عدالة المقارنة بين مسرح القرن العشرين والمسرح الاغريقي
مجلة الفنون المسرحيةعدالة المقارنة بين مسرح القرن العشرين والمسرح الاغريقي
الباحث : مجيد عبد الواحد النجار
لو قمنا بمراجعة بسيطة على كل الاختراعات والاكتشافات والنظريات لوجدنا ان اصحابها لحد الان تُذكر اسمائهم كمخترعين، او كمكتشفين او اصحاب نظريات، ولا يذكر اسم مطور هذه الفكرة او تلك النظرية انه صاحب نظرية جديدة ، ويخالف النظرية او الاختراع القديم، بل يعتبر نفسه امتداد لها، فلا زال اسم(بليز باسكال) يذكر مع ذكر الحاسبة الرقمية التي اخترعها عام 1642م، رغم كل التطورات الحاصلة عليها في الحجم والتقنية، وكذلك مخترع الحاسوب.
وحتى لا نذهب بعيدا، ففي مجال السينما، لا يزال الاخوين (فلومير) يتداول اسميهما كل ما ذكرت السينما، ولم يسمى باسم من طور واكتشف فيما بعد الاضافات التقنية والفنية، فلم نجد سينما باسم مكتشف اللون مثلا، او مكتشف المونتاج، او سينما باسم من ادخل القصة في السينما لأول مرة، ولا نجد احد قد اختلف من سبقوه كونهم أخطأوا في تأسيس السينما او انها مخالفة للواقع، رغم ان السينما من بدايتها حتى نهايتها ايهام في ايهام، كل ما يعرض على الشاشة هي صور متتالية لا غير، والصوت ينبعث من اجهزة في جانب شاشة العرض، نعم هناك انواع في السينما ، ولكن هذه الانواع لها اشتراطات خاصة، كون السينما تعتمد على طرق عرض مختلفة، وطرق انتاج مختلفة.
لكن ما نشاهده في المسرح شيء مختلف تماما، حيث هناك العشرات من انواع المسارح ، وكل هذه الانواع لم تغير من اساسيات وجود المسرح الثلاث(مخرج – ممثل- جمهور) هذا المثلث الاساسي في المسرح الذي استقر فيما بعد كان موجودا منذ ان طوره عباقرة الاغريق، وكل المسميات التي اتت بعد ذلك لم ولن تسطيع رفع اي ضلع من هذا المثلث، وما التسميات الموجودة ، ما هي الا سوى تغيير او تجديد في عناصر العرض المسرحي، لا في الاساسيات، لذلك ارى اذا كانت هذه المتغيرات في عناصر العرض ملزمة في تسمية مسرح، فكان من الاولى ان نسمي مسرح باسم(اسخيلوس)، الذي يعد من اهم كتاب الدراما الاغريقية وهو مؤسسها بالمعنى الفني، وهو الذي غير في اساسيات المسرح الفعلية، بإضافته الممثل الثاني في العرض المسرحي، وكذلك من الاولى ان نسمي مسرحا باسم(سوفوكلس، ويوبيدس) لكن هؤلاء العباقرة يعلمون جيدا انهم لا يحق لهم ذلك لان (ثسبس) سبقهم في تقديم عروض مسرحية، وهو الذي لعب المثلث بمفرده، وما فعلوه هو اضافة بسيطة وطبيعية كما يعتقدون، لأنه لا شيء يبقى على حاله مادام هناك عقل يفكر ومجتمع يتطور، وهي لدينا كبيرة جدا.
كل هذا دفعني ان اناقش- أوأُكد اني أناقش، وأسال من خلال المناقشة، كما وادعو الى اعادة قراءتنا لكل شيء مرة اخرى، ولا اريد ان افند، او احتج على ما اناقشه من افكار ونظريات - ، الموجودة في الساحة الفنية والتي ارى انها اذا كان ولا بد ان نضع لها اسما ، فلا يمكن ان نقول عنها مسرحا بل (دراما)كون التغيرات والتجديد الذي تم التنظير عليه ليس في الاساسيات بل ،(بطريقة العرض، والكتابة) وهذا جاء حتميا ومفروضا على المشتغلين في المسرح كون عقلية المشاهد تطورت ، وطريقة تفكيره تطورت ، اذن وجب ان نقدم له ، شيئا بمستوى تفكيره لكي ينسجم مع ثقافته ووعيه.
ومن بين هذه النظريات التي وددت ان اناقشها، هي النظرية التي اشتغل عليها برتولد برخت، والذي كان هدفه منذ ان بدأ بالتفكير بمسرحة ، معاكسة ارسطو وافكاره التي جسدها في كتابه (فن الشعر) ودعى الى دراما (لا ارسطية) متهما ارسطو والذين عملوا بهذا الاتجاه بوضع الدراما في موضع بعيد عن الإنسانية ، وانحصار الدراما في عقدة واحدة وفعلا واحد، لذلك احتوت مسرحياته على اكثر من فعل واكثر من عقدة ، واهمل الشخصية الرئيسية او البطولة المطلقة في العرض ، وهنا أراد برخت توزيع هذه البطولة وهمومها على الشخصيات في العمل المسرحي الواحد().
من الغريب ان يتهم (برخت) (ارسطو) (بان الدراما بعيدة عن الإنسانية)، وهو القائل – ارسطو - (ان المسرح هو من ربى الشعب الاغريقي) ، ان المسرح ومنذ بدايته كان دينيا تعليميا ، خرج للاحتفاء بالإله ،وتعليم المجتمع التعاليم الدينية وقصص الانجيل في الفترة الرومانية ، حيث كان المسرح داخل الكنيسة، وهذا دليل كبير على أهمية المسرح ، ودليل أيضا على إنسانية المسرح ، ودليل على ان المسرح جاء من اجل الانسان وبدونه لا يوجد مسرح بل لا قيمته له. ومن جهة اخرى ماهو ذنب ارسطو بما قدم ، انه فقط نقل لنا ماكان يحصل، ولا دخل له بحيثيات وافكار المشتغلين في المسرح انذاك.
اما كون (انحصار الدراما في عقدة واحدة وفعلا واحد)، هذا لأنه من البديهي ان تكون البدايات بسيطة، ولكي تكون مقبولة من الناس الذين يشاهدونها، ويتابعونها، لان الانسان يهرب من الاشياء التي لا يتقبله عقله وخصوصا اذا كانت غريبة عليه، فأننا لا ننسى كيف بدأ (ثسبس) ومن ثم ماهي الإضافات التي أتت بعده لتضع الأسس الحقيقية والصحيحة للمسرح ، ولا ننسى الدور الكبير الذي لعبه (اسخيلوس) بوضع الثوابت القيمة للمسرح والتي على أساسه اكمل سوفوكلس، ويوربيدس، علما انه لم يتم تسمية المسرح باسمهم رغم كل هذه الإضافات الحيوية والمنطقية والتي على ضوئها استمر المسرح في البناء والتطور الى ان وصل الينا بهذا الشكل الجميل ، والذي كُسرت قواعده فيما بعد من قبل الكثير قبل برخت.
انا اعجب واتوقع يعجب مثلي الاخرين لماذا يقارن المسرح البرختي بمسرح ارسطو، ولماذا لا يقارن بالمسرح الاغريقي ، او مسرح اسخيلوس او سوفوكلس او يوربيدس، ان الفيلسوف والكاتب العبقري ارسطو 384-322 ق.م، عمل على ارشفة للمسرح الاغريقي ونقل ما كان يحدث حينها، وما وصل اليه من نصوص مسرحية، علما ان الفرق بين ولادة المسرح وولادة ارسطو اكثر من عقدين من الزمن ، وما خلفة اسخيلوس، وسوفوكلس، ويوربيدس من كتابات قليلة جدا، ولم تصل الى يد ارسطو كلها، اذا ما علمنا ان ما وصل الينا من مسرحيات اسخيلوس 525- 456ق.م،(سبعةُ) مسرحيات فقط، من مجموع (تسعون) مسرحية، ان ارسطو لم يشاهد العروض المسرحية في ذلك الزمن، زمن المثلث الاغريقي، اذن ارسطو كتب على ضوء نصوص مسرحية، اي على ضوء(الادب) وليس على ضوء عروض، وهذه اشكالية بحد ذاتها، لأنه لا يمكن تقييم العروض المسرحية، اوشرح تفاصيلها، من خلال النص الادبي او من خلال ارشادات المؤلف، كون المؤلف سابقا هو من يقوم بإخراج العمل المسرحي والتمثيل فيه في احيانا كثيرة، كما ان ارسطو لم يعلل لنا سبب ادخال اسخيلوس الممثل الثاني، وسوفكلس الى الممثل الثالث، علما ان اعمالهم المسرحية تحتوي على اكثر من هذا العدد بكثير، كما ان كتابه فن الشعر كان حول الخطابة والشعر، ومعالجة مسائل شعر التراجيديا، كما تعرض لكيفية تأليف التراجيديا، وملامحها.
ارى من المنطق والمعقول ان نقارن المسرح البرختي بمسارح ما بعد القرن السابع عشر والمتغيرات التي حدثت ، لا مع المسرح الاغريقي وبداياته التي كانت متفقة اتفاقا كليا مع عقلية وفهم الانسان الاغريقي آنذاك. فمن البديهي ان نقارن مسرح مغلق، بمسرح مغلق، لا مع مسرح مفتوح، وارى ايضا ان تسمية مسرح(كذا) يجب ان تبدل الى دراما(كذا)، لان المسرح لا يمكن ان نغير اصوله الأولية فهي ثابتة مع كل المتغيرات التي تحصل لعناصر العرض المسرحي.
لقد مر المسرح الاغريقي بمراحل عديده من التطور، من ناحية النص، والعرض، والتمثيل، والاخراج، نعم كانت البدايات بسيطة ، وكانت غريبة على المجتمع الاغريقي، ولم يكن في بادئ الامر التفاعل مع ثسبس، وهذا بديهي، لكنه لم يتوقف في مكان واحد وفي حي واحد فراح يتجول بين احياء وازقة اثنا، وشوارعها لحين ما فُهم ما كان يقدمه على عربته، وهكذا بدأ الشعب الاغريقي /الجمهور يتفاعل مع ما يقدم، لذلك نقل نشاطه الى اثنا واسقر بها حوالي عام 560ق.م، وأصبحت هناك مسابقات ومهرجانات للمسرح، وتطور فن كتابة النصوص التي كانت تكتب بالشعر طبعاً، الشعر الذي كان سائدا ومحبوبا لدى الاغريق، تطورت الكتابة واخذ الكاتب الاغريقي يستعين بالملاحم، والاساطير، بدا مكان العرض يتسع، وتم اختيار اماكن يتمكن من خلالها الجمهور الاثني من مشاهدة العروض المسرحية بطرقة افضل من سابقتها، حيث المدرجات التي سهلت له رؤية الممثلين، وسماع صوتهم بيسر، وكانت معمارية المسرح عام 550-500ق.م كانت عبارة عن مسرح مفتوح ، بعدها أُدخل للعرض المسرحي عدة ممثلين، وكان هناك مدير للمسرح ثم مخرجا له، كل هذه المراحل اخذت زمناً طويلا ، المهم ان المسرح لم يقف في مكان نشأته، بل سعى القائمون علية من اجل التطور والتوسعة، وهذا كله بفضل دعم المشاهدين الذين اصبحوا يستحقون كل هذا التطور.
اذن من المفرض على كل المعنيين في شؤون المسرح ان ينصفوا المسرح الاغريقي ونشأته، وانا واثق انهم يحترمون هذا النشأة، ولكن ما ادعو له ان لا تكون مقارنة مسرح القرن العشرين بنشأة المسرح وبداياته، لان فيه الكثير من الغبن وعدم الانصاف، لماذا؟ لان المسرح الحالي هو مسرح العلبة كما يتفق علية الجميع، بينما في السابق كانت العروض في الهواء الطلق، وكان النص يتماشى مع الاثينيين في حينها، وكان الممثل واحد ، يستعين في الاقنعة، وكانت اضاءة العرض المسرحي تعتمد على الشمس، لذلك كان وقت العروض يحدد في النهار وكانت تستغرق يوما كاملا، لا يمكن مقارنتها بعروض اليوم التي يُستخدم للعرض الواحد مختلف الانواع من اجهزة الاضاءة والمؤثرات، ومختلف الالوان التي اصبحت لها دورا كبيرا في سيميائيات العرض المسرحي، ويوجد مهندس ومنفذ للإضاءة وعاملين، وكان الممثل يعتمد على صوته الجهور، وكان يعتمد عليه اعتمادا كليا في ايصال مادة الشعر ومبثوثاته للجمهور، كونه في فضاء مفتوح، وهذا الفضاء قد يتعرض في احيانا كثيرة لتقلبات الجو، اما اليوم في مسرح (العلبة الايطالية)، التي تحتوي على العديد من اجهزة الصوت واحدث تقنياته، وكذلك عازل الصوت، والحواجز، التي تمنع من دخول الصوت من الخارج او العكس، وهناك امور كثيرة تمنعنا من مقارنة مسرح القرن العشرين الميلادي بمسرح القرن الخامس قبل الميلاد، ليس هناك تشابه او اتفاق سوى في الاساسيات ( مخرج، ممثل، مسرح)، والمسرح ، معروف للجميع ، هو المكان الذي يتم فيه العرض، اي مكان الفعل ، مكان(الجريمة)مكان(القتال)، وليس المقصود بالمسرح ذلك البناء الذي شيد بطريقة حديثة.
اذن ما اريد قوله، ان مسرح القرن العشرين اذا شأنا مقارنته ومعرفة التجديدات او النظريات الجديدة، علينا ان نقارنه بمسرح العلبة الايطالية، نقارنه في البدايات التي دخل العرض المسرحي الى القاعات، واستخدمت فيه الاضاءة الاصطناعية، والمكياج الاصطناعي، وقد كان للتخصص دورا كبيرا، حيث المؤلف ثم المخرج والممثلين، وهذا موجود في مسرح القرن العشرين، وقد دخل بعد ذلك (الدراماتورج) و(السينوغرافي).ولكي يكون منطقيا عندما نقول ان المخرج كسر الجدار الرابع في المسرح، لان المسرح الاغريقي لا يوجد فيه جدار اصلا ، كونه مسرحا مفتوحا، واستمر هذا المسرح حتى الثورة الايطالية، بعد ان عملوا المهندسون المثقفون الى ادخل المسرح الى القصور لكي يشاهده الملوك البرجوازيين.
هنا ستكون المقارنة عادله، وهنا يمكن ان نعرف حجم النظرية الجديدة ، وما هو الجديد فيها، وهنا تكون العدالة عندما نعمل مقارنة بين ما قُدم في القرن العشرين الميلادي والقرن السابع عشر او الثامن عشر الميلادي، لان المقارنة ستكون عادلة بسبب وجود نفس العناصر على خشبة المسرح او قد تختلف قليلا، المهم انها افضل بكثير من مقارنتها بمسرح تكون المسافة بينهم اكثر من (سبعة عشر)عاما، حيث كانت بداية المسرح الاغريقي حوالي عام 490ق.م، حيث تم عرض مسرحية(الضارعات) لاسخيلوس، لقد خضعت تلك الفترة الزمنية الى التقلبات، ومؤثرات اقتصادية وسياسية، واجتماعية عديدة، كما وليس من العدالة ان نقارن المسرح(المغلق) بالمسرح(المفتوح)لانهما يختلفان في اسلوب الكتابة والعرض والتمثيل، واستخدام التقنيات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق