أندروماك يوريبيديس بين اقتباس راسين ومعركة موليير المجنونة
مجلة الفنون المسرحيةالكاتب المسرحي الفرنسي الهزلي موليير مسرحية عنوانها "معركة مجنونة" لا يبدو أن جمهور مسرحه يعرفها بما فيه الكفاية فهي لا تقدم بوفرة كما تقدم مسرحياته الأخرى والأكثر شهرة. والطريف أن هذه المسرحية يمكنها أن تعتبر مسرحية عن "النقد المسرحي" ما يفسر دائماً كونها شديدة الحداثة وغريبة عن عصرها (النصف الثاني من القرن السابع عشر). والحال أن موليير نفسه لم يكتب هذه المسرحية حقاً أو حتى يستقيها من مخيلته، بل اشتغل عليها بشكل يبدو لنا مختلفاً تماماً عما كان معهوداً في زمنه لكنه قد لا يبدو وكما سوف نرى بعد سطور، غريباً في أيامنا هذه: وقبل أن نتحدث عن هذا الأسلوب في "المسرحة" لا بد من رسم المناخ الذي ولدت فيه "معركة مجنونة".
صراع سيدي التراجيديا
كان ذلك أوائل عام 1668 بعد شهور قليلة من تقديم الكاتب جان راسين مسرحية مقتبسة من المسرحية الإغريقية "أندروماك" للكاتب يوريبيديس تقديماً فخماً أمام جمهور المتفرجين بعد ما كانت قدمت للمرة الأولى يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني)1667 في جناح الملكة في البلاط، كما جرت العادة في ذلك الحين. في حينه كان رد الفعل إيجابياً إلى حد كبير ما أغاظ الكاتب كورناي الذي كان منافساً رئيساً لراسين في مجال كتابة المسرحيات التراجيدية، لا سيما منها تلك المقتبسة من المسرح الإغريقي فراحوا ينهشون في العمل الراسيني محاولين تحطيمه عبر مقالات وحوارات صاخبة تصل إلى حدود السخرية والشتيمة. وكان من الطبيعي أن يرد عليهم الراسينيون بما هو أقذع وأكثر سخرية. وكان موليير يراقب تلك المعركة ويضحك في سره هو الذي كان يشعر باستعلاء على زميليه الكاتبين التراجيديين المتخاصمين كونه كاتب الهزليات الناجحة في مواجهتهما. والحقيقة أن الفكرة أتته حينها من تلقائها: فكرة أن يجمع تلك النصوص الشتائمية المتبادلة ويحولها إلى ما يشبه الحوارات المسرحية معطياً إياها تلك الصفة التي استخدمها عنواناً للمسرحية. والحقيقة أن موليير لم يستخدم في مسرحيته تلك الموزعة على ثلاثة فصول سوى جزء يسير جداً من المقالات والسجالات التي جمعها، بحسب ما راح هو نفسه يقول متفكهاً وشامتاً إلى حد كبير.
نزاهة كاتب
وقد يسجل لموليير هنا أنه حتى وإن حققت العروض القليلة لمسرحيته "معركة مجنونة" نجاحاً لا بأس به، فإنه حرص على ألا تقدم كثيراً. كانت بالنسبة إليه ومضة طريفة يجب أن تمر سريعاً وهكذا كان، بخاصة أن موليير كان لا بد له أن يلاحظ فخامة الديكور وضخامة الأحداث في الاقتباس الراسيني الذي اختار أن يقصر العمل على الشخصيات الأربع الرئيسة، وكأننا وسط دراما عائلية معاصرة. وكان هذا تجديداً آخر مدهشاً في المسرح التاريخي في ذلك الحين. والحال أن هذا التجديد لوحظ على الفور، ومنذ الأيام الأولى لتقديم هذه المسرحية بشكلها الراسيني المعاصر. وهو ما زاد من تأثير هذه المسرحية ونجاحها، إذ إنها لا تزال تعتبر حتى اليوم من أهم ما كتب راسين. وتقول الإحصاءات أنها قدمت حتى عام 1960، 1351 مرة من قبل "الكوميدي فرانسيز"، ضاربة رقماً قياسياً في هذا المجال لم تقترب منه سوى مسرحية أخرى لراسين نفسه وهي "فيدرا" التي قدمت خلال المسافة الزمنية نفسها 1350 مرة. ومن المؤكد أن ما لفت أكثر من غيره في هذه المسرحية هو أنها تحكي، كلها عن الحب، لكن الحب هنا لا يأتي من لدن الآلهة. وليس له علاقة بأي لعنة إلهية اعتادت أن تلعب دوراً أساسياً في التراجيديات الإغريقية ذات الأبعاد المظلمة للروح الإنسانية، وتفلت من رقابة الإرادة والعقل.
أما بالنسبة إلى "أندروماك" الأصلية، لا سيما لدى يوريبيدس الذي تبقى مسرحيته من أجمل نصوص المسرح الإغريقي، فهي أرملة هكتور، أحد أبطال الحروب الطروادية، وكان بيروس، ملك ابيروس، وابن آخيل، قد أسرها عند نهاية تلك الحروب مع ابنها استياناكس، وضمها إلى قصره. وبيروس، على الرغم من ارتباطه بهرميون خطيبته التي تعد لاقترانها به، يقع في غرام أندروماك، وها هو يريد لها، الآن، أن تكون ملكة فؤاده وسيدة عرشه. غير أن أندروماك، لا تريد أن تحب أحداً من بعد هكتور، تريد أن تبقى وفية لذكراه حتى نهاية حياتها. وتتصاعد أحداث المسرحية حينما يصل أوريست، الذي كان في الماضي عاشقاً لهرميون مولهاً، مبعوثاً من اليونانيين الذين يريدون موت ابن أندروماك، بصفته الأخير في السلالة الملكية الطروادية ويجب أن يموت حتى لا تعود هذه السلالة إلى المطالبة بالعرش. وعند وصول أوريست وانكشاف مهمته يستغل بيروس الفرصة ويهدد أندروماك بحرمانها من ابنها وتسليمه إلى اليونانيين، في محاولة منه لإجبارها على قبول عرضه بالزواج، لكن أندروماك تقاوم على الرغم من خوفها على ابنها وألمها من أجله. أما هرميون التي تصبح من الآن فصاعداً قطب التراجيديا المحرك، فإنها إذ تجتمع بأوريس تصارحه بأنها مولهة ببيروس وتأمل ألا تفقده... ومع هذا توافق أوريست على أن يخير أندروماك بينها وبين ابن هذه الأخيرة.
المفاجأة!
وتكون المفاجأة حين يعلن بيروس، من دون توقع موافقته، في آن معاً، على تسليم الفتى إلى اليوناني والزواج من هرميون. ويذهل أوريست أمام هذا الأمر. أما هرميون فإنها تغرق في سعادة ترفع من معنوياتها، وخصوصاً حين تأتي أندروماك لترجوها أن تحفظ لها حياة ابنها فترفض. وهنا تكون "الخبطة المسرحية" التالية، إذ يلتقي بيروس أندروماك، ليخبرها أنه لا يزال مغرماً بها، وأن من شأنه أن يحفظ حياة ابنها إن هي وافقت على الزواج منه. فتبدو هنا وكأنها أذعنت، ولكن في الظاهر فقط، إذ إنها في سريرتها كانت قد قررت أن توافق فتنقذ ابنها ثم تنتحر. وهنا أمام هذا التطور الجديد تشعر هرميون بأقصى درجات المهانة فتستدعي أوريست معربة عن حبها له، وتطلب منه أن يقتل بيروس... ثم تقبع في انتظار النتيجة وقد توزعت عواطفها بين الحب والكبرياء. لكن أوريست يتردد ما يزيد من لهيب رغبتها في الانتقام. بعد ذلك حين يصل أوريست ليخبرها بأنه قتل حبيبها الخائف تغرق في عاصفة من الحزن والجنون وتصرخ أوريست لائمة إياه على ما اقترف مدعية أنها لم تطلب منه ذلك، ثم تندفع نحو جثة بيروس وتقتل نفسها مرتمية فوق الجثة فيما أوريست يصاب من فوره بالجنون... وهكذا نرى كيف أن بيروس وهرميون لا يمكنهما أبداً أن يكونا سيدي مصيرهما... وهذا هو الموضوع الحقيقي للمسرحية.
حساسيات خارج الزمن
نعرف أن كتّابا كثيرين، إضافة طبعاً إلى راسين الذي يمكن دائماً أن يقال إن ميزة مسرحيته الكبرى تكمن في أنه عرف كيف يكيّف المسرحية وأحداثها بل حتى "سيكولوجيات شخصياتها الرئيسة، وبخاصة أندروماك نفسها مع ما كان سائداً في زمنه"، من دون أن ننسى طبعاً محاولة لكورناي نفسه ما أثار سخطه على منافسه وتهجمه عليه، وصولاً طبعاً إلى جان جيرودو الذي جعل لأندروماك دوراً كبيراً تلعبه بين الشخصيات العديدة التي تملأ مسرحيته "حرب طروادة لن تقع". كل هؤلاء وغيرهم جربوا حظهم مع أندروماك التي أغرت كذلك موسيقيين ورسامين وروائيين فكتبوا عنها ورسموها وموسقوها... لكن العمل الأصلي الذي كتبه يوريبيدس يبقى الأجمل من حيث إنه قد عرف كيف يؤنسن الأسطورة الإغريقية وكيف ينتزع، بالتالي، من قلب تلك الأسطورة شخصية نسائية حملها الكثير من المواصفات والأبعاد التي من المنطقي القول اليوم أنها مواصفات وأبعاد تلتقي مع حساسيات تقف خارج الزمن بحيث تكون سمات لشخصيات تواكب الأزمان جميعها وتتجاوز المحددات التاريخية.
-------------------------------------
المصدر : اندبندنت عربية
0 التعليقات:
إرسال تعليق