قراءة في كتاب " عاشق المسرح والصمت قراءات تستنطق تجربة المبدع صباح الأنباري في المسرح الصامت" للباحثة لطيفة خمّـان
مجلة الفنون المسرحيةلطالما تساءلت عما يتيحه الصمت من معنى، إن كان الكلام يوفي بالمطلوب... فمنطقيا وجوده هو عامل مؤثر معه ينتفي الغموض وينتفي الإبهام مادام واضح المعزى جلي المعنى، من هذا المنطلق رحت أبحث عن بعض القراءات وعن بعض الدراسات التي تولي أهمية للصمت وتستجلي مضامينه وتستقرئ مقاصده، حتى أقف على المبتغى الذي راودني وفي صدده طرحت العديد من التبريرات.
في ظل ذلك عثرت على مجموعة من القراءات والدراسات التي أعلت من راية الصمت ورحت أتقصاها في ميادين مختلفة لاسيما المجال الأدبي، كون هذا الأخير عالم مفارق لباقي المجالات الأخرى، وأعني بذلك مقدار الدلالات والتأويلات التي يمنحها هذا الأخير مباغتة لمعانيه.
فوجدت الصمت في الخطاب القصصي، والشعري، والمسرحي، ومن تخصص المسرح دخلت إلى كتاب الباحثة لطيفة خمان الموسوم بـ"عاشق المسرح والصمت، قراءات تستنطق تجربة المبدع صباح الأنباري في المسرح الصامت "، هذا المنجز الذي نشر هذه الصائفة عن دار أدليس للنشر بباتنة، تحذوني رغبة كبيرة في الوقوف على دلالات الصمت، ومقاصده في الخطاب المسرحي، وتساؤلات عديدة يختصرها السؤال التالي:
- هل تستطيع خاصية الصمت أن تقول ما لا يقوله الكلام الصائت في تلك الخطابات؟.
في البداية شدني ترتيب هذا الكتاب وأنا أطلع على متضمناته، فتركيبته بدت منسجمة إلى حد كبير طرحا ومعالجة، وما زاد من انسجامه أيضا مزيج الألوان التي تم انتقاؤها من قبل الباحثة والتي راوحتها بين ثلاثة ألوان الأحمر والأسود والأبيض، بعدما اختارت صورة الناقد صباح الأنباري لتتصدر واجهة الكتاب.
من ناحية الإعداد فقد أعد أيضا من قبل باحثة تبحر في مجال المسرح ونقده وتشتغل على قضاياه، ثم إن تصديره صدر عن قامة لها وزنها في الوسط الثقافي عامة، وفي الوسط المسرحي خاصة، الأستاذ الدكتور " أبو الحسن سلام " الذي بيّن طريقة بنائه ووضح النهج الذي سيسير عليه الكتاب بقوله:« الكولاج في المقاربة بين اللقطات أو الصور أو المقايسات النصية في اتجاه تصوير خطاب ما تتوحد فيه مجموع الصور الكولاجية، بمعنى أن تكون قصدية تجميعها تجميعاً أفقياً في وحدة تُنتج مجتمعة في النهاية معنى خطاب العرض أو النص الدرامي أو اللوحة، حيث يؤدي المنتج الكولاجي للعناصر المكوّنة للعرض أو الصورة أو للموقف الدرامي أو للمشهد السينوغرافيز لتجسيد منتج لمعنى خطاب المؤلف أو خطاب المخرج؛ وهو نهج معلوم في الفنون، خاصة فنون التشكيل؛ حيث يشتغل المنتج الكولاجي بفكرة ما يستملحها ممثلة في عدد غير معدود من تصاوير الغير، أو كتاباتهم التي تلبّستها فكرة ما، فيعمل على جمعها بمقاربة متجاورة أفقياً، بغية تجميع وجهات النظر أو الرؤى، لتنضم جميعها في خدمة للفكرة وتتوحد الرؤى، كما تتوحد مقرات الصلح لتُشكّل كرة ثلجية عبر تدحرجها، من هنا جاءت فكرة هذا الكتاب انطلاقاً من نهج كولاجي يُعنى بمقاربة كتابات نقدية من نتاج قريحة كبار النقاد الذين تعرضت كتاباتهم لإبداعات الصوامت الأنبارية، وكشفت عن أسباب استمتاعهم بقراءتها. وأود أن أشيد بجهد الباحثة لطيفة خمان ومبادرتها المهمة في تجميع تلك الدراسات النقدية، وتقديمها للقارئ العربي وللباحث المسرحي الشغوف بالبحث في شعرية المسرح المبتكرة» وقد سقت رؤيته وطرحه حتى أبين الوجهة العامة التي أطرت معالم هذا المنجز النقدي.
وانطلاقا من نقطة الإعداد التي أثرناها سابقا فإننا نصل حتما إلى أيقونة العمل، والنموذج المحتذى الذي اشتغل عليه، ونعني بذلك الناقد العراقي صباح الأنباري، فمما راقني كثيرا هو أن الباحثة بنت المدخل على تصوراته، حيث شُغل هذا الحيز بطرحه وهو يوضح أسس التمثيل الصامت تحت عنوان " لغة الصمت المسرحي " وقد صرحت الباحثة لطيفة خمان بذلك، حيث ألفيناها تقول : « كما ارتضيتُ أن يكون العمل تحت إشراف القامة السامقة الأستاذ الدكتور أبو الحسن سلام، وان تكون أول عتباته ومدخله من نصيب الناقد "صباح الأنباري" بمقاله المُعنْوَن بـ: "لغة التمثيل الصامت"، لأنّه لا شيء أجمل من أن نلِج درب الصمت بمن شق مساراً له».
بناء على ذلك دخلت عالم الناقد صباح الأنباري، على خطى الباحثة، ورحت أتقصى ما يكتب حرفا بحرف، ومعنى بمعنى، وسطرا بسطر داخل هذا المدخل، ولكم كانت رؤيته مختلفة كونه أحد ممثلي الصمت والساعين إلى التأسيس لخطابات مسرحية صامتة بعيدا عن منطقة الكلام بتعبير الباحثة.
هنا في الحقيقة ابتدأت حيرتي تتبدد أمام ذاك السيل من الأفكار، وأنا أقرأ له لم يعد الصمت في نظري ذاك الصمت الأبكم بل صار صمتا ناطقا، يهجس بكل المضامين والمحتويات بتعبير الباحثة، يهجس بما يعجز الكلام عن إيصاله في كثير من المواقف، خاصة إذا كان هذا الخطاب مجسدا على خشبة الركح، فالصمت هنا يصبح السائل والمجيب، ومنه يمس التمثيل وجميع الموجودات المساهمة في صناعة العرض، بدءا بالممثل الذي تصبح الإيماءات والحركات دعائمه الاساسية، مرورا بالديكور، وصولا إلى الموسيقى والإضاءة... إلخ، فاستنادا على مرامي الصمت تكون لكل تلك التوظيفات ما ترمي إليه في المسرح الصامت يقول الناقد صباح الأنباري : « إنّ واجب التمثيل الصامت هو تحويل الفكرة إلى حركة وإظهار المشاعر الكامنة في تلك الفكرة، وإنّ من يقوم بهذه المهمة ويجسّدها على خشبة المسرح هو الممثل الصامت الذي يحسن استخدام لغة الصمت الحركية التي يصنعها جسده على خشبة المسرح طوال العرض الصامت، ويحسن قراءتها المتلقي الذي طوّع حاسة بصره على قراءة حروفها الغامضة» والمتأمل لقوله يجد الصمت في هذا المقام مشركا لعنصر آخر أيضا وهو المتلقي، فأي الملكات تلك التي تماز بها هذه الخاصية التي قل من يلتفت إليها.
بعدها توجهت إلى المضمون وإلى المقالات التي راودت خطابات الناقد صباح الأنباري المسرحية الصامتة فوجدت ركاما يطفح بالمعاني والتأويلات وبالدلالات وجدت لغات عن لغة، والباحثة عكست في مرآتها مرايا من الكتابات والقراءات، وعليه إذا ما دخلنا إلى هذا المصنف لا نجد مرآة واحدة بل نجد مرايا مع اختلاف زوايا النظر وفي هذا تقول الباحثة : « بالعودة إلى تلك الدراسات نلفي فيهم من رَاود المضامين ومنها أٌخذ بالتحليل والتأويل، ومن رَام الحديث عنه إشادة به؛ ومن منطلق الكتاب الواحد أَلمّ بِخصائص ومِيزات مسرحه، في المقابل نجد من كان مشدوداً مأخوذاً بجمال توجهه المسرحي، وعلى وَقعِ الجمال ذاته صَاغ طُروحاته، نجد أيضا من رَاق له أمر الجمعِ بينه وبين إِبداعات أخرى وعلى وَتر المُقارنة تَرافق له التساؤل والاستشكال والاستنتاج وفي الأخير قدم تصورات مَائِزة امتاحت من منابع إبداعية تَذوقاً وقراءةً ونقداً وتفاعلاً ... إلى غير ذلك من صُنوف التناول، إذ شَكلت هذه التجربة ومعالمها المُحرك الفعَّال والأساسي للكثير من الإِنجازات بعدما جَمعت بين غايات مُتعددة؛ أهَمُّها هو إبراز مَقدِرة الناقد أو الباحث أو الدارس على استِكناه خطاب لَبس لبُوساً خاصاً، من جهة أخرى هو كشفها لمقدرتها على مراودة الفكر واستمالته هذا الذي وَجد بدوره فيها ضَالته المَنشُودة » .
في الأخير إن من يطلع على هذا الكتاب سيقف حتما على إجابات لما استشكل عنده، خاصة وأنني دخلت إليه باستفهامات عما يقدمه الصمت، فتوصلت إلى أن الصمت لغة ناطقة حية يتم التوجه إليها كونه بوتقة تشع بالمداليل، فأن يقف الممثل ويقدم خطابا صائتا ويقول مثلا هذه قضية سياسية، وذاك مستعمر، وتلك الضريبة، هو شيء من العبث بمكان، أما أن يقف الممثل أمام الجمهور وبمجموعة من الحركات التمثيلية والإيماءات ويقدم خطابا صامتا عن قضية من القضايا، فذاك من أبلغ التوظيفات، إذ يستطيع الصمت تمرير العديد من الخطابات، والغايات وبأساليب مختلفة، في حين لا يملك الكلام إلا طريقا واحدا وعادة ما تكون له عواقبه.
عبد العزيز نصيب
0 التعليقات:
إرسال تعليق