فيودر دوستويفسكي: "حلم رجل مُضحك" الرؤية الإخراجية للبروفسّور طلال درجاني
مجلة الفنون المسرحية “يُولد الشر، ومن ثم يُولد الإنسان معه” هي الرؤية الإخراجيّة لعرض “حلم رجل مُضحك” الذي أخرجه البروفسّور طلال درجاني بعد مسرحة قصّة المُفكّر والروائي الكبير فيودور دوستويفسكي، وأما المُضحك شكلاً ومضموناً فهو أن “الرجل المُضحك” العبقري، والفيلسوف والمُبدع في أساليب موت شخصه انتحاراً، عمل بعبقريته على تطوير دروس ومناهج الشر.
يسمّونه المجنون، يعطف على الناس عندما يسخرون منه، وحده يعرف حقيقة الوجود في الحياة. يصادق الكآبة وبطريقة حميمية. يعي أكثر من الكل بأنه “مُضحك” في حين أنه العالِم والكاتب والمُفكّر. وجود العالَم أو عدم وجوده سواء بالنسبة إليه. قرف، لا يشعر بتاتاً بما حوله. أحيانا، توقظه الطبيعة القاسية من مُعاناته: برودة الأمطار، عدائيّتها تجاه الناس، الرطوبة. البخار المُتصاعد من كل حجر في شوارع المدنية يتحوّل إلى عتمة تفرح قلبه ولو للحظات، يشتدّ سواده لدى النظر الى السماء وغيومها المُهلهلة دائما، وإلى البقع السوداء التي لا تملك قراراً، إلى أن يلحظ فجأة نجمة كانت الأمل لأنها أهدته القرار بقتل نفسه، ملأ المُسدّس ووضعه أمامه، وبدأ يبحث في الطرق وجمالياتها المُختلفة ليقتل نفسه. الموت هاجسه، الانتحار سعادته، والشر ينمو بلطف بين أفكاره، فكرة الموت تلاحقه بحب ليهرب من عالَم الشر الذي يسكنه كل لحظة، الشر أجبره، وهو مُقتنع بهذا الإجبار، برفض مُساعدة امرأة تنازع على قارعة الطريق، بقناعة تامّة رفض الإنسانية، الرجل المُضحك عشق كل احتيالات الحياة، كره المُطالعة، عشق سهر الليل في غرفته البائسة فقط لأن المُسدس أمامه وينتظر اللحظة المُناسبة ليطلق النار على نفسه، لأنه يؤمن أن بموته يموت العالم كله، فكرة تدمير العالم تلاحقه في كل ثانية، يعتقد أن بموته تنتهي الحروب، وتكون نهاية البشرية كلها.
عالم دوستويفسكي مليء بالمُتناقضات، وهذا واضح في شخصية الرجل المُضحك. مثلا، يحس بالشفقة ويشعر بالألم، وفي نفس الوقت يطرد، وبجنون العصبية، فتاةً في الثامنة من عمرها تستجدي عطفه لإنقاذ والدتها التي تُحتضر. دوستويفسكي يعيش مع الرجل المُضحك في كل صراعات الشخصية، وتحديدا في الصراع الداخلي بين الخير والشر، أي المسألة الرئيسة.
نرى كيف تتغلغل فكرة الهروب من الأرض إلى كوكب من الكواكب، إلى المريخ. هروب من النسيج النفسي والروحي للشخصية ومن الصراع الدائم مع الاعتقاد الراسخ بحاجة الإنسان إلى الندم والتوبة، ومع القناعة بأن مُعاناة الألم والعذاب تؤلّف سبيل الخلاص.
يرى الرجل المُضحك أن الحياة والعالم كلاهما يعتمدان عليه، هذا يعني أنهما يعتمدان على الشر بانتظار لحظة تحويل الأرض إلى عظام مُفتّتة!
أهميّة الموضوع اليوم في كيفية تفكير هذا الرجل المُضحك، يؤمن بأنه يستطيع أن يزيل العالم بمُفرده، وأن هذا العالم سينطفئ بقرار منه. تماماً كما يتقاذف حُكام العالم بين أقدامهم مصائر البشر، ولا أحد يدري متى ستصطدم بكعب حذاء أحدهم فينفجر العالم! هو الشرّ، هو “الرجل المُضحك”، هو كل واحد منّا.
كم هو مُعاصر دوستويفسكي عندما يطرح على نفسه فكرة غريبة ويحلم: لو إنني أعيش على القمر أو المريخ!
هذا الهروب ليس من عذابات الأرض فقط، بل لأن الرجل المُضحك يريد تدمير الفضاء أيضاً.
الأرض لم تعد تتسع لشرّه، أراد تطوير مشاريعه الشرّيرة إلى مساحات إضافية، وهو رغم إدراكه شراسة الشرّ في أفكاره، إلا أنه في الوقت نفسه على يقين تام بأنه لن يخجل من فعلته تلك، لا بل سوف تكون وساماً له، ولن يندم على ما سوف يقوم به. كلّها تساؤلات أرجأت الطلقة الناريّة التي أراد توجيهها إلى نفسه، فكان سعيداً لمُجرّد أنه سيتمّم واجباته الشريرة وينظّمها في أفضل تقويم.
أما دوستويفسكي الفيلسوف فقد عكَس في قصّة “حلم رجل مُضحك” فلسفتَه المُناهضة للشر،ّ وترجمها بفكرة حلمه عندما غفا على غفلة، وتخطّى في الحلم، الزمان والمكان ورأى كيف أن الرغبة هي التي تستدعي الأحلام لا العقل، القلب لا الرأس. في الحلم، ابتكر عقله أموراً في غاية الدهاء: لقد رأى أخاه الميت واقفاً إلى جانبه ويشاركه في أعماله! فكرة الموت تراوده حتى في الحلم، فقد حلِم بأنه أطلق النار على رأسه، وفجأة، وبعد الطلقة رأى الشمعة والمنضدة والجدران تتحرّك وتتمايل أمامه، أحرق الأرض بأفكاره وزلزلها بما عليها، وكانت سعادةً بالنسبة له!
في مسرحية “حلم رجل مُضحك” يتجلّى وببراعة تصوير وكشف الحياة الداخلية للشخصيّة حيث تنكشف المُتناقضات التي تعصف بالذات الإنسانية وتنهك الوعي المُتنامي باتجاه حدوث شرخ، أو انفصام يؤجّجه الصراع النفسي داخل الشخص وفي أعماق نفسه. إن قدرة دوستويفسكي على تشريح النفس البشريّة في هذه القصّة، وفي كلّ أعماله عامّة، جعل نيتشه يصرّح أن دوستويفسكي هو: “عالم النفس الأوحد الذي تعلّم منه شيئاً”، فكيف تمّ تصوير هذه الحقائق الإنسانيّة والنفسيّة في هذا العمل؟
تردّد الرجل المُضحك مراراً في قتل نفسه، ولكن أخيراً استطاع قرارُه الداخليّ الإجرامي أن يغلبه في الحلم، فصار كل شيء حوله مُظلماً، يعمي البشرية ويحملها في توابيت مُغلقة، صوت الموت أرعبه، حاول أن يتراجع عنه حتى في حلمه بعدما تأكّد أنه سيدفن في الأرض وحيداً، قتلته العزلة، أخافته أحاسيس الرطوبة والبرد تحت التراب، أرعبته فكرة كيف أن الميت لا ينتظر شيئاً، ضاق صدره من قسوة فضاء التابوت حتى قذف به بعيدا ثم علا صراخه، وأخذ يحاكم من انتقم منه بسبب انتحاره، أو قناعته بقبح وتفاهة العيش والاستمرار به.
عظيم دوستويفسكي كيف طوّر الحلم حيث أعاد الرجل المُضحك إلى الحياة، ولكن كيف؟
انشقّ القبر، وحمله مخلوق غريب إلى الفضاء فوجد نفسه وحيداً برفقته، ليعود إليه بصره فجأة وينال ما تمنّاه.
عندها، أصبح بعيداً عن عذابات الأرض، ولكن بقي سؤال يراوده بشكل دائم: إذن، ثمّة حياة وراء القبر؟
سُرعان ما هرب من هذا التساؤل لتعود من جديد مُتناقضات شخصية دوستويفسكي، حيث اقتنع الرجل المُضحك للحظات أنه: “إذا وجب أن يكون من جديد، ويعيش مرة أخرى حسب إرادة كائن ما، فإنه لا يريد أن يُقهر ويُهان”. كان هذا النقد لشخصه بمثابة اعتراف بأن الشرّ ليس الطريق لخلاص النفس البشرية، وكأنه كان حاسماً في رأيه ورؤيته بعدما رأى شمس الأرض، وكان ذلك حدثاً بالنسبة له، لم يستطع أن يصدّق بأنه يرى الشمس التي خلقت الأرض، لأنها ردّدت في داخله شعوراً جذّاباً وبثّت الفرحة في روحه حتّى أنه ندم فعلاً على الفاجعة التي حلّت به، وعلى الزلزال الذي خلقه للإنسانية.
تأكّد أنها شمس أرضه، ورأى أرضه، فهزّه لحظتها حبٌّ قاهر نحو تلك الأرض الحبيبة السالفة التي غادرها. وأخذ الحب يتعاظم في داخله حتى أوصله إلى الجنون على فعلته الشنيعة، وبدأ يسمع بوضوح أنقى، صراخه الداخلي الأليم، وجع، وجع، وجع وحب للأرض التي غادرها والتي بقي عليها آثار من دمه. تعاظم الندم بسبب الطلقة التي سدّدها إلى قلبه وانطلق بالاعتراف الصادق بحبه للأرض، بحبّه الذي راح يزداد عذاباً اكثر من أي وقت آخر.
انعكس العذاب إيجاباً على الرجل المُضحك، وبدأت عذاباته تتدفّق من داخله وصولاً الى اقتراف فعل الانتحار، وكأنه إعدام للنفس بعد الاعتراف بحقيقة ما فعله تجاه الأرض، هو انتحر مرتين، الأولى بسبب ما فعله على الأرض بأهدافه الشريرة، والثانية بسبب ما اقترفه على الكوكب الآخر، وكان في صيغة مُحاكمة للنفس بفعل حبّه الصادق للأرض. ولكي يحصل على حبّ أرضه؛ أخذ يطالب وبإلحاح بالعذاب وأصبح مبدأ العذاب شرطاً للحياة. كما أهلك نفسه أيضاً مرتين الأولى على الأرض عندما رفض الإنسانية، والثانية على الكوكب عندما تعطّش للعودة إلى الأرض.
رسم دوستويفسكي شخصيّة الرجل المُضحك من الفضاء بجماليّة كبيرة في مُعاناته في حب الأرض التي تركها وراح يصفها بما رآه منها من الكوكب الآخر. أجبرته كل تلك العذابات على البقاء على ذلك الكوكب، وعندما تأكد أنه لا مجال للعودة لتلك الأرض التي هجرها بإرادته، أخذ يتعرّف على سُكّان الكوكب الجديد: أشجار جميلة سامقة تحتفي به بحفيفها الهادئ الحنون، الطيور تغطّ على كتفه دون أن تخاف منه، أناس أرض الكوكب السعيدة جاؤوا بأنفسهم إليه، قبّلوه، أحاطوا به، أطفال شمسهم روعة، وجوههم تشعّ ذكاء ووعياً مقرونا بالطمأنينة.
أدرك وفهم أن أرضهم لم تدنّسها خطيئة السقوط الأولى، تأكّد أنها الجنّة، تذكّر الأساطير الإنسانية كلها، أخذوه إلى بيوتهم، طمأنوه، حاولوا أن يزيحوا مسحة العذاب عن وجهه.
تتجلّى فلسفة الصراع عند دوستويفسكي بين عالمين، الأوّل حقيقي، والثاني نسجه من خياله العظيم، وهو أكثر حقيقة من الواقع، فيظهر ذلك من خلال حلم مثالي مُكتمل الأبعاد، والحقائق الإنسانيّة تدور أحداثه على كوكب مُختلف عن الأرض لجهة مفهوم المعرفة، وطريقة فهم الحياة.
إن المعرفة لدى سُكّان ذلك الكوكب هي أعمق وأرفع مما في علومنا البشريّة، وحياتهم مليئة بالحكمة أكثر من حياتنا رغم أنهم لا يملكون علومنا. وأمّا الاختلاف الكبير فهو تحديداً في أن علومنا تبحث عن تفسير ماهية الحياة كي يتعلّم الناس كيف يعيشون بينما سُكّان الكوكب الآخر عرفوا وبدون علوم مُعقّدة كيف ينبغي أن يعيشوا.
هنا يعود بنا دوستويفسكي العظيم إلى أهميّة براءة الإنسان وطيبته، وأهميّة النقاوة والعفويّة في مُقاربة الحياة، مُذكّراً بفظاعة سوء توظيف الاكتشافات العلمية التي كانت سبباً لفظاعة الحروب وتدمير الأرض.
يتّضح الاختلاف أيضاّ بين سُكّان الكوكب الثاني وسُكّان الأرض أكثر فأكثر وصولاً إلى العلاقة مع الطبيعة حتى، لم يفهم الرجل المُضحك تلك الدرجة من الحب التي كان أولئك الناس ينظرون بها إلى أشجارهم! سمع، وذهل كيف كانوا يتكلّمون معها، وكيف اتقنوا لغتها، واستغرب اكثر عندما تأكّد أن الأشجار تفهم عليهم وتخاطبهم بدورها، في حين أن أناس أرضنا لا يستطيعون فهم بعضهم البعض وهم غرباء حتى في أبسط قوانين اللغة الإنسانية. وكان كلّما تعرّف أكثر على تفاصيل حياتهم اليومية؛ يرى وبوضوح صافٍ فضائح البشر على أرضنا.
ما أذهل الرجل المُضحك هو أن أولئك الناس لم يسعوا لكي يفهمهم، وما زاد من استغرابه هو أنهم أحبّوه من دون شروط، من دون أن يقدّم لهم شيئاً، أحبّوه كما هو!
لحظتها أيقن الشرخ الكبير بين ذهنيّة أهل الأرض وفِكر هؤلاء الطيّبين، لذلك خجل أن يحدّثهم عن أرضه التي هجرها وهجرته، لكنه اغتنم حضورهم، وقبّل أرضهم وأقدامهم، وكأنه يعتذر منهم عن الشر الساكن في داخله، وقع في حيرة: هل يفصح عن حقيقة ذاته، أو يلتزم الصمت الكاذب؟ وما انفكّ يسأل نفسه: “كيف استطاعوا، وطوال هذه الفترة، ألا يهينوا شخصاً مثلي. أنا المُتباهي الكذاب؟!
كلّما تعرّف الرجل المُضحك على هؤلاء الناس؛ كلّما تعاظم جنونه وحسرته على ناس أرضه، وعلى ما فعله بهم، وكلّما غاص بعالمهم الإنساني كلّما زادت فضائح الشر بداخله.
رأى أطفالهم المُريحين، سمع أغانيهم البديعة، تعرّف على غذائهم الخفيف من ثمار أشجارهم وعسل غاباتهم، عاش فرحتهم بأطفالهم الذين يولدون لهم كشركاء جُدد في نعيمهم، تأكّد أنهم لا يعرفون الغيرة ولا “الحزازات”، كانوا يؤلّفون أسرة واحدة. لم يكن للمرض مكان بينهم، بل للموت الهادئ عندما يحين موعده. كان عجائزهم يموتون بهدوء وكأنهم نيام، يودّعونهم مُبتسمين لهم ابتسامات مُشرقة وكأن الموت عندهم نشوة مُفرحة! ذلك لأنهم على تماس مع موتاهم حتى بعد موتهم. هذه الصورة جعلت من “الرجل المُضحك” يصمت ولا يجرؤ أن يسألهم عن الحياة الخالدة، لأنه أدرك أنهم لن يفهموه أبداً. راح الصراع يتعاظم في داخله أكثر فأكثر، لأنه وحتى تلك اللحظة، لم يكن قد وجد بينه وبينهم نقطة التقاء واحدة حتى في أبسط قوانين الحياة كما يعرفها هو، وأهمّها الفرق بين الخير والشر.
ما لفت انتباه الرجل المُضحك أن ليس لديهم معابد! هم يمجّدون الطبيعة: الأرض والبحر والغابات ويستمتعون برؤية بعضهم البعض، ما قاده مُضطرّاً الى الاعتراف أمامهم بما كان يختلج داخله من هواجس هذا المجد والفرح ومُنذ كان لا يزال على الأرض.
كان دائما يهرب خجلاً منهم إلى باطنه ليناجي نفسه ويسألها: كيف استطاع ان يستشرف وجودهم ويشعر بمجدهم في أحلام قلبه وأماني عقله؟ ونادراً ما كان يقوى على النظر إلى أرضه وإلى الشمس الغاربة بدون دموع.
كانت حسرته كبيرة على ناس أرضه فتراكمت العذابات والأسئلة بداخله، أوصلته إلى أقسى حالات الجنون، حتى غدا يعتزّ بكراهيته لأولئك الأرضيّين ويسأل نفسه: لماذا لا أستطيع أن أحبهم؟ أنا أبغضهم؟!
أنصت أهل الكوكب جيّداً إلى اعترافاته وهواجسه الباطنيّة لكنّهم لم يفهموا ما قاله، لم يعقلوا مفهوم البغض والكراهية لأنهم، وللمرة الأولى، يتعرّفون إلى مثل هذه المُصطلحات الغريبة عن أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم. كلّ ما فهموه هو قوّة حسرته على الناس الذين هجرهم.
بعد هذا التناقض الكبير بين الخير والشر استيقظ الرجل المُضحك من حلمه، وعاد إلى واقعه على الأرض قبل رحلته إلى الكوكب الحلم، عاد ليرى الجميع يضحكون عليه في وجهه، ويؤكدون أنه من المُستحيل أن يكون قد رأى ذلك العالم المثاليّ بكل تلك التفاصيل! ممّا زاده جنوناً لأنه مُتأكد أن ما حصل قد حدث معه بالفعل، وهو قد عاشه وشعر به بكل كيانه. أمّا الباقون فأصرّوا على اتهامه بالجنون؛ ما فاقم جنونه عليهم لأنه ليس مُضطراً لأن يؤلف كل تلك التفاصيل التي تفضح أهل الأرض فيغامر بتشويه قسم كبير منها بفعل الافصاح عنها. وراح الصراع يتزايد في داخله لأنه لا يستطيع إلا أن يصدّق أن كل ذلك وقع بالفعل، حتى ولو كان حلماً. هو حلمٌ فيه من الحقيقة المُطلقة ما لا يقبل الشك، وقد أراد الرجل المُضحك ترجمة ذلك الحلم إلى حقيقة إنسانيّة خالصة بعد كل ما رآه.
ذلك الشك الكبير بالإضافة إلى الضعف الحاصل في كيانه بعد عودة نظام الشرّ إلى عالمه، أجبره على فضح السر، وهو أنه من المُمكن ألا يكون ما رآه حلما على الإطلاق!
تناقض مُرعب بناه دوستويفسكي درامياً في شخصية الرجل المُضحك، وجعل شخصية الحالِم في قلق دائم، قلق إنسان تشوبه عاطفة عرمة تقوده إلى مواجهة اجتياح الأفكار النقيضة، وإلى تحدّي الآخرين غير القادرين على تصديق الحقيقة التي يبشّر بها. هو الباحث الذي تعذّبه شكوكه وتقوده خارج نطاقات الأرض، تكشف المُتناقضات التي لا يقوى أحدٌ على حلّها بمفرده، فيتفاقم صراعه الداخليّ مع قلبه إذ لا يستطيع أن يصدق أن قلبه هو الذي خلق تلك الحقيقة!
جعله الصراع القاسي جدا مع قلبه يعترف بالحقيقة الكاملة، ويقدم على إعدام نفسه بثقة: “نعم انتهى الأمر بأن أفسدتهم جميعاً”، ويصرخ بقوّة وبوجع قاسٍ بأنه كان هو سبب خطيئة السقوط، كان جرثومة الطاعون التي تعدي دولاً بكامله، ويتابع بهذا الاعتراف المدوّي، وهو على حبل المشنقة، إنني عديت تلك الأرض السعيدة. لقد تعلّموا الكذب، فأحبّوا الكذب، وجرثومة الكذب نفذت إلى قلوبهم وأعجبتهم، لم يستطع الرجل المُضحك أن يخفي ما قام به، لأن الشر راح يتعاظم في داخله لدرجة فقدان السيطرة على نفسه، ولأن الحقيقة هاجمت قلبه بقوة وأجبرته على نطق ما في داخله من شرّ بذره على أرض طاهرة حتى تحوّلت أشجارها إلى أعداء للإنسان قبل أن يكمل ويزرع في سُكّانها الشهوة والغيرة والقسوة والعار إلى أن سرح الدم؛ فتفرقوا وتفكّكوا.
ظهرت عندهم اتحادات وولد مفهوم الشرف، عذّبوا الحيوانات، ونشأ نضال من أجل الانفراد من أجل الشخصية، أخذوا يتكلّمون بلغات مُختلفة، عرفوا الفاجعة وأحبّوها، تعطّشوا للعذاب، ثم ظهر لديهم العلم فصاروا خبثاء وغدوا عندها يتكلّمون عن الروح الإنسانية، صاروا مُجرمين فابتكروا العدالة، رسموا المواثيق للحفاظ عليها، فنصبوا المقصلة. لم يرغبوا حتى في أن يصدّقوا بأنهم كانوا أبرياء وسُعداء، هزأوا من سعادتهم وسمّوها حلما، أسطورة.
تتداعوا أمام رغبات قلوبهم، عبدوا الرغبة، شيّدوا المعابد، وصاروا يصلون لفكرتهم، لرغبتهم، ولو أن أحداً سألهم: “هل ترغبون في العودة إلى الحالة السعيدة البريئة التي ضيعتموها؟” لكانوا حتماً رفضوا.
هم اعترفوا تماماً كالرجل المُضحك بأنهم كاذبين، خبثاء، ظالمين وصاروا يبحثون عن الحقيقة من خلال العلم فظهرت نظرياتهم، ومنها: “المعرفة أسمى من العاطفة، وعي الحياة أسمى من الحياة، العلم يعطينا الحكمة، الحكمة تكشف القوانين، معرفة قوانين السعادة أسمى من السعادة”.
بعدها، صار كل واحد منهم عظيم الغيرة على شخصيته، وظهرت العبودية التطوعية. الضعفاء رضخوا للأقوياء، فقدوا الحياء، أريق الدم، واعتبروا أن المُعاناة هي الجمال.
يعود الرجل المُضحك إلى مُحاسبة ذاته بسبب ما جلبه هو بنفسه لهم من الانحلال والعدوى والخراب والكذب، وانطلق يطالبهم بصلبه على الصليب، طلب منهم أن يقتلوه! تعطش إلى أن يراق دمه بعد كل تلك الاعترافات بأنه أفسدهم، اكتفوا بالاستهزاء به واعتباره مجنوناً، وراحوا يؤكّدون أن الذي حصل من تغيير كان بملء إرادتهم، وأنهم كانوا راغبين فيه، ثم أعلنوا صراحة أنه ما إذا بقي يكرّر دعوته لهم للعودة إلى ما كانوا عليه، فسوف يرموه في مُستشفى المجانين!
في تلك اللحظة، دخل الغم وبقوة إلى نفس “الرجل المُضحك”، توقف قلبه، وشعر بأنه يموت على ذلك الكوكب، إلى أن استيقظ من حلمه وعاد إلى واقعه حيث رأى المُسدس يلمع أمامه، فأسرع، وبلمح البصر، دفعه بعيداً عنه، وراح يدعو للحياة بصوت عالٍ، يدعو للحياة التي رآها: “سأدعو إلى المحبة ولا شيء غير المحبّة، محبة الآخر، وليس في وسعي أن أصدّق أن الشر هو الحالة الطبيعية للناس! وإن سخر الناس من عقيدتي هذه”.
هذا ما تطرحه، وما تعالجه مسرحية “حلم رجل مُضحك” المُعدّة عن قصّة للكاتب العالمي فيودر دوستويفسكي، وهذا ما نعكسه في العمل مع المُمثل الذي يلعب شخصية الرجل المُضحك، المُمثل والفنان حسام الصباح. تعتمد المسرحية كلّها، وبكل أفعالها وأحداثها وصراعاتها على مونولوج للأستاذ حسام، وإلى جانبه مُمثّل شاب يقوم بدور أخيه ورفيق دربه في السفر إلى المريخ، وهي شخصية تشبه “أبله” دوستويفسكي. هذا “الأبله” الصامت يرافق كل أفعال وأحداث العرض المسرحي، وهو الأساس في تشكيل أجواء ومساحات اللعبة المسرحية من خلال ترجمة الأحداث عملياً في صميم اللعبة السينوغرافيّة والمشهديّة، وإلى جانبهما شخصية الأم الصامتة أيضا، والتي تقوم بفعل الاحتضار كل فترة العرض حيث تشكل بجسدها الموت والفرح معاً، بالإضافة إلى كل مُتناقضات فكرة العرض، تخرج شخصيّة الأم من الموت للحظات قليلة أحياناً، وتعود بعدها إلى الاحتضار.
شخصيات العمل صعبة ومُركبّة بلغة قساوة فكر دوستويفسكي و”جنونه، أما السينوغرافيا فتساهم، وبشكل رئيس في ترجمة أبعاد الرؤية الإخراجية من خلال تطوير فكرة النص وعصرنتها بأسلوب يحافظ على عالم دوستويفسكي في موضوع المسرحية: يفترش أرض الخشبة ورق لعب من أجواء النص ومن أجواء روايته “المُقامر”، يطغى الحديد الأسود القاتم على ألوان الاكسسوارات من الجسور المُتحركة، وبأشكال عدّة تعكس الفكرة الفنيّة للحدث، وفي لحظته وكأن السينوغرافيا تُشارك في حوارات العرض ولعبته الدراميّة.
ثمّة “تابوت”/ نعش مُتحرّك يشغل بليونته وظائف مُختلفة، بالإضافة إلى مكتبة دوستويفسكي التي تتأرجح عليها مُؤلفاته بين الجنون والسلام الهادئ، بين البرد القارس ورطوبة المقبرة، وبين تفكيك قواعدها وانهيارها، وبين تقديسها كشاهد خفيّ صامد. وهناك معطف دوستويفسكي ومعطف الأخ وهما يلعبان دورا أساسيا في بناء وتطوّر الشخصية وفي تجسيد العلاقة الحميمة بين الجسد والمعطف، بين الفكر والمعطف، بين التشرد والمعطف. يمثّل المعطف منزله، حبل مشنقته وعدوّه.
من عناصر السينوغرافيا أيضاّ بئر ماء مُتحرك هو بئر الانتحار ومقبرة ضخمة تتشكل عبر تحوّل السينوغرافيا ومعها كل الاكسسوارات في لحظة مُعيّنة إلى تلك المقبرة المُغلقة تارةً، والمفتوحة طوراً، تسيطر بضخامتها على كل فضاء الخشبة عندما يعود الموت ليصلب الرجل المُضحك ورفيق دربه، والمرأة على سقف المقبرة عراة من معاطفهم المُعلّقة على جدرانها وكأن تلك المعاطف قد هربت من أصحابها وتخلّت عنهم في لحظة القيامة.
مُوسيقى العرض من تأليف الدكتور هتاف خوري. تجدر الإشارة إلى أن التمارين استغرقت سنة كاملة، وبشكلٍ يوميّ، نظرا لصعوبة الموضوع ولأهمية فكرته، وللكم الهائل من التفاصيل الدقيقة التي تتحكم بجمالية العرض، بالإضافة إلى ذلك كانت تكمن الصعوبة في الحفاظ على عالم دوستويفسكي وعلى نصه، والانطلاق منه إلى لغة مُعاصرة في الرؤية الإخراجية.
*مسرحيّة “حلم رجل مُضحك” إعداد وإخراج البروفيسور طلال درجاني، عن قصة فيودور دوستويفسكي، افتتحت عروضها في بيروت في 27 آذار 2008م.
** طلال درجاني: (PhD) مُخرج ومُفكّر مسرحي، سينوغراف، سيناريست، كاتب، باحث وأستاذ جامعي برتبة بروفيسّور.
-------------------------------------------
المصدر : نقد 21
0 التعليقات:
إرسال تعليق