبداعات حركة المسرح التجريبي الاوروبي والعالمي"، فضلا عن ذلك فقد كان لاستخدام مصطلح (الكلاسيك) في الاخراج ، بالمقارنة مع مصطلح التجريب فكرة خاصة ،إذ يشير المؤلف إلى أن " نشأة مصطلح الكلاسيكية وتصنيفهم به ، يعود إلى ان هؤلاء كانوا يعدون في زمنهم رسل التجريب الذين حملوا بإبداعاتهم رياح التجديد التي هبت؛ فإقتلعت من أمامها جذور كل ماهو تقليدي ساكن" .
وقد تميز المسرح البولندي بالعديد من التحولات في أساليب الاشتغال والتنوع في الانماط التي كانت متسيدة للعرض المسرحي ، فيذكر المؤلف ان هذه المرحلة قد إنقسمت إلى تيارين أساسيين في المسرح البولندي:" التيار الأول هو المسرح الشمولي والشعري ،والسياسي ، للمصلح المسرحي الكبير والمخرج البولندي(ليون شيللر، وكان مصدره الاساسي المسرح الرومانتيكي، اما التيار الثاني فكان المسرح الواقعي النفسي، ومن مبدعي هذا المسرح (يوليوش أوستيرفا و ستيفان ياراتش) وكان هذان المبدعان ممثلين فضلا عن كونهما مخرجين، مما كان يجعلهما يؤكدان في مسرحهما على منهج فن الممثل " .
وبحسب تلك التيارات التي كانت تسيطر على المسرح البولندي الذي لم يكن منفصلاً في قسم كبير منه عن المسرح الروسي وبخاصة مايتعلق بتدريب الممثلين على طريقة الواقعية النفسية التي طورهّا (ستانسلافسكي) الامر الذي كشف عن نوعين من المسرح هما: "المسرح البولندي الذي ينتمي إلى التجريبية الكلاسيكية أو الطليعية الكلاسيكية – إن جاز إستخدام هذا المصطلح – إنما ينقسم إلى قسمين هما : ( مسرح الممثل و مسرح الأدب) ويمثلهما كل من المخرج (أكسير) والمخرج (دايميك) " ، وفي مرحلة لاحقة تطور مفهوم آخر بات يعرف بمسرح (المخرج المؤلف) والذي يقصد به أن المخرج يعيد كتابة النص المسرحي بما ينسجم مع رؤيته الاخراجية "وينحصر مصطلح المخرج المؤلف في لغات عديدة في مفهوم يجعل المخرج بهذا المعنى ، المسؤول الرئيس عن ابداع العرض المسرحي " ، ومن جهة أخرى فإن المؤلف يؤكد على ان تطور حركة التجريب في المسرح البولندي تعود بالاساس إلى عوامل إقتصادية فرضتها الانظمة السياسية الاشتراكية التي حكمت بولندا " فقد كان لهذا الجانب الاقتصادي الأثر الكبير في نمو هذا المسرح فنياً ، ومنح الفرص للمبدعين المسرحيين للتعبير عن تجريبهم المسرحي" ، إلا أن حرية التعبير المسرحي وتطور مفهوم التجريب كان مرتبطاً بعدم التدخل في الشؤون السياسية ،" مادام هذا التجريب لايتعرض للمبادئ الاساسية لسياسة الدولة بنقد مباشر أو تقييم لاذع " ، وبذلك تكون حرية التجريب مشروطة وإن كانت منفتحة على فرضيات عدة في التعبير الفكري والجمالي .
ومن اهم الاسماء الإخراجية التي إمتلكت خصوصيتها في التجربة المسرحية البولندية الحديثة:
أولا : المخرج (أكسير) :
ويمكن تحديد ملامح تجربته الاخراجية بالاستناد على مسؤوليته عن إدارة المسرح الحديث ، وقيادته (الربرتوار) المسرحي ، على مدى سنوات طويلة والمحافظة على الانضباط الدقيق في البرنامج المسرحي، وقد إنعكس ذلك على نحو خاص في تجاربه المسرحية التي تنوعت بين الإشتغال على تقديم النصوص الكلاسيكية والمعاصرة، إذ إتسمت الرؤية الاخراجية بروح المعاصرة حتى مع النص الكلاسكي ذلك انه " أراد أن يعود إلى الكلاسيكية القديمة ، ويتعامل معها بإعتبارها إبداعاً معاصراً وحديثاً ، مستخلصاً منها قضايا إنسانية تمس الحاضر الراهن".
كما ان مسرح (إكسير) ينتمي إلى (مسرح المؤلف) ذلك انه كان كاتباً مسرحياً لذلك كانت الكلمة تعني له الشيء الكثير، إذ " يكون السيناريو الدرامي هو مادة المخرج والكلمة هي مادة الممثل ووسيطه، ففي المسرح يقال ان جوهره هو الكلمة، ومن يملك الكلمة هو ذلك الذي يمتلك الحقيقة" .
ثانياً : المخرج (كاجيمييج دايميك):
ويرتبط مسرحه على نحو خاص بالعودة إلى التراث وإستنباط الافكار المتوافرة فيه ، حيث يستمد من التراث في" عروضه المسرحية كلا من البعد السياسي واللغة الشعرية، بعضهما بالبعض الاخر في توحيد فني بليغ ".
وقد تكون فكرة اللجوء إلى التراث مراوغة فكرية من اجل الهروب من سلطة الرقيب كما فعل العديد من المسرحيين في العراق في مرحلة سابقة وبخاصة في تجارب (منتدى المسرح ).
ثالثا: المخرج (غروتوفسكي) :
ويعد من المخرجين الذين ذاعت شهرتهم في الاوساط المسرحية العالمية ، ولم تقتصر شهرته على بولندا فحسب بل أن العديد من المسرحين تأثروا بتجربته التي عرفت (بالمسرح الفقير) وراحوا يؤسسون معاهد لتدريب الممثلين على تقنيات الاداء التي يختصر من خلالها جميع التقنيات المسرحية التي يعتبرها (غروتوفسكي) غير ضرورية والعمل على العودة بالمسرح إلى عناصره الاولى التي هي مسرح وممثل وجمهور، حتى أنه كان يختار جمهوره من أجل تحقيق مبدأ التشاركية في العرض المسرحي.
المصادر :
1- كاي ،نك : مابعد الحداثة والفنون الادائية ، تر نهاد صليحة ، ط2 ، القاهرة: ( الهيئة المصرية العامة للكتاب )، 1999.
2- هيويت ، بارنارد : من مؤلفات ادولف آبيا ، تر أمين الرباط ، القاهرة : (وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي -17- ، مطابع المجلس الاعلى للآثار ) 2005.
3- جرودجيتسكي ،أوجست : المخرجون البولنديون التجريبيون الكلاسيك، تر هناء عبد الفتاح ، القاهرة: (مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي -16) ،2004.
0 التعليقات:
إرسال تعليق