التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث
مجلة الفنون المسرحية
التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث
د . جبار جودي العُبُودي
إن التطور الحاصل في حقل الفنون المسرحية من الناحية التقنية والتكنولوجية لم يكن بمعزل عن التطورات التقنية في جميع المجالات الحياتية الإنسانية، لكن مايميّز التكنولوجيات في حقل الفنون هو ارتباطها بجانبين مختلفين أحدهما هو الجانب النفعي الذي يحقق المنفعة الاستعمالية الخالصة، وهو يسير باتجاه مكاسب الاختراعات الصناعية والالكترونية، وهذا الأمر يكون بطبيعة الحال مرتبطاً بالجانب الحياتي والمعيشي بشكل عام، أما الشق الثاني فإنه على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك لارتباط التكنولوجيات بالجوانب الحسية والجمالية في حقل الفنون عامةً ومجال المسرح خاصة، فعلى سبيل المثال، عندما نقوم بتغيير أحد فيدرات الإضاءة المبرمجة لأحد المشاهد، فإن الإيقاع التكنولوجي التقني لهذا التغيير ينعكس جمالياً وفنياً وفكرياً على خشبة المسرح عن طريق صنع عوالم خيالية متكاملة في الفضاء المسرحي للتعبير عن مختلف الثيمات المقصودة، كذلك فإن رفع وخفض الديكورات في المشاهد المسرحية مرتبط بالجانب التكنولوجي للمسرح، لكن عند تنفيذ ذلك، فإنه سوف يسهم بتحقيق مديات جمالية وحسية مرتبطة بالجانب الفكري للشكل والمضمون فوق الخشبة، إذ تسهم التكنولوجيات كعمليات تنفيذية أدائية آلية في تحـــقيــــق جماليات غير مسبوقة على مستوى عالٍ من الإتقان يشترك بها خيال الفنان ورؤاه المتميزة .
قد يتبادر الى الذهن التصور الذي يقول بأن التكنولوجيا هي معطى تقني آلي، وهذا بطبيعة الحال فرض عياني، لكن الصور المتحققة باستخدامات هذا المعطى، تفرز خطاً مستقلاً للجمالية والفكر والتأمل، إذ " شهدت الساحة الفنية نوعاً من السحر التكنولوجي على خشبة المسرح (..) ظهر بوضوح أن أفضل النتائج يمكن الحصول عليها عندما تنجح التكنولوجيا في التحول من الترقيع الى التجميل "(1) ، أي أن تكون تدخلاتها جمالية خالصة وليست عيالاً على العـــــــمل الفني أو مقحمةً فيه، لذلك استثمر العديد من فناني المسرح الحديث الجانب التكنولوجي في المسرح لإبراز رؤاهم الجمالية وعرضها بطرق مختلفة أسهمت في تكوينها تقنية التصورات الذهنية الإبداعية مشفوعة بالاستخدام التكنولوجي الأمثل للمهارات والخامات والمعدّات، حتى أصبحت تقنيات المسرح تشابه (جراب الحاوي) أو صندوق الساحر الذي يستدعي كل الغرائب من خلاله، إذ ان "تعبير تقنيات حديثة يبدو وكأنه جراب توضع فيه كل الأشياء ويرمز الى الشيء الجديد الذي يبدو أنه من التقنيات "(2) ، هذه التقنيات هي التي تسهم، بالاستخدامات الصحيحة لها ، في اثراء الشكل الفني المعبّر في عالم الفن المسرحي، فالمسرح ماعاد تقديمات تقليدية لمؤدٍ يحفظ دوره ويلقيه على مسامع الجمهور في مقدمة المسرح، بل أصبح ساحة للتنافس الشديد في جذب المتفرج من عوالم السينما والتلفزيون والمنافسة لهما من ناحية الإمكانات التكنولوجية التي تزيد من غنى العوالم الفنية المسرحية.
التقنيات الحديثة عندما تستخدم لخدمة المسرح، فإنها تأتي برؤى جديدة وآليات جديدة ، فالتقنيات تنمّي فكرة الخوارق باستدعائها للخيال الذي يحلّق في غير المألوف وغير المتوَقّع، كذلك لم تعد هذه التقنيات ضرورية لتقديم العرض المسرحي فحسب، بل تقوم بتوفير إمكانات جديدة لإتاحة الرؤية الخيالية سواء بالنسبة للمشاهد أو الممثلين (3) ، فالعرض المسرحي هو صناعة عوالم أخرى تختلف عن الواقع المحيط أو تشابهه، انها عوالم خاصة مصنوعة بحرفنة عالية، وبذوق الفنان وحسه الجمالي الأصيل وبخيالاته التي تصل الى أفق متقدمة في التجربة الإنسانية، إذ يقودنا العرض المسرحي الى " استكشاف كيفية تحوّل الخيال، أو مايفوق الخيال الى واقع، وهو يدفعنا الى استكشاف العلاقة بين الواقع وبين الصور المختلفة التي نعرف من خلالها هذا الواقع (..) العرض المسرحي مجال غريب لانألفه، يشبه عوالم الأحلام "(4) ، هذه العوالم تشخص الى الوجود وفق خيالات الفنان التي بدأت التكنولوجيا بتحقيقها ، فما كان سابقاً يشبه المعجزات في إمكانية تحققه أصبح الآن وبفضل التكنولوجيا المتقدمة، يتحقق بضغطة اصبع واحدة، وخصوصاً في مجال الضوء الذي يتم التحكم به الكترونياً عن طريق المكسرات الحاسوبية البرمجية الحديثة.
أما على صعيد التصورات الفكرية، فلقد أدرك كل من آبيا وكريغ، أن قابلية المسرح للتجريد تفوق كافة الإمكانات الفنية على صعيد البناء الذهني للتركيبات الصورية والمشهدية فيه، فالتجريد له القدرة على امكانية فرز بيئات خيالية أو واقعية لاتشابه في طبيعتها الواقع بالنسبة للمنظر المسرحي أو مستوى التخيّل عن طريق الإيحاء، إذ يوفّر التجريد توظيفه للمكان كمقابل مرئي للأحداث، ولقد كانت ( إضاءة الكهرباء ) هي الأداة المهمة والرئيسة في تحقيق هذا التغيير المهم في الخارطة المسرحية العالمية، إذ عن طريق استغلال مساحة الأداء الثلاثية الأبعاد وتوظيف الإمكانات التشكيلية للضوء، تلك الإمكانات اللا نهائية في تنويع وتركيز وضبط وتوجيه مصادره وحدّتها ونعومتها أضحت بديلة عن التكاليف الباهضة لإقامة المناظر المسرحية الضخمة، إذ بدأ المصممون يوظفون المساحات والعلاقات مابين المكان المضاء والمظلم ومابين الممثل والصورة المتخيلة للشكل والمضمون، إذ أدرك كل من آبيا وكريغ قوة الإضاءة الكبيرة في تشكيل المكان وتنويع فضاء العرض(5) .
لقد سعى فنانو المسرح منذ الإغريق الى الوقت الحالي، في إيجاد سبل مناسبة وطرق وأساليب عمل كفيلة بإيصال الأفكار والصور المتَخَيّلة الى المتلقي في العرض المسرحي عن طريق استخدام التكنولوجيات المختلفة والتي كانت سابقاً تدخل في باب الآلات البسيطة، أما الآن وفي خضم الإيقاع المتسارع للمتغيرات الكونية، أضحت التقنيات التكنولوجية من الحيوية بمكان، إذ لايمكننا تصوّر عرض مسرحي في الوقت الحالي بلا تكنولوجيات الضوء والصوت والمؤثرات البصرية، والكثير من الممكنات التي أتاحتها أجهزة الحاسوب في نقل الصورة .
(1) أنطونيو بيتزو: المسرح والعالم الرقمي، تر أماني فوزي حبشي ، القاهرة : (وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي) ، 2007 ، ص32 .
(2) لوسيل جاربانياني وبيير موريللي: المسرح والتقنيات الحديثة ، تر نادية كامل ، القاهرة : ( وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)، 2007 ، ص248 .
(3) يُنظر: المصدر السابق ، ص7 و ص15 .
(4) جوليان هلتون: نظرية العرض المسرحي، تر نهاد صليحة ، الشارقة.
------------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى
0 التعليقات:
إرسال تعليق