«ليل ثلاثة كلاب» في برلين: مسرحية تسائل الموت والحياة في فلسطين
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
«ماذا يكون في نهاية الحياة؟ المرض أو الموت كحدث يحدد ذاتيا؟ إلى أي مدى يمكن أن يتحدث الإنسان عن الموت بكرامة، إن كان لا يمتلك حياة كريمة؟ كيف يمكنه ان يتمنى الموت، الذي يهدد في كل مكان؟»
بهذه التساؤلات تستقبلنا الورقة الفنية لمسرحية « ليل ثلاثة كلاب» التي كان عرضها الافتتاحي يوم الثاني من هذا الشهر ايلول/سبتمبرعلى خشبة «المسرح الالماني» Deutsches Theater في برلين. إنتاج الماني إسرائيلي مشترك من إخراج المخرجة الإسرائيلية أوفيرا هينك وتمثيل الممثلة الفلسطينية والمديرة الفنية لمسرح «الميدان» سلوى نقارة والالمانية تيارك برناو والإسرائيلية لاني شهاف.
من عتمة فضاء أصم، قد يكون بهوا، مرأبا، قبوا أو مدخل بناية أو حجرة بيت مهجور، عاري من كل شيء إلا من ثلاثة كراسي خشبية سوداء، تطالعنا ثلاثة أجساد ممدة شاحبة مجردة من كل شيء وكأنها اجثتت من العدم. فجأة يبددها الظلام، لتنفرج من خلاله كوة الضوء عن ثلاث نساء، من ثقافات مختلفة يروين حكايتهن بلغات مختلفة العربية العبرية والالمانية، نساء يسائلن قضية الموت والحياة في بعدها الإنساني، في زمن السلم والحرب من منظور ذاتي. فالمرأتان العبرية والعربية تسائلان الموت في علاقته مع العيش في بلد يعرف الموت يوميا، حيث يصبح الموت في غياب حياة كريمة دون معنى، خاوي الدلالة. انه التقابل بين الإنسان، الذي يحب الحياة، يبحث عن الحياة حتى وان كان الموت يتربص به في كل لحظة ومن كل جانب وبين الإنسان، الذي يتمنى الموت «الرحيم»، مع وجود امكانيات الحياة. في المقابل تحكي المرأة الالمانية عن موت في الحياة، موت اسمه الضياع. فهذا العمل الجماعي، الذي طور نصه الأدبي كل من المخرجة وطاقمها الفني، يتحدث عن رحلة شخصية، لان لكل شخص فيها «حكاياته»، تقول مخرجة العمل هينك، «فالحكايات الشخصية تعطي مجالا للنقاش. فبعض الحكايات المروية هي واقعية بعضها مختلق. أتصورها كرحلة غير متوقعة، مليئة بتداعي الخواطر، بالأفكار والأحاسيس. فهذه المسرحية هي هذه الرحلة. أو هذه الرحلة هي هذه المسرحية».
ففي هذا المزيج من التأملات الذاتية المرتبطة ارتباطا وثيقا ببصمات الأسرة، حيث تستحضر كل من المخرجة والفاعلة في النص سلوى نقارة حكاية موت أبويهما كحدث واقعي يقابله مسألة الموت الرحيم والغذاء القسري في المشهد السينمائي لسجين «غوانتانامو»، يرتكز العمل المسرحي على أحداث تاريخية وحالية في إطار البحث عن صيغة خطاب أدبي وفني جديد، يتم من خلاله مسائلة قضية المساعدة على الموت الرحيم في زمن الحروب الدائرة في توتر عبثي. حيث يقابل هذا الموت أوضاعا لا إنسانية يحصد فيها يوميا الإنسان في مواطن كثيرة. فعن «هذا الموت» تقول سلوى نقارة، «هو تعبير عن موت الهوية، عن الموت الثقافي، الذي يمارس على وجودنا داخل وخارج الوطن. فحين تنعدم شروط الحياة الكريمة للإنسان، يصبح الموت لاغي التأثير، لان الموت في معناه الإنساني النقي هو من يعطي معنى للحياة».
لقد تضافر عدد من الجهود لإنتاج هذا العمل المتميز في طروحاته الفكرية وتوجهه الفني، منها المركز الأوروبي للفنون لمدينة دريسدن الألمانية، مسرح كاميري تل أبيب، معهد غوته ومسرح الميدان. فهذا التلاقح بين الثقافات والتمازج بين التصورات تقول عنه المخرجة أوفيرا هينك، التي عينت سنة 2004 مديرة للمختبر، وهو مسرح تجريبي حديث في القدس، الذي جعلت منه فضاء عمل مشتركا بين الكتاب العرب والإسرائيليين، فكان إنتاجها الأول «سالومي» للكاتب الايرلندي اوسكار وايلد وجمعية الفعلين العرب والإسرائيليين. كما انها تعمل كثيرا مع الممثل خليفة ناطور:
«أنا معتادة على مثل هذه الأعمال الدولية. ففي كل أعمالي أحاول القيام بمساهمة فكرية في سياق تطوير النص المسرحي. أحيانا يكون جيدا تخطي الحواجز وايجاد روابط ذاتية تامة، التي هي منوطة بالعمل الحالي مع الممثلين ومع الخشبة الراهنة».
ان الأساليب الفنية، التي اصطفتها المسرحية في التعامل مع جمهور كانت هي الأخرى عبارة عن مزيج من الخطاب المباشر بأدوات بسيطة، شكل شبه مجالات مستقلة عن بعضها، الكلمة، الملقاة، المقروءة والمكتوبة، الحركة المختزلة غالبا، الظل، الضوء والأدوات السمعية والبصرية، التي تربط بينها الممثلات من خلال أصوتهن وحركة أجسادهن، فهي كثيرا ما توحي بنوع من العفوية وبذلك يشعر المتلقي أحيانا، انه أمام حديث أسروي شخصي.
في خط غير مستقيم يسير الحكي بعيدا عن التشكي والتشاؤم، يسير المحكي المباشر العبري والعربي المِبُث على الحائط الخلفي للخشبة باللغة الالمانية، بين بعده الوئائقي، الذي هو عبارة عن مشاهد مصورة ونصوص مقروءة أو مكتوبة فوريا فوق الحائط الكتروني وبعده التعبيري كإشارات دالة على الكوارث الإنسانية، في علاقة جدلية بين الفن، السلطة والموت والحياة.
«كل هذه القضايا تجعلني في مواجهة مع الشر. فليس لدي اهتمام، ان أحكي قصة الضحية في عملي الفني، فأنا أبحث العلاقة والشروط، التي تعمل على إنتاج الشر. شخصيا لا أريد ان أبكي، أريد أن أفكر وأن أستمع إلى الآخرين أثناء البكاء». تقول اوفيرا هنك.
في إختيارها سواء على المستوى الفني أو الأدبي في مسرحية «ليل ثلاثة كلاب» لغة داكنة، بعيدة في عباراتها عن الألوان الزاهية أو في ترتيب فضائها واسلوب فنها الحكائي، تجعلنا فنيا نشعر بذلك الواقع التاريخي، الذي تقف فيه إسرائيل كنقطة وصل بين الماضي الالماني والحاضر العربي بين الضحية في الماضي والجلاد في الحاضر، أمام معادلة لا تفتأ ان تجعلنا نحس بذلك التوق إلى الفرح المشتهى في الثقافتين المتشابهتين والمختلفتين في آن واحد العربية والإسرائيلية، الفرح المتوتر تحت سقف واحد. كما انها تضع من ناحية أخرى، هذا التباين في المواقف التاريخية، الذي تعكسه الممثلاث في أدوارهن حيث كان هناك تقارب في صيغة الأداء ونقل الأحاسيس والخطاب الفكري بين سلوى نقارة ولاني شهاف بينما كانت تمثل الممثلة الالمانية تيارك برناو الأداء العقلاني فوق الخشبة من حيث نقل الدور شبه دون أحاسيس.
مع ذلك وبالرغم من هذه المفارقات في طرح شخوص المسرحية، يبرز جليا ذلك القاسم الإنساني المشترك القوي بين النساء الثلاث بغض النظر عن انتمائهن الجغرافي، انه رفض كل أشكال الموت، في غياب الحياة الكريمة. ان مسرحية «ليل ثلاثة كلاب» في نهايتها تحمل المتلقي مهمة التفكير بدوه هو الآخر في مدلولات الحياة والموت، تجعله يعيد حساباته فيما يتعلق بهذه النقطة، التي هي بوابة لابد ان يلجها كل إنسان، لكن يبقى السؤال مفتوحا تحت اي شروط ؟ تقول هينك:
«في حالة مواجهة كارثية أو حربية، من الممكن التلاعب بالمجتمع، بحيث يمكن وضع قوانين، التي لم يكن فرضها في أي واقع آخر. والفرد الذي يجد نفسه هو الآخر في حالة متطرفة، يبدأ في التغير، فالموت البارد يحيط به من كل جانب، الموت الذي لا يمكن ربما ان تكسره سوى حرارة جسدية لثلاثة كلاب».
ادريس الجاي - القدس العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق