مسرح لوركا.. جمال الحياة الطبيعية دون تكلف!
مجلة الفنون المسرحية
مسرح لوركا.. جمال الحياة الطبيعية دون تكلف!
جابر طاحون
"كان ومضة متجسدة من الاستنارة. قوة في حركة دائمة، مهرجان رائع، وجملته سحر مذهل. وجوده مدهش، ذهبي، السعادة تتدفق منه"
(بابلو نيرودا عن لوركا)
ولد لوركا عام 1898 بقرية صغيرة غرب غرناطة، واستطاع أن يكوّن لنفسه شهرة كبيرة كشاعر ومتحدث موهوب إلى جانب كونه موسيقيا عبقريا قد تتلمذ على يد "فردي" صاحب أوبرا عايدة (ومن قبله دي فالا)، وكذلك كونه رساما، وحجز لنفسه أيضا مكانته كمسرحي مهم، رغم كونه معروفا بشاعر الغجر الذي أحب الأرض وجودا وانتماء.
كان لوركا تجسيدا للروح الإسبانية، ويعتبر نفسه "أخًا لكل الرجال"، عاش في شبابه قريبا من الطبقات الشعبية، وهو المولود لأب مزارع وفارس على درجة من الغنى، وأم معلمة من أسرة مرموقة، كان أكبر أبنائهما ومرض مرضا خطيرا في طفولته حرمه من اللعب، واستعاض عن ذلك بالحس وقوة الخيال وثرائه الروحي.
انتقل إلى مدريد عام 1919 عملا بنصيحة لوس ريوس، وفي مدة قصيرة استطاع أن يكوِّن لنفسه شهرة كشاعر ومتحدث موهوب، وموسيقي عبقري وكذلك رسام. وكان بين أصدقائه هناك، سلفادور دالي، جيراردو ديجو، والشاعر لويس يونويل الذي أصبح فيما بعد من أشهر مخرجي الأفلام. وانتقل بعد فترة إلى أميركا، وعاد إلى إسبانيا مرة أخرى عام 1930، وفي نيته الاتجاه لمنحى جديد في حياته، وهو الاتجاه للمسرح (كانت لعبة طفولته الأولى مسرحا للعرائس).
مسرح لوركا
في سنة 1953 قال لصحفي كان قد أجرى معه مقابلة: "لقد بدأت بالعمل ككاتب مسرحي لأني أشعر بالحاجة إلى التعبير عن نفسي من خلال الدراما، ولكن ليس هذا مبررا لإهمال الشعر الخالص، ومن ناحية ثانية فإن الواحد في وسعه أن يعثر على الشعر الغنائي الخالص في مسرحية كما يعثر عليه في قصيدة".(1)
بدأ لوركا كشاعر ما بعد الرومانتيكية، تلميذ مفرط الحساسية لخوان رامون خمينس الذي طبع أسلوبه الحميمي وحساسيته المرهفة الجيل كله، وأنهى مسيرته كمسرحي يتزايد لديه الوعي بضرورة التخلص مما في أعماله من الثقل الغنائي الذي أبطأ إيقاع أعماله المسرحية الأولى. ولد كشاعر وصار مسرحيا عبر مشتقات متواصلة وانغماس شخصي. كان يتعلم وهو يعمل ليصبح عامل مسرح ومسؤول ديكور ومديرا وممثلا، قبل أن يسيطر على كل مظاهر التكنيك المسرحي ليبدأ الكتابة، ويكتب بعد ذلك أكثر أعماله المسرحية طموحا. وكان يقول عن المسرح إنه من أهم الوسائل تعبيرا، وأفيدها في بناء البلاد، والذي يحدد عظمتها وضآلتها: "يا للمساكين، هناك ملايين من الناس لم تشاهد عرضا مسرحيا واحدا". (2)
امتزجت الرومانسية والغنائية والدرامية في أعمال لوركا. الغنائية الرمزية تدين بصفائها إلى الشعور الفردي للشاعر المنعزل، والدراما تأسست على التعاطف والتفهم وحركة التغيير ومعنى الحدث. كان لوركا قد اكتسب فهما ووعيا بالدعابة والسخرية لمعايشته الغجر والطبقات الشعبية، لذا كان هناك العديد من الأغاني الساخرة في العديد من مسرحياته وأعماله الشعرية. وتتضح التعابير العامية في أغنية "انفرمو" في مسرحية "دون كريستوبال" وفي أغنيات الأم في مسرحية "دون روزيتا".
المسرحيات الأولى
ألّف لوركا في أول الأمر مسرحيات لصالح مسرح العرائس، وثبّت قدميه على المسرح بعد عرض ونجاح مسرحيته "ماريانا بينيدا"، وكتب مسرحياته "العرس الدامي" و"روزيتا" و"برما" و"بيت برنار ألبا" لما كان مديرا للمسرح المتجول "البارّاكا". في مسرحيته الأولى "الفراشة" تنصهر لديه الرومانسية والغائية، كتبها في الوقت الذي كتب فيه قصائده الرمزية الأولى، والحركة بعوامل الإلهام في قصائده التي تتناول الحيوانات والحشرات. وبجانب الكثافة، وخاصة حين يستوحي حياة الغجر، فإن عمله الدراماتيكي قد تطور بمحاذاة شعره، في الأسلوب والمزاوجة بين الخاص والشعبي.
مسرحية لوركا "ماريانا بينيدا"
بعد عدة أعوام من "الفراشة" بدأ لوركا مسيرته المسرحية الفعلية بمسرحية "ماريانا بينيدا" المستوحاة من الطابع الشعبي. وفيها صهر الرومانسية بالعناصر الكلاسيكية في المسرح، وقيادة ذلك نحو اتجاه معاصر. الموضوع التاريخي ومشاعر الخلفيات والبطل كملاك مُضحًّى به، أخذ كل ذلك في جانب العنصر الرومانسي. وأخذ في جانب العنصر الكلاسيكي الروح الجوهرية والجوهر الدرامي. ورغم كون العمل يفتقد للأبعاد المسرحية بعض الشيء، فقد خرج في صورة لوحة ثابتة، وحواران فقط يجريان بين بدروسا وماريانا. الصدام بين الإرادات التي يبدو أن العمل كان سيفتقر إلى العنصر الدرامي بدونهما. رسم لماريانا رسما أوليا هزيلا بالنسبة للصراع الداخلي لها وظهرت من البداية كبطلة موجهة نحو المصير المحتوم. ظهرت كصورة مجسدة للتضحية دون أمل في إنقاذ نفسها، حتى الحب لم يؤكد لها شيئا ليغير موقفها من الاستسلام.
تدين المسرحية للتوليفات الغنائية وحضورها سواء كانت منفصلة عن الحدث أو معاكسة للفعل الدرامي. ورغم كون المسرحية تفتقر إلى بعض النضج في محاولته تجربة تكنيك جديد ونقص الصقل أثناء ذلك، فإنها على درجة من الأهمية يظهر فيها الحس التراجيدي والذوق الجيد والجمالية التي تنقذ الضعف أحيانا إضافة إلى الوعي بالتجديد.
تلت مسرحية "ماريانا بينيدا" ثلاث مسرحيات قصيرة، أتت أكثر قوة في البناء الفني وأظهر فيها لوركا ثقة أكبر وحضور الحس الساخر الذي أحسن تأطيره والوعي به. كُتبت المسرحيات الثلاث في الفترة بين 1929 و1931. جاءت المسرحية الأولى "غرام برلميلين بيليسا في بستانه" الأكثر غنائية فيهم في إطار ساخر عام 1933 رغم كتابتها قبل ذلك بمدة طويلة. وجاءت "الإسكافية العبقرية/العجيبة" نموذجا للسحر الفلكلوري عام 1930. وآخرهم مسرحية "دون كريستوبال" الهزلية التي قُدّمت لأول مرة في المسرح الإسباني بمدريد عام 1930.
العرس الدامي ويرما
" أنا الآن أرى بوضوح الوجهة التي يجب أن يتطور فيها مسرحي"
(لوركا)
في الوقت الذي أخرج فيه لوركا ديوانه "شاعر في نيويورك"، أو بعدها بقليل، كان مناخ السريالية مسيطرا في فرنسا وانعكس مناخه في إسبانيا. وكتب "لو مرت خمسة أعوام" وبعض مشاهد من مسرحية "الجمهور" بحضور واضح للسريالية. الجو الوهمي، مسحة الحسية الشاذة، الشخصيات الخيالية، مشاهد الدم والصور العنيفة المختلطة بالسخرية.
جاءت مسرحيات "العرس الدامي" و"بكائية المصارع" و"يرما" لتؤرخ لمرحلة النضج في أعمالل لوركا، جنبا إلى جنب مع أحد أفضل أعماله الشعرية "الرومانسيرو جيتانو" و"الغناء العميق". جاءت مصقولة أكثر، نقية وبسيطة بصيغة فنية أكثر تكاملا واتساقا. حضور للجوهري أكثر من الهامشي والروعة الفنية الصافية على حساب الزخرفة.
عُرضت "العرس الدامي" لأول مرة في مدريد التي كتب فيها أغلب شعره عام 1933. ظهر في المسرحية التعبير السليم متفوقا على الكثافة العاطفية، وحضور الحيلة والأغنيات مكان الحياة والطبيعة. عنفوان كامل كأنه تعبير عن الرغبة في كماله الذاتي. تقول الخطيبة: "أنا امرأة محترقة، مليئة بالحروق الداخلية والخارجية. وابنك هذا قطرة ماء، أنتظر منها أولادا وتربة خصبة، وعافية". وقد تحولت المسرحية إلى فيلم تحت عنوان "La Novia" العروس، من بطولة إنما كويستا (Inma Cuesta) بطلة فيلم "La Voz Dormida".
وفي "يرما"، المسرحية التي بمناسبة عرضها المئة ألقى مرثيته الرائعة "بكاء اخناثيو سانشيز ميخياس"، والتي قالت عنها إحدى ممثلاته: "إنها مأساة فيدريكو نفسه"، وتحتل موقعا فريدا بين أعماله بجانب دون روزيتا (أهم شخصيات مسرح لوركا النسائية)؛ عادت الاتجاهات العاطفية للظهور ولكن بصورة أكثر غنى وتجارب أكثر تطورا، وتوازن بين الغنائية والدرامية ووحدة العناصر الشعرية.
لوركا ما بين إليوت ويتس
المسرح الشعري استمد قوته بشكل كبير من "و. ب. يتس وتي إس إليوت". وربما كتب لوركا المسرح الشعري على طريقتهما، ولكن مسرحه تميز بأنه لم يكن خاصا بالصفوة، كما اتسمت مسرحياته بالحياة الطبيعية فوق المسرح، دون لجوء إلى التنظير أو التكلف في البناء المسرحي.
بدأ يتس وإليوت بكتابة الشعر قبل التأليف المسرحي، ولكنه شعر بالحاجة إلى قصة، وإلى صيغة تجعل المسرحية نفسها شعرية. وقد رأى كل منهما ذلك في الأسطورة والشعائر، فانطلق يتس ابن الأساطير الأيرلندية إلى الصيغ الإنجليزية عن أوديب وإلى صيغ قائمة على نفي المسرحة. أما إليوت فجرب الأساطير اليونانية وتبنى صيغ الشعائر والطقوس المسيحية. وقد أثبتت تلك التجارب أنها موحية وناجحة بشكل كبير.
أعمال يتس كانت تحمل طابعا ميلودراميا غنائيا لكنها تفتقد إلى التواتر وتنوع الحركة، ومسرحيتا إليوت "جريمة في كاتدرائية" و"اجتماع شمل العائلة" تسطع بوضوح ثم تبدأ في الخفوت. واعترف إليوت هو نفسه بذلك؛ صعوبة العثور على الصيغة الشعرية الملائمة للمسرح، وأن الحل هو استخراج النظم الشعري المناسب الذي يصلح للعمل فوق المسرح.
وعوّض لوركا ذلك بدمغ مسرحه بعبقريته وتفرده والتوليفات التي اجتمعت في شخصه والتي هي جزء حميمي من إبداعه، بجانب التراث الإسباني الذي كان يُظهِر حيوية جديدة وواضحة.
اعتمد لوركا في مسرحه على قصص ذات مسحة أسطورية معتمدا في ذلك على المصادر الشعبية الإسبانية المتمثلة في الحكايات الشعبية المعروفة باسم "بالاد" ذات الصبغة الشعرية، والتي بطبيعتها حكاية ووضع وشخصيات متناقضة وحدث له معنى. وحين جسدها لوركا على المسرح بجانب إظهار الغنائية الشعرية، والتواتر والتناقض، كان حريصا على أن يحتفظ بمشاعرها وحميميتها مثل أغنية أو قصة ترويها إحدى الجدات.
الشعر في المسرح
أعمال لوركا المسرحية لم تنفصل عن أعماله الشعرية، هو نفسه لم يكن يعترف بمسألة الحدود الغنائية والدرامية، هو يكتب الشعر والمسرح معا ولا يشغله شيء غير ذلك. أراد أن يعيد للمسرح الشعري مكانته، عبر اللغة كمفتاح والشاعرية والعناصر الفنية كعوامل مساعدة.
حاول لوركا استبدال شعر المسرح بالشعر في المسرح، والتأثير الشعري بالانتقال من صورة إلى أخرى وكان يقول: "الشعر في مسرحي يكمن في الصور وليس في النص". ويقول روبيرتو سانشيز في كتابه عنه: "إن لوركا عبقرية مسرحية أكثر منه موهبة درامية خالصة، فهو على سبيل المثال لا يملك الدافع الأخلاقي والفكري الذي يتوفر للكاتب المسرحي إبسن، وهو قليلا ما يتعامل مباشرة مع المشاهد أو القضايا المعاصرة، وهو عادة يعثر على المفتاح إلى المسرحية في الرسم أو الموسيقى أو الشعر أو في المسرح نفسه أيضا". (3)
يبهرنا التأثير الشعري الذي نجده في مسرح لوركا بانتقاله من مشهد إلى آخر، الحساسية الشعرية في تسلسل أحداث المسرحية. التأثير الشعري لهذا التسلسل في أحداث مسرحياته كثيف ومباشر، ويخرِجه لوركا من تآلف عناصر قد تبدو تقليدية وقديمة. ومحاولة استخراج الشعري في مسرحه لا تكون بالاكتفاء بالفقرات مهما كان جمالها، بل بالالتفات إلى حركة المسرحية في جملتها. يكمن الشعر في الشخصيات وعلاقتها ببعضها، فكرة كل شخصية الخاصة بها، تناقضها واتساقها.
لوركا والموت
"كم للموت من أطفال؟ جميعهم في صدري". (4)
الموت يتوارى خلف كل شيء، ونلتقي به في أقل الأماكن التي نتوقع أن نلتقي به فيها. يفهم لوركا الحياة ويحس بها عبر الموت، والموت هو مصير شخصيات لوركا التي خلقها، سواء في شعره أو مسرحه، يكون الموت نهايتها.
في "العرس الدامي" لمن ستكون العروس؟ لعريسها أم لليونارد؟ هذا الرجل الآخر الذي يجتذبها بسحره وتميل العروس إلى ليونارد وتهرب معه، ولكن من هي حتى تقرر؟ الموت، المتنكر في هيئة امرأة عجوز شحاذة، هو الذي يقرر كل شيء، وهو الذي يقرر أن يضع الرجلين وجها لوجه، يتقاتلان ويموتان. "يرما" تقتل زوجها وأطفالها. وفي "بيت برنار إلبا" تتشوق امرأة إلى رجل يختبئ خلفه الموت، فيموتان معا.
ترك لوركا أعمالا غنية كحياته في مجالات فنية عديدة، لدرجة يصعب معها تصنيفه. وترك بالأخص مسرحا متنوعا، كان الحب ركيزة فيه، وحضرت فيه الشعرية الأصيلة، عمق الطبيعة، الدعابة والسخرية، الحس التاريخي، والمزج بين أشد المظاهر تناقضا. وعُرضت أعمال لوركا في أماكن كثيرة حول العالم: أميركا، كوبا، برشلونة، مدريد. عَبَرت أعماله الزمن، بعد أن فشل جسده في العبور. موته كان على يد عساكر فرانكو، بعدما اقتيد فجر19 أغسطس/آب 1936 إلى حقل أشجار الزيتون، في مكان غير بعيد عن "عين الدمعة ". وجثته كانت شبه متروكة على جانب طريق، وغير معروف من نبش جثته وأين دُفن. (5)
-----------------------------------------
المصدر : الجزيرة
0 التعليقات:
إرسال تعليق