أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأحد، 10 مارس 2019

قراءة في مونودراما "كلام الجوف" لفرقة "فلامونداغ"

مجلة الفنون المسرحية



                       
 د.عبد الرحمن بن إبراهيم 


 لَيْسَ يَخْلو الْمرْءُ مِنْ ضدٍّ وَلَوْ     حاوَلَ الْعُزْلَةَ في رَأْسِ الْجَبَلْ
                                                                      ابن الوردي
       يَحْصُلُ أَنَّ الْحَياةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَطْ لِكَيْ تُلَقِّنُهُما كَيْفَ أَنَّهُما                         بِحاجَةٍ لِبَعْضِهِما الْآخَر.                                               باولو كويلو  
     
  1- المونودراما  الماهية:  مسرح الممثل الواحد أو المونودراماMan Show  One  حسب التعبير الأنجليزي، وMonodrame بالفرنسية. ويتحقق الفعل المسرحي في المونودراما عن طريق الحوار في مشهد أو أكثر يتحدث فيه شخص واحد.  ويحتل فيه الحوار العنصر الأساس؛ إذ من خلاله تتحدد معالم الحدث الذي يجسد الرسالة المراد تبليغها بدلالاتها اعتماداً على مكونات مسرحية موازية ومساعدة.  و<<المونودراما هي مسرحية يقوم بتمثيلها ممثل واحد يكون الوحيد الذي له حق الكلام على خشبة المسرح. فقد يستعين النص المونودرامي في بعض الأحيان بعدد من الممثلين، ولكن عليهم أن يظلوا صامتين طوال العرض وإلا انتفت صفة "المونو" (من الكلمة اليونانية Momos بمعنى "واحد") عن الدراما.>>1
   تقترن المونودراما تاريخيا - باعتبارها شكلا فنيّاً قائم الذات - بالمذهب الرومانسي الذي ظهر في النصف الثاني القرن الثامن عشر على أنقاض المذهب الواقعي؛ غير أن جذورها تمتدُّ في أعماق تاريخ الدراما الأولى. ففي المسرحيات اليونانية القديمة كان الممثل ينفرد بتقديم حكاية على مدى المساحة الزمنية للعرض أمام جمهور مُنْصِتٍ مُسْتَمِعٍ. واتِّقاءً للرتابة التي قد تُفقِد الحكاية عنصريْ الإثارة والتشويق كان الراوي/الممثل يلجأ إلى الكورس << الذي يكون حاضرا دائما يستمع ويجيب ويعلق مهما طالت المقاطع المنفردة؛ بحيث احتفظ المسرح اليوناني إلى حد كبير بمعادلة متزنة بين الفرد في فرديته وبين الجماعة والمجتمع، وأقام جدلاً ناميّاً أي حوارًا دراميّاً حقيقيّاً بين القيم الثابتة التي يمثلها الكورس، وبين دوافع اللحظة وواقع الفرد المُلِحِّ الذي يمثله البطل.>>2  وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الكورس في المونودراما اليونانية تقابله  جوقة الأغاني الدينية  الجماعية (الديثرامبوس) التي تمثل الارهاصات الأولى التي انبثق منها الشكل الدرامي كما صاغه أرسطو في نظريته الدرامية الشهيرة.

المونودراما (المفهوم):  إن السؤال الإشكالي الذي ينتصب عندما يتعلق الأمر بالمونودراما هو: 
هل مجرد إخراج نص درامي من طرف ممثل من حالة الكمون على الورق إلى حالة التحقق العياني على          الخشبة  أمام جمهور  كافٍ للتَّسليم بخصوصية  فنية  مستقلة للمسرح ذي الممثل الواحد.؟
 سؤال إشكالي تتناسل عنه أسئلة فرعية مُلحَّة:
إلى أي حد يمكن الإقرار بمسرح ذي ممثل واحد من حيث المعنى والمبنى.؟
هل يجوز تحويل نص درامي ذي شخصيات عديدة إلى نص درامي مُخْتَزَلٍ في شخصية واحدة.؟
وهل يمكن الحديث عن قالب درامي خاص بالممثل الواحد.؟
وما الذي يُغري العديد من الممثلين بركوب موجة المسرح الْمُسَمَّى فرديّاً على الرغم من الطبيعة المركبة للفعل المسرحي ذي الممثل الواحد على مستويات التأليف والإخراج والأداء.؟ 
   إن المسرح فعل جماعي، وجامع للفنون بحكم طبيعته وظروف نشأته. كما أن بناء عرض مسرحي يقتضي مساهمة كوكبة من المبدعين: (المؤلف، المخرج، والممثلون)، والتقنيين: (الموسيقي، السينوغراف، مصمم الملابس، تقني الإنارة، وتقني الصوت). ولا يتحقق سوى بتواجد المتفرجين في المكان المخصص، والزمان المحدد. وهذا الطقس الجماعي يُذيب عمليّاً صفة "الفردي". فبين الفضاءين: فضاء اللعب وفضاء المتفرجين صلات تواصل شعورية ولا شعورية، باعتبارهم مساهمين وفاعلين في النسق الدرامي للعرض. وبناء عليه، فالممثل وهو يؤدي دوره يتفاعل مع الحدث باعتباره "فعل" عاشه أو يعيشه أو سيعيشه مع الآخر المفترض. 
وعلى افتراض أن الحبكة المسرحية تقتضي من الممثل أخذ مسافة معينة من حدث ما، فإنه لا يستطيع أن ينفصل عنه ولو تعلق الأمر بمشهد تأمل في لحظة خلوة لاعتبارين اثنين:
اعتبار أول: أن الممثل حين يعود إلى ذاته في لحظة اعتكاف فإنه يعود إليها بصفتها ذاتا مستقلة. وفي هذه الحالة فـ "أنا" الممثل تتمدد لتحاور "أنا " منفصلة عنه في الزمان والمكان. 
بـ - اعتبار ثان: أن الآخر المفترض الغير المرئي هو من يجعل المتلقي يعيش الحدث، ويدفعه إلى اتخاذ موقف بوصفه فاعلاً في العرض، ومؤثراً في صنع الحدث، ومنتجاً لمعناه. وهو ما سيحُدُّ – بالنتيجة- من حالة الانكفاء على الذات.

 تيمة المسرحية:  المسرحية في الأصل مقتبسة من نص La Bel Indifférent للكاتب الفرنسي جان كوكتو Jean Cocteau. أحداثه مستوحاة من إحدى لقاءاته مع المغنية الفرنسية الشهيرة إديث بياف Edith Piaf التي عانت من الفراغ العاطفي، ومن الحاجة الملحة – كأية أنثى- الى الحب الدفء والحنان. غير أن حظها العاثر قادها إلى (مارسيل سيردان) رجل فظ  ومتعجرف، متعنت ومتعالي أحال حياتها إلى جحيم. قصة حب ألهبت فرنسا وأوروبا، وتُرجِمت شريطا سينمائيا "لاموم". نصٌّ يطرح أزلية الصراع الغامض بين الرجل والمرأة. صراع بين من يرى نفسه ملاكاً ويحسب الآخر شيطاناً. إسقاط ذاتي سببه أعطاب عاطفية تمنع المدد العاطفي المتبادل، مما يوقظ مدّاً غريزيًّا لا شعوريّاً جارفاً بالرغبة في الانتقام. تمظهراته الشك والغيرة  والحقد الدفين عند للمرأة. والعنف والإستعلاء واللامبالاة بالنسبة للرجل. والأكثر غموضاً أن الخاسر دائما هما معاً. 
     على مدى سبعة مشاهد تجرعت فريدة من كؤوس الإهانة، الاحتقار، الجفاء. وهل هناك أفظع من هذا الثالوث المدمر.!؟ أعلنت التحدي وتمردت في محاولة لرد الاعتبار، وتمسكت ما وَسِعَها التمسك بخيط رفيع من الأمل،  إلا أن محاولتها انتهت إلى خيبة أشد مرارةً. 
  يتعلق الأمر إذن  بإشكالية العلاقة بين المرأة والرجل. بالصراع الأزلي بين الأنوثة والذكورة. من يسيطر على من.  فريدة وعبده حالتان إنسانيتان. كلاهما رمز للإنسان المعذب، عذاب الحب والغيرة والخوف. معاناة مضمرة جعلت منهما مجرد بقايا امرأة ومحض بقايا رجل.  و" كلام الجوف " ليس سوى فصل من فصول الشقاء الأبدي للإنسان.

 البنية الدرامية:  المكان في المسرحية مكانان: واقعي وفيه تجري الأحداث:  غرفة موحشة في فندق بئيس تَلُفُّها عتمةٌ تبددها بعض بقع الإنارة المتسربة من الزقاق. ومكان مفترض هو الأستوديو، تصفه فريدة التي تشتغل فيه بالكئيب. رواده من شريحة اجتماعية مهمشة. فريدة بالنسبة إليهم أكثر من مجرد مغنية؛ إنها مصدر دفء حميمي يستمدون منه الشعور بذواتهم المتشظية نفسيّاً، والمحرومة عاطفيّاً: <<وْشي كْمامَرْ محروقة بالشمس وبالوقت وقلة الأمل... كمامر مامحسناش... وما كتعرف والو... ما كتعرفش تضحك ولا تبتسم... كتعرف تكمي بزاف... وكتحنزز فيك... كاتكلك بالشوف ... بزاف ديال العينين والودنين حاضيينك.>>3 أما الزمان فهو المساء بعد مغيب الشمس، في انتظار عودة الزوج الحبيب بعد طول انتظار.
   ما بين البؤس والكآبة تتوزع حياة فريدة المثخنة بالجراح التي استوطنت كيانها، والمنهكة بالآلام التي نهشت أحلامها فبدت كائناً بلا إحساس، وجسداً بلا روح. على مدى سبعة مشاهد تنوعت آلام فريدة، وتعددت ألوان معاناتها التي لا يكاد ينتهي فصل منها إلا ليبدأ آخر وبقسوة أشد. الحبكة الدرامية بدأت معقدة من أول مشهد لتتطور إلى تعقيد شديد، لتنتهي إلى وضع أشد تعقيداً. فمع انطلاقة العرض توجهت إلى عبده بكلام حارق نابع من صميم جوفها الملتهب: <<عقلتي نهار قلتي لي راك غادي عند طبيب أسنان.. اتبعتك.. خديت طاكسي وقلت نسبقك عندو زعما ندير ليك مفاجأة.. وصلت عندو قالو لي أنك ما جيتيش، وما غاديش تجي، وما عمرك تعاود تجي، علحقاش الطبيب باقي كيسالك الفلوس ديال الفم اللي صاوبتي لديك العقروشة معا من مصاحب.>>4 إنها تُذَكِّرُهُ بالذي مضي: "عقلتي". والمرأة بطبيعتها لا تنسى، خصوصا لما يتعلق الأمر بالمهانة. فقد أُهينت في كبريائها حين رفعت سماعة الهاتف تستفسر  عنه لتكشف أنه رفقة من وصفتها بـ "العقروشة" التي تربطه وإياها علاقة مشبوهة. 
   في المشهد الثاني سار الحدث في اتجاه مزيد من التعقيد حين دخلت على الخط أخته آمال تسأل عن أخيها، وهو ما اعتبرته فريدة إمعاناً في تحقيرها والمساس بقدسية حميميتها التي أضحت مستباحة: <<شوفي هاد الهضرة ما عندي ما ندير بيها، المرة الجاية عزلي وقتاش تعيطي.. وجه الويل.>>5 وستقف فريدة وقفة مع الذات في المشهد الثالث ، لتتساءل عن  سبب الجفاء وانعدام التواصل بينها وزوجها عبده:  
 <<شي تقوليها وكينوي شي حاجة، وشي كيسمعها وكينوي حاجة أخرى. داكشي علاش احنا مختالفين، ومرة مرة ما كانتفاهموش.>>6 إنه اعتراف من فريدة بانعدام الانسجام والتفاهم، لكن من دون أن تبادر إلى إصلاح ذات البين. أهو عجز منها،؟ أم محاولة لإثارة غيرة عبده  المتجاهل، اللامبالي.؟ 
     وسيبلغ الحدث الدرامي ذروته بإقدامها على "الفعل" في المشهد الرابع: الخروج بحثاً عمن يلتفت إليها ويُشعرها بالاحترام والاعتبار. <<أش فيها إلى شي حد عرض عليا نشرب معاه قهيوة، ونهضرو في شي حاجة. ماشي مهم الموضوع... الغلا.. الشتا.. الموضة.. الحرب في العراق.. رمضان... اللي كان. ندوزو القهوة بالهضرة وشوييا ديال الضحك. واللي ليها ليها، ياك الواحد خرج خرج. نقدروا نتعشاو في شي ريسطورا، نحطوا شي قريعة محترمة، وغدا يعيط ليا، ويقدر يرجع يتلاقاني ويجيب لي شي مشموم ديال النوار والشكلاط لكحل. الواحد بعدا يحس براسو عايش وشي حد كيديها فيه.>>7 وسوف تتمادى برفع راية التحدي بعد عودتها منتشيةً باللحظات الحالمة التي استمتعت بها. صرخت في وجه زوجها المنشغل عنها بقراءة جريدته: (المشهد الخامس) << ولكن أنا اليوم غاديا نخوي المزيودة، غاديا نقول كولشي وأنت غادي تسمعني.>>8 
     ما الذي حدا بفريدة أن تمر إلى السرعة القصوى، وتتخذ قراراً حاسماً: <<نخوي المزيودة>>. أننا بصدد كلام جوف حارق : <<عنداك يصحاب ليك ملي كانتوحشك وكانبغيك راني ضعيفة ولا ساهلة. لا لا. أنا مشي من هادوك اللي موالف تفلا عليهم ملي كتكون كاتتوطح فالزناقي والبيران، وصف ديال العيالات كايشوف فيك وكيتسناك. وأنت عاجبك راسك.>>9
 ولكن كلام الجوف هذا سينعرج في اتجاه مضاد: <<أنا نيت نقدر نحماق، ونقدر نقتلك. ومن بعد نقتل راسي، علاحقاش ما عندي ما ندير بوحدي بلا بيك. واش فهمتي، راه كنبغيك.>>10 إنها الحقيقة التي  تفجرت في أعماقها، الحقيقة التي تأسرها من الداخل: حُبُّها الجارف كجلمود صخر حطه السيل من علِ. 
     لقد كشف تطور الأحداث أن فريدة تتجاذبها قوَّتان متناقضتان: الحب والكبرياء. وقفت بينهما في منتصف الطريق لتصالح ذاتها في لحظة حالمة: <<ملي رجعت من الستوديو قلت مع راسي هاد المرة غاديا نحيد هاد الكسوة. ونلبس واحدة أخرى بشي لون آخر... فيه ألوان الفرحة والعيد، ونتحلق ونصايب لينا شي عشا... لينا بجوج، ونحط قرعة معتبرة وجوج كيسان... وانتسناك.>> أنها بدت - على غير المتوقع- راضية بحالها، لكنه حين دلف إلى الغرفة تجاهلها كالعادة. لقد أنهكها انتظار من لا يأتي، وأوهنتها الوحدة طول الوقت: <<واش كاتعرف اشنو معناه تتسنا سي حد وتبقا كتسناه>>، <<بزاف ديال المرات كنبقا بوحدي.>>
     كلام جوف فريدة سيأخذ مدًى أكبر حين انتفضت فجأة بدون سابق إنذار وانفجرت كالدَّوِيِّ في وجهه الذي دسَّه في الجريدة التي لا يَمَلُّ من قراءتها: <<أنا حمارة... أنا كبيرة الحمير... أنا الشافة ديال الحمير علحقاش كنبغيك وكنتسناك وأنت ولا انت في هاد العالم.>> إنها تحبه، وهي لا تعلم لماذا لا يحبها. هل هناك إهانة أكبر من هذه .!؟ بدت فريدة منهارة ومستسلمة لقدرها الذي لم يرحمْها: <<ما عرفش أش كايعجبك فيها.. لازين لا مجي بكري. ما عندها حتى دوق. واش بقي شي حد كايدير Rève D’or،؟ وكايدير ديك لاكوب ديال الشعر ما مفهوماش، كوب أنناص. كن غير كنتِ كتخرج مع شي وحدة صغيورة وزوينة نقولو أح ونبرودوها. السيد مهلي فراسو بعدا، ولكن شارفة كبر منو 2 مرات. الله يلعن اللي ما يحشم.>> كل محاولاتها لإثارته، ولَفْتِ انتباهه لا تُجدي نفعاً، ولم تجد بدّاً من استجدائه: <<عبده  إلا ما حيدتيش داك الجورنال... غاديا...غاديا... نحسب حتى لـ 10، عبده دبر راسك، عبده عافاك هضر، عبده... كنبغيك... 1 ...2... 3...>> وقبل أن تكمل العد تفاجأت برنين الهاتف الذي كان وراءه تلك التي تنعتها بـ "العقروشة". ارتدى معطفه. وقفت فريدة في وجهه وهو يهم بالخروج: <<بقى حدايا معايا، ما تخرجش عافاك. >> صَدَّها وأغلق الباب من ورائه. أسرعت إلى النافذة، لقد اختفى. انكفأت على وجهها تغني خيبتها: "غريبة في هذا العالم"
      تَدَرَّج الحدث من بداية العرض من التعقيد إلى تعقيد شديد لينتهي إلى ما هو أشد. ومن غير الممكن الحديث عن حبكة درامية يتطور فيها الحدث من البسيط في البداية إلى المركب في العقدة، ثم إلى الحل في النهاية. فعلى مدى سبعة فصول عانى كُلٌّ من فريدة وعبده من آلام غامضة أسبابها مجهولة. فلا فريدة كشفت عن سر الصَّدِّ الذي تُواجَه به عند كل محاولة التقرب منه، ولا عبده أفصح عن دافع أو دوافع لامبالاته بها. شخصيتان غامضتان ومُحَيِّرتان ومثيرتان للإشفاق في ذات الوقت. فريدة عاشت في وهم كبير. لم تمتلك الشجاعة الكافية لتسلِّم بالحقيقة الجارحة القابعة في جوفها: عبده لا يحبها. كانت توهم نفسها وتداريها بأنها محل حبٍّ وعشقٍ، ربما لتخفيف آلام جراحها : <<الحمد لله، أنا وعبده مفاهمين... موالمين...>>(المشهد الأول)، <<شكراً دابا عاد عرفت أنك يمكن تكون كتحبني، وشحال أنا عزيزة عليك، ما بغيتيش تحرجني وتجاوب ديك العقروشة، عرفتي كون جاوبتيها أش يقدر يوقع لي؟، نقدر نحماق، ولا تجيني شي سكتة قلبية>> (المشهد السابع). وكم  مرة بدت مستسلمة أمام الحقيقة التي تتفجر من حين لآخر من أعماقها: <<عنداك يصحاب ليك ملي كانتوحشك وكانبغيك راني ضعيفة ولا ساهلة>> (المشهد 5). كم من مرة صرخت في وجهه من دون أن يُعيرها أدنى اهتمام: <<أنا الشافة ديال الحمير علحقاش كنبغيك>> (المشهد السادس). ولشد ما كانت تُمَنِّي نفسها بأن تسمع منه ما لم تسمعه قط: <<والتيلفون ما عمرو ما كان عندنا، أنا اللي دخلتو زعما باش علاَّ وعسى...غير يغلط شي نهار ويعيط، ويقول راني غادي نتعطل...>> (المشهد السادس) . وكم مرة عبَّرت عن عَلَقِها الشديد: <<علاحقاش ما عندي ما ندير بوحدي بلا بيك>>، <<راه كنبغيك ألويل>> (المشهد الخامس)، <<عبده... كانبغيك>> (المشهد السادس). 

الشخصية المسرحية في كلام الجوف:  
  إن الممثل في المونودراما على الخصوص يكون في نقطة تقاطع بين زمن الحكاية التي جرت وقائعها في الماضي، وزمان العرض المشخص الآن/هنا أمام الجمهور. والممثل في هذه الحالة يكون وسيطا بين الحكاية وبين الجمهور. وعليه أن يمتلك من الخبرة والمهارات ما يُؤَمِّنُ نجاحه في تجسيد عالم متخيل في أحداثه وحواره وشخصياته. والمتفرج لا تهمه الحكاية في حد ذاتها بمقدار ما يهمه رؤية الممثل باعتباره علامة دالة على ذاتها بالدرجة الأولى. ومعناه أن العرض يتلخص في الأنساق البصرية المرتبطة بالممثل: الجسد، اللباس، الحركة، الصوت، الإيماءة، تعابير الوجه. وفي الأنساق السمعية: طريقة الكلام، الوحدات الصوتية والوحدات الدلالية، طبقات الصوت، المساحات البيضاء في لحظة تأمل أو انتظار.  والممثل في هذه الحالة يشبه الراقص الذي يستعرض مهاراته الجسدية وبراعته الحركية. وهو ما يجعل المونودراما قرينة الذاتية في المقام الأول. 
الاعتبارالذاتي: لأن الممثل/الممثلة تكون في مواجهة مباشرة مع الجمهور. ويمثل الجسد بؤرة العرض. فَنَصُّ المؤلف، ونص المخرج يختفيان تماما لكي يُفسح الحَيِّزُ لنص الممثل في لغاته العديدة والمتداخلة. وقد أبانت الممثلة نزهة عبروق عن اقتدار في الأداء يتبدى في العناصر التالية:
توظيفها لتعبيرات الجسد في صنع الحدث، وفي تطوير الحوار. 
بـ-  اعتمادها لغة مسرحية تحيل على شفرات تواصلية بينها وبين الجمهور.
جـ- امتلاكها لمهارة فن الإلقاء مما أتاح توالد دلالات مسرحية تستحضر العالم التخييلي بتقاطعاته في الزمان والمكان.   
د-   براعتها في بناء الشخصية المسرحية بأبعادها الجسدية والسيكولوجية والثقافية.
هـ- نجاحها في ملء المسرح، وشد انتباه الجمهور، وتحقيق شرط الإقناع.
و- احتفاظها بمسافة معينة حيال الشخصية المسرحية تكسيراً للإيهام، مما جعل المتفرج يشاهد العرض انطلاقا من موقع نقدي يساعد على اتخاذ موقف مستقل. 
الاعتبار الموضوعي: يتمثل في الفضاء المسرحي بشكله الفني المتخيل ومكوناته السينوغرافية. وتحتل فيه الأنساق البصرية ثلاثة مستويات من العلامات المكانية: 1) الثابتة ( النافذة، الهاتف، السرير، الخوان ومحتوياته، المِصْباحان). 2) المتحركة (الشمعة، الملابس، الجريدة). 3) المتحولة (الإنارة).  وقد أضفى اللون الأزرق الفيروزي  مسحة موحشة على الفضاء المكاني. إذ استحوذ هذا اللون على أغلب مساحة العرض الذي استغرق 45 دقيقة، باستثناء فترتي الغناء التي ساد فيهما اللون الأحمر (المشهد الخامس)، وفي آخر أنفاس العرض حين غنت فريدة وسط بقعة حمراء في فضاء ساده السواد، بصوت يبعث عن التَّيْمِ والشَّجَن.
أما الأنساق السمعية فقد احتلت مساحة زمنية معتبرة.  مقطع موسيقي في مبتدأ العرض (المشهد الأول)، وأغنية "ياحبيبي تعال الحقني شوف إللي جرى لي"11 لتنتهي المسرحية (المشهد السابع)على إيقاع أغنية حزينة مطلعها: "غريبة في هذا العالم". 
لماذا لم تكشف فريدة عن سبب أو أسباب جفاء زوجها. وأيّ ذنب اقترفته لتُعاقب بالهجر.؟ 
وَلِمَ لَمْ تبحث عن  سر جفاف ينبوع الحب عنها، في وقت كان يسيل شلاّلاً على ذات الكوب أنناص.؟ 
لماذا لم يَرِقْ قلبُ عبده على فريدة رغم توسُّلاتِها.؟
وما سر هذه القوة الجاذبة التي جعلت عبده يهيم حبّاً بامرأة عجوز، بينما فريدة تمتلك من البهاء والجمال ما يجعلها أكثر جاذبية.؟  
    لا يَسْعَى العرض إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، ولم تلتمس فريدة من جهتها جواباً. لقد تُرِكَ أمر ذلك لجمهور المتفرجين، كُلٌّ حسب درجة إدراكه لرسالة العرض. فلا شك أنهم يتقاسمون هموم فريدة، ويشاطرونها آلامها. ويتفهمون حالة زوجها، ويقدرون ظروفه المأزومة؛ وفي ذلك ما يغني عن الحاجة.
كان آخر ما نطقت به فريدة: <<عافاك ما تخرجش>>. 
حالة يختصرها ابن الوردي في بيته الشعري البليغ:
ليس يخلو المرء من ضد ولو **   حاول العزلة في رأس الجبل.

هوامش:
 - الدكتورة نهاد صليحة، أمسيات مسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1987، ص213
2- نفسه، ص213  
         3- عبده جلال، كلام الجوف، D’après Bel indiffèrent  Jean Cocteau ، ص5  
4- نفسه، ص 9
5- نفسه، ص3
نفسه، ص3
نفسه، ص4
نفسه، ص5
نفسه، ص5
نفسه، ص6
أغنية للمطربة اسمهان




0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption