تجارب جيل المخرجين الجديد في المسرح العراقي / عواد علي
مجلة الفنون المسرحيةتجارب جيل المخرجين الجديد في المسرح العراقي
عانى الجيل المسرحي الجديد في العراق، منذ بدء الاحتلال الأميركي للبلد عام 2003، من عوائق وأزمات سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية جمّة دفعت بعضهم إلى الهجرة بطرق شرعية وغير شرعية، ومن صمد منهم ظل يحفر في الصخر، ويبدع بروح شبابية عصامية، محاولاً تقديم تجارب جديدة، على الرغم من شحة الدعم المالي، وغياب الاهتمام الحكومي، ووجود مواقف مناهضة للمسرح، والفن على نحو عام، من طرف جهات متزمتة ظلامية في المجتمع والتيارات السياسية والدينية. وقد استطاع العديد من مسرحيي هذا الجيل إيصال تجاربهم إلى الجمهور العربي والدولي عبر المهرجانات المسرحية التي شاركوا فيها، وانتزاع جوائز مهمة منها شملت الإخراج والتأليف والتمثيل وعناصر فنية أخرى. لذا بات من الضروري أن يسلّط النقاد والكتّاب الضوء عليهم، فهم أصحاب مشاريع حرصوا من خلالها على تطوير المسرح العراقي، الذي احتل مكانةً مرموقةً في المشهد المسرحي العربي خلال نصف قرن مضى، كما أنهم أكدوا وفاءهم لمنجزات الأجيال التي سبقتهم، وسعوا إلى إثرائها بصيغ وأشكال فنية تنهل مما يشهده العالم من أشكال مسرحية جديدة، وتستثمر تقنيات حديثة في أساليب الأداء والسينوغرافيا، كالرقص التعبيري (الكوريغرافيا)، والسينما والوسائط الرقمية. وقد اخترت، تمثيلاً لا حصراً، أربعة مخرجين من هذا الجيل للوقوف على بعض تجاربهم، وهم: أنس عبد الصمد، تحرير الأسدي، محمد مؤيد وعلاء قحطان.
أنس عبد الصمد: الميتامسرح الصامت
أطلق المخرج أنس عبدالصمد عنوان "الميتامسرح الصامت" على عروضه المسرحية، التي بدأ بتقديمها مؤلفاً ومخرجاً مع فرقته "مسرح المستحيل"، منذ النصف الثاني من العقد الماضي، ومن أبرزها: "ماريونت ماكبث"، "صمت كالبكاء"، "عطيلو"، "حلم في بغداد"، "شارع وحياة"، "صمت البحر"، "أبوغريب"، "أيضاً وأيضاً"، "توبيخ" و"نعم غودو:.
وقد استُقبلت هذه العروض بحفاوة من طرف النقاد والمسرحيين والشريحة المعنية بالتجارب المسرحية الجديدة من الجمهور داخل العراق، وأخذت تشارك في مهرجانات عربية وعالمية عديدة في تونس واليابان وتركيا والمغرب والجزائر وهولندا وسويسرا وكوريا وإيران، كما قدم العرض الأخير "نعم غودو" في خمس مدن فرنسية، وفاز بجائزتي أفضل عرض وإخراج في مهرجان العراق الوطني للمسرح العام الحالي، وتُوّج عرض "حلم في بغداد" بالجائزة الذهبية في مهرجان تبريز الدولي.
ليس هذا فحسب، بل جرت استضافة أنس عبدالصمد في أكثر من دولة ومهرجان لإدارة ورشات تدريبية في مجال الميتامسرح الصامت شارك فيها المئات من الممثلين، نذكر منها ورشة في طوكيو، وورشة في أزمير، وورشة في تونس وبنزرت، وورشة في كوريا، إضافة إلى ورشات محلية في بغداد وأربيل وكركوك.
يقول عبدالصمد، جواباً عن سؤال طرحناه عليه حول تصوره النظري للميتامسرح الصامت، إنه "جرّب الفكرة، قبل أن يلتفت إلى دلالة المصطلح، للعمل بأسلوب جديد يقوم على التمرين المستمر، وكتابة النص الجسدي من خلاله، أي الحركة مع الاحتفاظ بالنص والفكرة المكتوبة مسبقا، ليكون التمرين عرضا في نظر المتلقي، ولا يكون عرضا في بعض الأحيان. والهدف في جميع الأحوال تخطي الشكل السائد للمسرح ومخاطبة عقل الإنسان وعاطفته".
وإذا كانت هذه التجارب قد حضيت باهتمام العديد من نقاد المسرح، فإن مصطلح "الميتامسرح"، الذي ربطه عبدالصمد بالأداء الجسدي (الصامت)، لم يتناوله إلا اثنان أو ثلاثة منهم أحدهم المخرج الراحل سامي عبدالحميد.
وفي حقيقة الأمر إن هذا المصطلح يعدّ من المصطلحات الإشكالية على المستوى الدلالي وعلى مستوى الترجمة، فهو يُستخدم مقابلا للمصطلح الأجنبي "Metatheatre". وتُعزى الإشكالية إلى السابقة اللغوية "Meta"، التي تنطوي على لبس عند ترجمتها إلى اللغة العربية، ولذلك يمكن وضع مقابلات عديدة للمصطلح، كالمسرح الواصف، والمسرح الشارح، والمسرح الانعكاسي، إضافةً إلى "ما وراء المسرح"، وغالباً ما يتحدد في لونين هما: المسرحية التي تتمرأى بشكل نرجسي في ذاتها، والمسرحية التي تؤكد اللعبة المسرحية بوصفها لعبةً وتكسر الإيهام.
ومن المعروف أن النقد المسرحي الغربي لم يبلور المصطلح إلا خلال السنوات الأولى للعقد السادس من القرن العشرين، كما يقول الباحث حسن يوسفي، وقد اقترن بالتناص من خلال تجارب في الكتابة الدرامية حاولت استعادة بعض النصوص السابقة عليها في الزمان، وفي إطار منظورات جمالية محددة تستهدف تقويض تصورات كلاسيكية وتعويضها بأخرى حداثية.
في عرضه “حلم في بغداد”، أراد أنس عبدالصمد أن يرسل لمتلقيه بصيصاً من الأمل يتمثل في الحلم ببلد آمن أصابه الدمار، وسُفكت على أرضه الدماء، ونثرت الأسلحة الفتاكة أشلاء أبنائه جراء الغزو والاقتتال والإرهاب، وذلك من خلال مجموعة شخصيات أداها: ياسر عبدالرزاق، إسراء البصام، حمد عمر أيوب، ريتا كاسبار، حيدر عبد ثامر، والمخرج نفسه، في منزل قديم ذي سقف متهالك تخترقه أمطار كثيفة.
تظهر الشخصية الرئيسة في فضاء هذا العرض بوصفها أول الهابطين على الأرض، إنها شخصية آدم، وإلى جانبه امرأة (حواء) تتقاسم معه، في مشاهد سريعة، رقصات يرافقها سقوط تفاح أحمر يملأ المكان إشارة إلى مسألة الغواية. ثم تأتي محاولة آدم الأولى استعراض القوة من أجل فرض سيطرته على الشخصيات الأخرى، وتكون حواء أول الراضخين، تليها شخصية شبيهة بآدم انسلخت عن هويته الأصلية، وتجردت من ذاكرته لتكون نسخة مكررة عنه.
سرعان ما تغدو بقية الشخصيات تابعة له، باستثناء شخصية مجهولة يُفترض أنها شخصية “مثقف” يعزل نفسه عن الآخرين، ويصل به اليأس من المجتمع إلى أنه يفقد إيمانه بالثقافة والقراءة، لذلك يبدأ بتمزيق كل صفحة في كتاب بعد قراءتها حتى يصل به الأمر إلى رمي جميع الكتب، والبحث عن وسيلة ثقافية أخرى تتمثل بتلفاز صغير يرافقه أينما حل لعله ينقذه من عزلة باتت تقتل الحلم في داخله. لكن الكابوس يتغلب على وعيه، ويدفعه إلى تحطيم ذلك التلفاز، وقطع آخر خيوط التواصل مع الآخر.
هنا يستغل آدم انهياره ليفرض سيطرته عليه، ويجد أن لا أمضى من السيف حلا لقتل الثقافة، على نحو رمزي، عن طريق توجيه طعنات إلى صفحات الكتب التي مزقها المثقف. ويستكمل شبيه آدم طعن وجوه أخرى للثقافة في سلوك يحمل أقسى علامات الإرهاب، إلى جانب فعل اغتصاب حواء الذي يُمارس بعنف رمزي أيضا بتعبيرات جسدية متقنة يدعمها توظيف مبهر لجهاز العرض السينمائي (الداتاشو) في تعميق طقسية العرض وجماليته(1).
في عرض "توبيخ"، الذي أداه حمد عمر أيوب، ضرغام قاسم، زكريا طقيق، يحيى بودوشة، أسماء مرزاوي ومريم قرعيز، لم يكن العالم المتخيل حسب قراءة الناقد مروان ياسين الدليمي، إلا تعرية للعالم الواقعي، في سياق فني قائم على التشظي- على غرار تشظي الوضع في العراق- كما انعكس في حوارات تفتقر إلى التجانس وغير مفهومة تنطلق من أقنعة حيوانية، إذ ليس ثمة حكاية واحدة يتمركز حولها المتن الدرامي، فكان المتلقون أمام عملية مستمرة من الهدم والبناء، داخل فضاء يفضي به، من ثم، إلى استجابات شعورية تبعث على الإحساس الدائم بالتوتر، خاصةً أن ما يتحرك في هذا الفضاء من صور متلاحقة تربطها علاقات واهية من حيث الشكل مع العالم الواقعي، لكنها في الوقت ذاته صادمة وساخرة واستفزازية تشكّل إشارات رمزيةً إلى حقيقة العلاقة المشوهة التي تتعامل بها السلطة مع مواطنيها، ومحاولاتها المستمرة لاستنساخهم ليكونوا على صورتها التي جاءت على هيئة حمار.
وسط هذا الخراب المؤثث بالتزييف والتطرف والرعب والموت، يقف الإنسان المثقف عاجزا، ويائسا بعد أن تفقد الثقافة، برمزيتها المعبر عنها بالكتاب، قدرتها على المواجهة، لتسلم الراية لسلطة واقع موبوء بكائنات ممسوخة يجري استنساخها مثلما تُستنسخ الأوراق.
وبقدر ما يدخِل العرض متلقيه في بنية فنية قائمة على التخييل، مبتعداً عن البنى المألوفة التي يفرزها العالم الوضعي، فإنه يظهر بشاعة العالم الواقعي في صور غريبة مدهشة تتوالى في سرد حكاية الصراع الذي يخوضه الإنسان ضد سلطة قاهرة تتفنن في أساليب القمع، إلى درجة لا يسمع صوت الإنسان طوال زمن العرض، دلالة على بقائه مقتولا في داخله بعد أن تمددت شراسة السلطة في كل تفاصيل الحياة(2).
في آخر عروضه “نعم غودو” استلهم عبدالصمد ثيمة الانتظار التي تقوم عليها مسرحية “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت، في فرضية جديدة، ليصور بأداء جسدي العنف الذي يهيمن منذ عقود على بلده، متخذاً من قطع صغيرة على الأرض تمثل مدينة دمّرتها الحرب، وطير في قفص، ومعطف معلّق قرب صورة لبيكيت عناصر للسينوغرافيا.
وعلى مدى 45 دقيقة، هي مدة العرض (الذي مثله المخرج مع محمد عمر أيوب وصادق عبدالرضا)، لا يُفرض شيء على المتلقين، بل لكل واحد منهم غودو الخاص به الذي ينتظره، لكنه لا يأتي.
وفي قراءته للعرض، يقول الناقد أحمد ضياء إن أنس عبد الصمد "سعى إلى فرض أو بيان مفهوم السلطة عبر استدعاء فاعلية رواية (1984) لجورج أوريل، إذ استطاع أن يكوّن من أحداثها فعلاً واحداً، ذلك الذي يدور داخل الرواية ومن ثم داخل العرض ألا وهو "احذر الأخ الأكبر يراقبك"، وهنا يجعل من "الداتاشو" وصورة بيكيت بذات المفعول، فهو يراقب أفعالنا ومكوناتنا. إنَّ هيمنة الأخ الأكبر تعطي امتيازاً خاصاً بكل المقومات الموضوعة، فلم يكن الانتظار الذي نعرفه عن "في انتظار غودو" هو عينه في هذا العرض، بل حمل الأرض قاطبةً، وكذلك الحمل الشخصي المتعلق بكل آليات الإسناد المرتقب من البطل المخلص"(3).
وإذا كان عرض “حلم في بغداد” يبعث أملاً في تجاوز الخراب، فإن هذا العرض ليس فيه بصيص أمل في حدوث شيء إيجابي بعد سيادة العنف، وتجذّر الخراب.
تحرير الأسدي وتشريح الوضع السياسي والاجتماعي المتأزّم
أخرج تحرير الأسدي، وهو كاتب وممثل أيضاً، مجموعة مسرحيات منها "شارع الواقعة"، "بس"، "مطلوب"، "وقت ضائع"، "المقهى" و"دخان". وقد أتيحت لي، أول مرة، فرصة مشاهدة أحد عروضه، وهو "وقت ضائع"، من تأليفه، في مهرجان الأردن المسرحي الرابع والعشرين عام 2017. كان تجربةً جريئةً في تناول قصة آدم وحواء وإسقاط مغزاها على عالمنا اليوم، من خلال زوجين عراقيين طُردا من نعيم السكن في شقة بالطابق الأعلى، وهبطا إلى الشارع بسبب خطأهما المتمثل في فتح باب سبق أن حذّرهما مالك الشقة من فتحه. هذا الزوجان أفقدتهما الحرب ذاكرتهما، إلا أنهما سرعان ما استعاداها وبدآ بسرد ذكرياتهما الحزينة والمآسي التي مرا بها، وفي نهاية العرض يصرخ الزوج قالئلا "مللت من ذاكرتي.. مللت".
وقد أثار العرض في ذهني يومها قضية "التابو" في المسرح والفن بشكل عام، فالمسرح، كما أرى، حقل إبداعي للمجازات والاستعارات، ومن حق أي كاتب أو فنان أن يتناول سرديات الكتب المقدسة، مثل قصة آدم وحواء وطردهما من الجنة وغيرها، ومقاربتها لإضاءة الحاضر، شريطة ألاّ يكون فيها إساءة أو إسفاف. وعلى هذا الأساس قرأت العرض مؤولاً إياه بأنه يشير إلى الاحتلال الأمريكي للعراق الذي أسقط البلد إلى الهاوية أو الحضيض، وترك شعبه يتخبط، ويتقاتل ويعيش في متاهة وضياع وأسئلة ليس لها أجوبة قاطعة.
اجتهد تحرير الأسدي وحاول أن يسقط قصة طرد آدم وحواء من الجنة إلى الأرض على دور الإنسان نفسه في إشاعة الخراب والدمار والحروب في الأرض، وقد نزّه الذات الإلهية صراحةً عما يجري في الأرض، ولا أرى ضيراً في تحويل ما هو ميتافيزيقي وميثولوجي ومقدس متعالي إلى صورة وفعل يمشيان، رمزياً، على الأرض. وكان أداء المبدعين آسيا كمال ورائد محسن لدوريهما متقناً، متدفقاً، إلا أن العرض كان بحاجة إلى اشتغال دراماتورجي أكثر، وخلق علاقة بنيوية بين "الداتاشو" التي تعرض (مشاهد للنيران تلتهم العراق، والبحر رمزاً للرحيل، والهجرة من أجل الخلاص، والمطر رمزاً للأمل) وموضوعة النص.
وذهب أحد النقاد إلى أن العرض شكّل وقفة تأمل للحالة العراقية، والآثار المدمرة للحروب والصراعات التي شهدتها– ولا تزال- أرض الرافدين وتداعياتها المختلفة، وانعكاس كل ذلك على الإنسان العراقي وآماله وطموحاته وتفكيره.
أعد الأسدي مسرحية "شارع الواقعة" عن مسرحية "الواقعة" للكاتب الألماني هاينر مولّر، وقدمها في منتدى المسرح عام 2010. النص الأصلي يتألف من مشاهد مسرحية حول الحرب العالمية الثانية، وبالذات عن دور النازية في ألمانيا، وما أحدثته من دمار وخراب. صور وحالات ومواقف تعبر عن القسوة الشديدة التي مارسها النازيون في الحرب مع أنفسهم وضد الآخرين، وعن الازدواجية التي عانت منها النازية كأفراد وكنظام. وفي إعداد الأسدي للنص جعله يجسد صراعاً بين شخصين (أدّاهما وسام عدنان وأحمد صلاح) يحملان تشوهات في بنيتهما الأخلاقية وعلاقاتهما الاجتماعية والعائلية، ويشيران إلى طرفين طائفيين في الحياة السياسية والاجتماعية بالعراق، وكل منهما يحاول إقصاء الآخر، وزعزعة ثقته بالمقربين منه، ويرى أن وجوده يشكل عائقا وعليه أن يرحل.
اعتمد الأسدي في صياغة البنية المشهدية للعرض أسلوب التقطيع واللعب بالإضاءة، كما تقول الكاتبة أطياف رشيد، فثمة تناوب بين الإضاءة والإظلام في تعيين مشاهد/ صور هي اقرب للقطات التي تكشف عن نقطتين أساسيتين، أولاهما التركيز على ما يعانيه الإنسان من غربة ووحدة، حيث يحزن ويبتسم وحيدا، او تجمد جوارحه وتسكن ملامحه في صمت عميق، وذلك من خلال عزل الممثلين كصورة ضائعه في بحر من الظلام في محاولة لمحاورة المشاهدين عبرها، من دون حوار، وثانيتهما الجزء الذي يوضح أسباب هذه الوحدة والغربة وكم الظلام المخيم على حياة الشخصية، إنها الحرب، لكنها ليست كأي حرب، بل مجموعة حروب متشعبة لها امتداد وتاريخ طويل من المعاناة والآثار المؤلمة. وترى رشيد أن أجمل ما في العرض ثلاث مشاهد عكست بوضوح الفكرة العامة للمسرحية، وهي مشهد الشعائر حين تقابل كل من الممثلين في طقس ذي مدلولات دينية واضحه، ومشهد البكاء حين أسند كل منهما ظهره إلى الآخر، في إشارة إلى الآثار السلبية المشتركة الناجمة عن صراعهما، ومشهد القتال حين تحول كل منهما إلى سلاح أو عدة أسلحة فتاكة(4).
جمع الأسدي في عرضه "نشاز"، الذي قدمه في مهرجان كلية الفنون الجميلة عام 2012، بين مجموعة مشاهد مسرحية عالمية من "هاملت" و"ماكبث" لشكسبير، و"كاليغولا" لألبير كامو" تصور القتل والعنف والدمار، مولّفاَ إياها بأسلوب التقطيع واللصق، أو ما يمكن وصفه بـ"الكولاج" المعروف في فن الرسم، وأوحى من خلالها إلى ما يحدث في العراق من عنف ودمار. واتخذ العرض شكلاً من أشكال الميتامسرح تتداخل فيه اللعبة المسرحية الانعكاسية. ففي البداية يحاول الممثلون (حيدر عبد علي، محمد ثامر، حيدر سعد، حسين وهام وآمنة خالد) إقناع المخرج بأن يقدموا مشاهِد عن الحب والسلام، لكنه يرفض ذلك لأنها في رأيه بداية غير واقعية، ويأمرهم بأن يقدموا مشاهِد سوداوية تجسد العنف والسوداوية التي تسود البلد، وتتناغم وواقع المتلقين(5). وفي ذلك تأكيد لفكرة أن ثمة سلطةً خارجيةً تريد من العراقيين أن يمثلوا (أو يدمنوا على) مشاهد القتل والدمار في حين أنهم يريدون تمثيل مشاهد الحب والإلفة تعبيراً عن طبيعتهم وروحهم التواقة إلى السلام والوئام، بوصفهم أبناء شعب متمدن في الأساس مثل باقي الشعوب، لكن إرادة الشر والخراب غرست في نفوس شرائح منهم القبح والحقد والكراهية.
وحاول الأسدي في عرضه "المقهى"، الذي كتبه وأخرجه للفرقة الوطنية للتمثيل، وشارك في الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي في الرباط عام 2015، أن يشرّح الواقع العراقي المتشرذم حاليا، بمحاكمة مضمرة للماضي ونكباته، فالظلم تاريخ من التراكم، والقهر سردية متواصلة من المعاناة، والعراقي الذي ضاقت به بلاده اليوم واصطخبت سماؤها بأدخنة التفجيرات، وامتقعت أرضها بدماء الأبرياء، ليس سوى حالة من العود لعراقيي العقود الخالية، الذين كممت أفواههم وصودرت حرياتهم واهترأت أجسادهم في الزنازين المعتمة. وقد اختار الأسدي فضاء المقهى لتجري فيه أحداث العرض لأنه يحيل، في الثقافة الشعبية العراقية، إلى عهد ضج بالأحداث السياسية الفاصلة في التاريخ العراقي، حيث كان يمثل مجمعاً للحركة الوطنية والتيارات الثقافية على اختلاف مشاربها، لكنه صار، في ظل أنظمة الفساد والقتل على الهوية، مقبرةً مُشرعةً في وجه رواده، وذاك ما اتنتهى إليه العرض، حيث تصير الكراسي والأرائك توابيت تحمل جثامينهم(6). وقد استقبل العديد من المسرحيين والنقاد، داخل العراق وخارجه، المسرحية باحتفاء كبير، وكان في مقدمتهم المخرج صلاح القصب الذي قال عنها "المسرحية أهم ما شاهدته منذ فترة، وهي أشبه بأعمال كبار التشكيلين الذين يؤلفون من بريق اللون والحركة والكتلة إنشاء بصريا كبيرا". كما كتب الكاتب عطيل الجفّال عن المسرحية مؤكداً أنها "تبعث رسالة احتجاج على الوضع السياسي والاجتماعي المتأزّم منذ عقود، وتحاول أن تجمع الزمن منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي حتى اللحظة، بلغة ومشهدية حداثية... كان صوت رقّاص الساعة نهاية العرض المفتوحة على بدايته، كأن العمل برمته تدوير للفاجعة التي لا تبدأ من نقطة حتى تنطلق مجدداً من ذات النقطة. هكذا ينتقل الزمن العراقي المتخثر في أقداح الشاي إلى رواد المقهى، ليصنع من رؤوسهم رقاصات ساعة متحركة بدلاً من البندول".(7) ورأى الممثل الراحل عبد الجبار الشرقاوي أنه عرض استطاع أن يعيد الحياة إلى شباب المسرح، ودورهم في إحياء أمجاده، فأبطاله (مرتضى حبيب، ياس خضير، محمد بدر، وسام عدنان، حسين وهام وتحرير الاسدي) يمتازون بمخيلة واسعة، وقد جسدوا بنجاح أوجاع الوطن وهمومه، كما امتاز العرض بالأناقة في معالجته الفنية، وحمل الكثير من الرسائل المهمة(😎.
علاء قحطان: جحيم القهر
بدأ قحطان تجربته في الإخراج المسرحي مع نص “الله والشيطان” لجان بول سارتر، ثم مع نصه الثاني “جلسة سرية”، وشارك بكلتا التجربتين في العديد من المهرجانات داخل العراق وخارجه، وفازت الثانية بأكثر من 7 جوائز دولية و4 محلية.
أعدّ قحطان نص “جلسة سرية” (2011) بما يلائم الواقع العراقي من ناحية علاقة المثقف بالسلطة الدينيّة، وقرّب العرض الذي أنتجته فرقة مسرح بغداد للتمثيل، ومثله هشام جواد، حيدر جمعة، كايد عباس، أحمد مونيكا، ريتا كاسبر وأحمد إبراهيم من مسرح القسوة عبر تجسيد صراع الأفكار والتوجهات بين المثقف والمتشدّد الذي يحاول فرض قناعاته ولو بالقوة.
وصاغ المخرج طقس عرضه بنسيج بصري تكشف تشكيلاته عن جحيم يتمثل بسلطة الدين التي تقمع كل من لا ينتظم تحت لوائها، رافضةً العقل الإنساني وقدرته على الخلق الإبداع، محملاً إياه رمزيّةً تشير إلى أزمة الإنسان، ومكرراً عبارات السأم، وإعلان الثورة على الواقع المأزوم، والتركيز على جملة سارتر الشهيرة “الجحيم هو الآخرون”. لكن مَن هم الآخرون؟ هل هم الأميركيون أم ساسة ما بعد الاحتلال في العراق؟
حمل عرض قحطان الثالث عنوان “باسبورت”، وقدمه باسم الفرقة الوطنية للتمثيل ضمن فعاليات بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013، ونال ثلاث جوائز هي؛ أفضل مخرج، أفضل عرض متكامل وجائزة النقاد.
وقد أتيحت لي فرصة مشاهدته خلال مشاركته في الدورة الخامسة لمهرجان المسرح العربي الذي تنظمه سنوياً الهيئة العربية للمسرح. ثم شارك في أيام قرطاج المسرحية بتونس، وعُرض في محافظات صفاقس والمنستير والكاف ونابل التونسية.
يتناول العرض، الذي كتب نصه حيدر جمعة ومثّل شخصياته ذو الفقار خضر، ياسر قاسم، حيدر عبد ثامر، قصي شفيق، حيدر جمعة، آمنة خالد، مينا فارس وضيف الشرف مازن محمد مصطفى، قصة أربعة شبّان عراقيين يحاولون السفر إلى الخارج هربا من القهر الذي يتعرضون له في وطنهم، وعند وصولهم إلى محطة القطار ينهار المبنى الذي يتواجدون فيه، ويصبحون تحت الانقاض، فيكشفون عن معاناتهم بشكل تفصيلي، وعن الدوافع التي أرغمتهم على التفكير في السفر.
وسعى علاء قحطان في عرضه الرابع “ستربتيز” (2016)، تأليف مخلد راسم وتمثيل أحمد شرجي، ياسر قاسم، هند نزار، وسام عدنان وعامر نافع، وإنتاج فرقة مسرح بغداد للتمثيل، لتعرية الانقسامات والصراعات السياسية والثقافية التي يعيشها العراق منذ الاحتلال الأميركي من خلال أحداث تجري في بيت لأسرة مفككة يرمز إلى البلد.
خمسة أفراد تتقاطع توجهاتهم وأهواؤهم يشتركون جميعاً في لباس أحمر اللون (إشارة إلى الدم)، الأب رمز السلطة العليا، اتكالي وجبان باع الوطن مقابل سلامة نفسه ينتهي مصيره إلى الموت خنقا، والأبناء يرمزون على اختلافاتهم إلى الشعب، يدور بينهم صراع يومي ويحلمون بالخروج إلى الشارع من دون الاصطدام بالجثث أو الاستماع إلى أصوات إطلاق الرصاص أو استنشاق رائحة الموت.
الابن الأكبر متطرف فكريا يميل إلى الفكر الإخواني وتطبيق حد القتل والشّرع، ويريد أن يرهبه الجميع، يفقأ عين أخيه الأوسط الخانع غير المبالي بالآخرين ولا بهواجس المجموعة، المنشغل فقط بذاته. أما أصغرهم فهو أنموذج للإنسان المتمرد الصارخ، الراغب في تجاوز الحواجز والمعيقات التي تضعها السلطة ليشعر بإنسانيته، لا يزال يحلم بوطن سُرقت أحلامه وأُجهضت آمال أبنائه، لكنه يتعرض إلى الذبح.
ووسط هؤلاء أم تخرج من البيت ولا تعود، وفتاة هي أصغرهم تعاني من القيود المفروضة عليها، وتمثل أنموذجا للمرأة في المجتمع الذكوري المغلق. وفي سياق تعرية السياسة والثقافة والفكر الديني المتزمت يكشف العرض عن الوحش الكامن داخل النفوس، ويطرح أسئلة كبيرة تتجسد داخل هذه الأسرة المفككة.
يقول الناقد سعد عزيز عبدالصاحب عن هذا العرض إنه “أشار بشجاعة بالغة إلى الكثير من المشكلات والعلل الاجتماعية مثل مشكلة الحرية والإرادة، ووجهة النظر الواحدة، والراديكالية الدينية المتطرفة، وقبول الآخر مهما كان توجهه الأيديولوجي ولونه وجنسه ودينه (…) وهي علل ومشكلات عضوية حقيقية تغزو وتنخر جسد مجتمعنا، وتُعدّ حواضن دافئة تفقس أفكار الإرهاب والتطرف والعنف”(9). أما علاء قحطان فيؤكد أن العرض "تعرية على جميع المستويات ،للسياسة، للثقافة، للدين، للفكر، للإنسان نفسه، ستربتيز تناقش الوحش الموجود داخل كل إنسان، هذا الوحش الذي ظهر بعد 2003، فكانت الأسئلة كبيرةً مجسدةً في هذه العائلة المفككة التي توجد تقاطعات بين أفرادها"(10).
آخر أعمال علاء قحطان، وهو من تأليفه أيضاً، عنوانه "25 ريختر"، والعنوان مجازي يشير إلى تظاهرات 25 أكتوبر 2019 بوصفها حراكاً شعبياً احتجاجياً شديداً زلزل الوضع المزري في العراق.
يتناول العرض وجع العراق منذ السبعينات حتى اندلاع هذا الحراك الشعبي من خلال شخصيتين هما راقصة (تؤدي دورها الممثلة وعارضة الأزياء زمن الربيعي) ورجل (يؤدي دوره ياسر قاسم)، وتجري أحداثه في أحد ملاهي بغداد التي كانت تعمل عام 1970، حيث تذهب الشخصيتان إلى ذلك المكان لاستذكار حياتهما فيه واستعراض أوضاع العراق خلال أربعينن سنة.
وفي سياق مقاربته لهذا الموضوع أكد علاء قحطان على ثيمة، مشابهة لثيمة عرض "ستربتيز"، مفادها أن في داخل كل شخص وحش لا بد من الإمساك به. وثمة أشخاص أطلقوا العنان لهذا الوحش فقتلوا ودمروا ونهبوا وعاثوا فساداً، كما حدث في العراق(11).
وأوضح أنه كتب نص العرض استناداً إلى رؤيته مخرجاً وليس أديباً، واشتغل في بنائه على ثنائية الفضاء/ اللغة الجسدية، مستثمراً إمكانية الممثلَين في الأداء الجسدي.
محمد مؤيد: ماسي العراقيين بالرقص الدرامي
دخل الرقص الدرامي إلى المسرح العراقي أول مرة على يد الفنان طلعت السماوي عام 2000، حين عاد إلى بغداد وقدم عرضا بعنوان "خطوات إنسان"، يقوم على الحركة ولغة الجسد بوصفها لغة مصاحبة للغة اللفظية التي يستخدمها البشر، بمعنى أن العرض لا يفصل الكلمة عن الجسد، لكن الجسد فيه لغة أساسيّة، ويستخدم النص من دون الاشتغال على الحكاية أو السرد داخله، بل بالاشتغال على ما يسميه "الاختزال" ليصل إلى حدود الرمز.
وليس في هذه العروض شخصيات محددة، وإنما رموز تشتغل فوق الخشبة، وترسل علامات حركية أو لغوية تمنح المتلقي مجالاً للأسئلة، وتدفعه إلى التفكير والتفكيك والتحليل. كما صمم السماوي مجموعة عروض، منها عرضان هما "وجوه القمر"، و"صفر زائد صفر يساوي صفر"، اللذان قدمهما في المعهد الثقافي الفرنسي ببغداد عام 2012.
وقد تبنى هذا الشكل الفني بعد السماوي بعض تلاميذه وعدد من المسرحيين الشبّان في بغداد، وقدموا عروضاً مسرحيةً شكّلت موجةً في المسرح العراقي، وكانت مدهشةً في بداياتها، لكنها خفّت تدريجيا، حسب رأي المخرج المسرحي الراحل سامي عبدالحميد، بسبب التكرار في الحركة والتعبير الجسدي الذي التزموا به، ولم يحاولوا تطويره.
أسس المخرج محمد مؤيد فرقة الرقص التعبيري عام 2010، وتولى تدريب أعضائها، وجلّهم طلبة في معهد الفنون وكلية الفنون في بغداد، وكانت أولى تجاربه معها عرض بعنوان "أنا" (2011) الذي قُدّم في المسرح الوطني ببغداد، ومسرح الطليعة في القاهرة.
وأعقبته تسعة عروض منها "وهم" الذي قُدّم في مهرجان منتدى المسرح التجريبي السادس عشر (2011)، وفي المسرح البلدي في تونس بسوسة، و"تذكّر أيها الجسد" في مهرجان بغداد لشباب المسرح العربي، و"لم أزل أتلو وتب" في مهرجان بغداد الدولي الأول للمسرح، و"رأيت بغداد" الذي افتتح فعالية بغداد عاصمة الثقافة العربية، و"طلقة الرحمة"، و”سيلفون" الذي عُرض في بغداد، ومهرجان المسرح الأردني الثالث والعشرين، وأعيد عرضه في بغداد بإنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل بعد إجراء بعض التغييرات عليه.
وقد ركّزت هذه العروض على الكوارث والمحن التي عاشها العراق، جراء الحروب والاحتلال والاقتتال والتطرف الطائفي والسياسي. كما أقامت الفرقة ورشاً ومختبرات تدريبية تأهيلية لفن الجسد.
حاول مؤيد في عرضه "تذكّر أيها الجسد"، الذي صمم له السينوغرافيا فلاح إبراهيم، وأداه 32 ممثلاً وممثلةً، الكشف عن المستور في الشخصية العراقية التي صدمت بواقع الفقر والقتل، وتراكمت عليها المعاناة منذ السبعينات وصولاً إلى فترة ما بعد الاحتلال التي صارت أشد وطأةً.
جسد العرض في نصف ساعة مجموعة من الشبان والشابات يرتدون ثيابا حمراء، ويتجمعون بحلقة دائرية حول فتاة ترتدي ملابس بيضاء، وتحمل دمية طفل تلاعبها وتراقصها بألم، وكلما ثارت مشاعر الفتاة تحركت حلقة الشبان كأنها تعكس ما في داخلها من ثورة، وفي عمق المسرح بئر عميق ورجل عجوز تغويه فتاة راقصة رغم امتناعه، وثمة جسر خشبي من طابقين يسير عليه المؤدون ببطء كمن يذهب إلى الحرب أو إلى الموت أو إلى العدم، ثم يزحفون أسفل الجسر(12).
وفي لوحة أخرى تقف الفتاة قرب جنازة شاب تشاركها فتيات في مراسم العزاء، وثمة فتاة ثانية تحلق شعر رأس شاب. وقد حاول المخرج من خلال أداء الممثلين تصوير ثورة هؤلاء الشبّان والشابّات في بلد يخرج من حرب ليدخل في أتون حرب أخرى، لكنهم يكتمون هذه الثورة في دواخلهم، في حين تتطاير أحلامهم وتمضي بعيداً من دون عودة(13).
وحملت ثيمة عرض "لم أزل أتلو وتب"، وهو من تأليف مؤيد أيضاً، وتمثيل ميلاد سري، رؤى خالد وهبة صباح، إلى جانب أعضاء الفرقة، دعوة إلى نقل الإنسان العراقي من العتمة إلى النور، من الحرب إلى السلام، ووجهت اللعنة تلو الأخرى على ما جرى للعراقيين من ويلات بسبب الحروب والتطرف الديني والطائفي والسياسي، وبينت أن الإنسانية أعظم ما في الوجود، وحثت على أن يتعامل البشر على أساس إنساني وليس على أساس العرق أو الطائفة أو المصالح السياسية.
واستعاد مؤيد في عرض “سيلفون”، الذي صمم له السينوغرافيا بشار عصام، ونال الجائزة الذهبية في مهرجان المسرح الأردني الثالث والعشرين، ثلاثة أزمنة عراقية، تبدأ بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، يشكّل الموت عنوانها الرئيسي، وما زالت تتفاعل تداعياتها وظلالها على الواقع الاجتماعي.
الزمن الأول بين عامي 2006– 2007، وهو زمن الاقتال على الهوية الطائفية، والثاني مذبحة سبايكر، التي راح ضحيتها نحو 1907 جنود متدربين من الجيش العراقي (في قاعدة سبايكر الجوية) أسرهم تنظيم داعش عام 2014، والثالث رحلة الهروب الجماعية عن طريق البحر إلى أوروبا عام 2015.
أخذت الأزمنة الثلاثة العراقي إلى موت عبثي، بعد أن عاش حياته مضطربا ومتأرجحا بين الحياة والموت، فكان على الجسد أن يعيد تشكيل الحكايات الفردية للموتى بما تحمله من تفاصيل مختلفة ما بين حكاية وأخرى لكل شخصية من شخصيات العرض، قبل أن تلقى مصيرها وتغادر الحياة في لحظة غير منتظرة. بمعنى أن جميع الشخصيات كانت غائبة عن الحياة وهي تسرد قصصها عبر تعبيرات جسدية، في لحظات احتباس أرواحها داخل أجساد مطلية بمادة السيلفون، وفي محاولاتها الخروج إلى واقع افتراضي(14).
وقد ذهب العديد من النقاد إلى أن العرض حمل رؤية إنسانية شفافة إزاء ما يتعرض له العراقيون من تحديات وجودية، وكان بمنزلة صرخة احتجاج في إطار جمالي ضد صور الموت التي تواجههم، وتقتل أحلامهم وحكاياتهم قبل أن تكتمل.
وربما من المناسب أن أشير إلى أنني دونت في صفحتي بالفيسبوك، بعد مشاهدتي للعرض في عمّان، أنه عرض مدهش ينتمي إلى مسرح ما بعد الدراما، جمع في لوحاته بين جمال الأداء الحركي والتكوينات البصرية والثيمات المشحونة بدلالات صادمة ومثيرة وجدانيا.
لقد قُدّم العرض بأداء جسدي وراقص، متقنا نماذج من الفواجع العراقية: سبايكر، القتل على الهوية، الاغتيال بالكاتم، وردود أفعال الأمهات الثكالى اللواتي فقدن أبناءهن خلال سنوات الجحيم الذي لا ينتهي.
المراجع
(1) صميم حسب الله، "الإغواء والضحية.. نهاية لاقتباسات متعددة.. أسئلة ترتقي إلي سقف الخشبة"، موقع الحوار المتمدن الالكتروني، العدد 2931، 1 / 3 / 2010.
(2) مروان ياسين الدليمي، "تهديم اشتراطات العالم الواقعي في العرض المسرحي العراقي توبيخ"، جريدة القدس العربي، لندن، 1 أغسطس 2019.
(3) أحمد ضياء، "فاعلية انهيار الأنظمة المفاهيمية في مسرحية Yes Godo"، مجلة سفن آرت 2 الإلكترونية، 14 سبتمبر 2021.
(4) أطياف رشيد، "مسرحية شارع الواقعة"، موقع الحوار المتمدن الالكتروني، العدد 2940، 10/3/2010.
(5) عادل الشامي، "نشاز تحرير الأسدي انسجام تام مع الكولاج المسرحي"، موقع الحوار المتمدن الالكتروني، العدد 3769، 25/6/2012.
(6) .....، "مسرحية "المقهى".. أحاديث المقهورين تحصي الزمن العراقي المفقود"، جريدة القدس العربي، لندن، 13 يناير 2015.
(7) عطيل الجفال، "المقهى.. زمن متخثر في أقداح الشاي"، موقع الجسرة الثقافي الالكتروني. د. ت.
(😎 أفراح شوقي, "المقهى.. عمل عراقي يعري ثقافة الخوف السائدة منذ السبعينات"، جريدة الشرق الأوسط، لندن، العدد 13165، 14 ديسمبر 2014.
(9) سعد عزيز عبد الصاحب، قراءة في عرض ستربتيز"ـ موقح المسرح نيوز الالكتروني، 7 أغسطس، 2016.
(10) عبدالجبار العتابي، "مسرحية "ستربتيز" عرّت الواقع العراقي وناقشت تحولاته". موقع إيلاف الالكتروني، 4 أغسطس 2016.
(11) وائل الملوك، "25 ريختر تكشف معاناة الإنسان والمجتمع مع ذاته"، جريدة الصباح، بغداد، 6 تموز 202ذ.
(12) سمرقند الجابري، "تذكر أيها الجسد"، موقع النور الالكتروني، 16/8/ 2013.
(13) المرجع نفسه.
(14) مروان ياسين الدليمي، "العرض المسرحي “سيلفون”: الخروج من تأطير الجسد والاشتغال في منطقة التخييل الفني"، جريدة القدس العربي، لندن، 16 فبراير 2019.
--------------------------------------
مجلة الأقلام -بغداد- العدد الرابع- السنة السادسة والخمسون- تشرين الثاني/ نوفمبر- 2021
0 التعليقات:
إرسال تعليق