جمالية الصورة و الحب في مسرحية مريريدة نايت عتيق
مجلة الفنون المسرحية"الحب أصغر من أن يدرك الضمير، لكن من يدري أن الضمير ليس مولودا من الحب؟" وليام شكسبير
يبدأ كل شيء من الحب تم ينتهي كل شيء إلى الحب ، حين نعود لأصل السلوك و الفعل الإنساني، نجد بين ثناياه الخفية يسكن شيء جوهري
و هو الشوق الذي يحفز ذلك السلوك للخروج من القوة إلى الفعل و يتم التعبير عنه بطرق مختلفة حسب شخصية الفرد و تقاليد الجماعة و قيم التربية التي قد تكبح جماح الحب و تشوهه أو قد تجعله منطلقا للثورة و الحرية و هذا ما جعل امرأة من مكداز إيطو (مريريدة) بنواحي دمنات تعيش حكاية استثنائية يحركها العشق و يعبر عنها الشعر و الجرأة على رفض واقع تصفه في أشعارها بالتقاليد و الأخلاق المزيفة أو السائلة بتعبير بولمان .
حكاية تعبر عنها إيطو شعرا و غناء و يحولها المخرج المسرحي المغربي مولاي الحسين ايت الهندي بعد قرن من الزمن إلى مسرحية تمتد مكانا من مكداز بجبل راث إلى دمنات العريقة حتى آزيلال و تمتد زمانا من مطلع القرن العشرين إلى النصف الثاني منه في قالب درامي يجمع بين الملهاة و المأساة وكأن الرجل يبشر بمسرح أمازيغي مختلف يتجاوز الرؤية التقليدية للنص وكذا رهان العرض الذي يتجاوز فيه الفرجة و التشويق أو اللذة الحسية اللحظية إلى التأثير العميق في المتفرج بكل فئاته و قدراته الفنية فتحضربذلك رمزية الصورة وقوة الموسيقى وجمالية الحركة ثم رصانة الحوار الذي يجمع بين الهزل و الجد في نفس اللحظة فيمرر رسائل تستدعي المتناقضات (الفرح و الحزن) فيحصل ذلك التوتر الذي يدفع الذات إلى التفكير في إبعاد تلك الرسائل العميقة.
يقدم مولاي الحسين ايت الهندي المسرحية وهي عبارة عن شذرات السيرة الذاتية لإيطو أو مريريدة نايت عتيق معتمدا على ما خطه المعلم الفرنسي رونيه اولوج -وهو العاشق لمريريدة و المسامر لها في مرحلة من عمرها سواء بليالي مدينة دمنات الباردة أو بأزيلال لاحقا - و هو المرجع الوحيد لقصائد إيطو في كتابه أغاني تساوت (باللغة الفرنسية) تم ترجمه عبد الكريم جويطي بأمانة و دقة عالية إلى اللغة العربية.
تبدأ المسرحية من آخر الحكاية حيث عاد المعلم الفرنسي رونيه اولوج (كاتب أشعار مريريدة ) الذي يحمله الشوق إلى البحث عبثا عن مريريدة بقريتها مكداز ، هي في نظره الشاعرة الفاتنة التي تجمع بين سلطان اللسان و جمال القوام والفطنة ، هي نموذج للمرأة الأمازيغية القوية التي تتميز بالممانعة و الجرأة على الرفض و النقد في مكان و زمن فقد فيه الإنسان الأمازيغي و المغربي عامة القدرة على الممانعة، و سيطر فيه الخوف و التردد .
لكن مريريدة كانت في نظر أهل الدوار مجرد مومس ترفض قدرها و تلطخ شرف عائلتها بمصيبة الحب و الجنس فتنكر لها الجميع وامتنعوا عن الحديث عنها أو حتى عن ذكر اسمها ، لكن ولأن مريريدة في الأمازيغية تعني (ضفدعة الوادي الخضراء الرشيقة التي تتميز بنقيقيها القوي الشبيه بزغاريد الصافية) صادف روني أولوج طفلتين من الدوار إحداهما تحمل نفس الاسم فما إن نطق أولوج اسم مريريدة حتى دفعهما الفضول إلى السؤال عن طبيعة حكاية هذه المرأة التي يسأل عنها رجل فرنسي غريب بلهجة أمازيغية ركيكة..
لم تعلن المسرحية عن رهانها إلا على مضض ومع فصولها التي امتدت إلى ساعة و نصف من الزمن تجمع بين جمالية الصورة و الحركة و الموسيقى وبساطة الحوار الذي يثير السخرية من جهة و من جهة أخرى عمق الحوار؛ فيستمتع الجمهور دون رتابة -و كأن المخرج في هذه الازدواجية يبقى وفيا لرهانه في رسم ملامح جديدة للمسرح عامة و هذا ما يتأكد في كل عمل من أعمال الرجل .
يثير مولاي الحسين ايت الهندي البعد السياسي و الاجتماعي في تلك الفترة حيث تغيب فضيلة العدالة و الإنصاف فيستحل الإنسان إلى شيء و وسيلة بيد السلطة بمعناها الداخلي ( المقدم و القايد ) والخارجي (المستعمر) .
حتى التقاليد الخاصة التي تسيطر على سلوك الجماعة في الزواج و الطلاق و العلاقات بين الجماعة وبين الأنثى و الذكر فيشوب الحكم على القبيح و الجميل نوع من القلق و النفاق و الازدواجية و هو ما تكشفه مريريدة بجرأة في حوارها مع نساء القبيلة فتؤكد على أن هذه التقاليد سائلة كالحب لا تسطيع الوقوف بصلابة أمام النقض و دوائر الزمن.
وفي لحظة وعي بالتاريخ و جراح التاريخ يعرج المخرج عن لحظة مؤلمة (طائرات الموت ) لدولة تقصف النساء و الأطفال و الشيوخ العزل بالطائرات الحربية وتجرب نجاعة أسلحتها على أبناء الأمازيغ بجبال الأطلس الشامخ فتقصف كل من يطالب بحقه في الحرية و الحياة. يعود المخرج بالذاكرة ومن خلال قصيدة مريريدة (طائرات الموت)إلى القصف الهمجي الذي طال مناطق أزيلال؛ قبيلة ايت عدي .
حب سائل هكذا تعبر مريريدة في فصل من المسرحية -وهي تناجي حبيبها ايدر في لحظة صفاء- لم يكن الحب بيننا إلا وهما يلبس ثوب الحقيقة ، نعم كان كل شيء جميلا بيننا في تساوت بعيدا عن عيون القبيلة ،العناق و القبل و الوعود بالوفاء و العيش المشترك حتى الفناء ، نعم أنت بعيد الآن في هروبك الاختياري تحارب الغرباء في بلاد غريبة عنا ، و الحرب الحقيقية هنا مع التقاليد و العادات تركتني لقدري أعشق الابن و أمنحه الحب فيتزوجني الأب، هذه هي التقاليد، فالشيوخ يتزوجون الصغيرات في بلدتي كما هي التقاليد ترفع عني العفة و الطهارة لذنب الحب ، نعم أعرف أنك تسمعني فروحي تسكنك وإن صار جسدي ملكا لكل الرجال .
إن الحب و التقاليد وكل شيء في قبيلتي سائل لا يقف بصلابة أمام الظروف ، أمام المنطق و العقل ، نعم إن الله لم يخلق في أرضنا مكانا للحب ولم يخلق مكانا للورد .
0 التعليقات:
إرسال تعليق