(إنها الأحلام تدّخر كنوز المُمكن) معالجة درامية لمأزق البطل الكافكاوي عبر قصة (التحوّل) عرض خاص بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة فرانز كافكا
مجلة الفنون المسرحية(إنها الأحلام تدّخر كنوز المُمكن) معالجة درامية لمأزق البطل الكافكاوي عبر قصة (التحوّل) عرض خاص بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة فرانز كافكا
"كان من بين كل المؤمنين أشدهم تحرراً من الأوهام، ومن بين كل أولئك الذين يرون العالم بدون أوهام كان أشدهم إيماناً لا يتزعزع، وهذه هي معضلة أيوب القديمة"
علي كامل
إن كتابات كافكا تستلزم منا دائماً تأمُّل الفضاءات المسكونة بهواجس مثقلة بالدلالات تلك التي يشيدّها الكاتب، قصداً، بين سطوره، لتُشغلها رؤى القارئ هدفاً لاستكمال دائرة المعنى. فضاءات أغوت الكثير من الحالمين لملأها برؤى وتأويلات جديدة مبتكرة. فقد تم تحويل روايات مثل ("التحوّل"، "القلعة"، "أمريكا"، "في مستعمرة العقاب"، "المحاكمة") إلى عروض درامية ملفتة وأشرطة سينمائية مدهشة، لعلَّ أبرزها رواية "المحاكمة" التي تم إعدادها إلى المسرح والسينما على حد سواء، ففي أواسط أربعينيات القرن الماضي كان الكاتب الفرنسي أندريه جيد قد افتتن بها فأعدّها للمسرح بمشاركة الممثل والمخرج الفرنسي جان لوي بارو، الذي تولى إخراجها ولعب دور "جوزيف ك". أما أورسن ويلز، فقد اخترق حدود التلقي المألوفة للفيلم السينمائي في إخراجه المذهل لفيلم "المحاكمة" عام 1962 المقتبس عن الرواية، والذي لعب فيه الممثل أنتوني بيركنز دور "جوزيف ك" إلى جانب رومي شنايدر. ستيفن بيركوف، الكاتب والممثل والمخرج البريطاني، كان قد أعدّها عام 1969 وكان العرض الذي قدمّه حينها بمثابة هزّة مروّعة زعزعت التقاليد السائدة في المسرح البريطاني.
اللُعبة ذاتها أغوت المخرج السينمائي أنغمار بيرغمان فقام بإعداد رواية "القلعة" إلى المسرح أواسط الخمسينيات
وعرضها على خشبة مسرح مالمو. وفي اليابان، أعدّها المخرج المسرحي الياباني الشهير أوسامو ماتسوموتو عام 2003 وتم عرضها على خشبة المسرح الوطني في طوكيو، وماتسوموتو كان قد خبَِر فضاءات كافكا من قبل ذلك بإعداده وإخراجه لرواية "أمريكا" التي انتقل عرضها آنذاك من طوكيو إلى نيويورك.
أما "التحوّل"، محور موضوعنا هذا، فقد أعاد كتابتها ستيفن بيركوف إلى المسرح، وظهرت على خشبات المسارح اللندنية عام 1968 متولياً إخراجها فضلاً عن أدائه دور "غريغور سامسا" الشخصية الرئيسية فيها.
(رؤى إخراجية مبتكرة ومتجددة)
"يقول الخُلد، تركتُ العالم ونزلتُ إلى جُحري... وسأكون سعيداً حقاً لو استطعت أن أُهدّئ نزاعاتي الداخلية"
كافكا. الجُحر (مستعمرة العقاب)
التحوّل، قصة كُتبت بعناية شديدة حول كل تلك الأشياء الصغيرة المنفصلة عن هيكلها، جاء كافكا ليوحدّها بقوة ملاحظة ومراقبة متقدة الذكاء. إنها تتحدث عن الإنسان الذي فقد هُويته وأناه أكثر منه عن حشرة.
عبر رؤية مشتركة وإعداد جديدين وجريئين للمخرج والممثل المسرحي الأيسلندي جيسلي أورن جاردارسون وشريكه في عملية الإخراج المخرج والكاتب البريطاني ديفيد فار، تم عرض (التحوّل) على خشبة مسرح Lyric ammersmith لفرقة مسرح فيستوربرت Vesturport الأيسلندية، هنا في لندن، بمناسبة حلول الذكرى المئوية لرحيل فرانز كافكا الذي صادف في الثالث من شهر يونيو (حزيران) الماضي.
جدير بالذكر، أن المخرج جاردارسون قد قام بأداء الشخصية الرئيسية، غريغور سامسا، إضافة إلى إلى توليه عملية الإخراج مشاركة مع ديفيد فار، وهذه ليست المرة الأولى التي يتولى فيها جاردارسون عملية الإخراج والتمثيل معاً، فقد
سبق له أن أخرج مسرحية (روميو وجوليت) ولعب دور الشخصية الرئيسية (روميو) معاً: يقول جاردارسون بهذا الشأن:
"كان لديًّ رأي حول كيفية معالجة (روميو وجوليت) وكيف ينبغي التشديد على طريقة سرد الحكاية، ولهذا اخترت لعب دور روميو فيها، فضلاً عن عملية الإخراج. الشيء ذاته في (التحوّل) فقد قمنا بإعداد وإخراج النص معاً أنا وصديقي ديفيد فار، وقمت بلعب دور غريغور، رغم صعوبة الشخصية وتعقيدها".
حدث ذلك في الفترة التي كان فيها جاردارسون يقدم عرضه "ليالي في الفترة السيرك" على خشبة مسرح الباربيكان اللندني، حين اقترح المخرج البريطاني ديفيد فار، الذي كان قد تولى تواً أدارة مسرح Lyric ammersmith، على جاردارسون فكرة القيام بعمل مشترك بين فرقة Vesturport الأيسلندية ومسرح ليريك هامرسميث.
"لقد بدى لي مقترحاً جذاباً ومثيراً للاهتمام"، يقول جاردارسون "فقد توصلنا أنا وديفيد إلى أفكار عديدة ومتنوعة لإعداد قصص مختلفة وتقديمها على المسرح، وكانت الفكرة في الأصل أنه سيقوم بإعداد قصة ما لأقوم أنا بإخراجها واقترح أن نقوم معاً بالعمل على قصة (التحوّل) لكافكا، بإنتاج مشترك لفرقة Vesturport الأيسلندية ومسرح Lyric Hamersmith اللندني، وأصرَّ أن نقوم بإعدادها وإخراجها معاً نحن الاثنان. لقد سبق لي في الواقع تقديم (التحوّل) عام 2015 وذلك بمناسبة الذكرى المئوية لكتابة ونشر قصة (التحوّل). واليوم، سأقوم أنا وديفيد بتقديمها بمناسبة حلول الذكرى المئوية لوفاة الكاتب".
جيسلي أورن جاردارسون هو من مواليد 1973، ممثل ومخرج أيسلندي، وأحد مؤسسي الفرقة التجريبية فيستاربورت Vesturport، وهي فرقة مسرحية وسينمائية، مقرها العاصمة ريكيافيك. جاردارسون، فضلاً ذلك، هو كاتب سيناريو ومنتج، إضافة إلى كونه لاعب جمباز أيضاً، فقد كان بطلاً وطنياً لفئته العمرية لعدة سنوات، لكنه وجد في الآخِر أنَّ لعبة الجمباز غير جذابة فغادرها، إلا أنه سيوظفها في نشاطه المسرحي، كممثل، كما يقول.
بدأ جاردارسون مسيرته بإخراج (روميو وجوليت) ولعبْ دور روميو، على خشبة مسرح مدينة ريكيافيك عام 2003، وكان نجاح العرض قد أفضى إلى دعوة العرض إلى مسرح يانغ فيكYoung Vic اللندني، وانتقاله من ثم إلى مسرح Playhouse عام .2004 وهكذا، فقد شرع منذ ذلك الحين بإخراج المزيد من العروض المسرحية في المملكة المتحدة فقام بإخراج مسرحية (فويزيك) لجورج بوخنر، وتم عرضها على خشبة مسرح Barbican اللندني وأكاديمية بروكلين للموسيقى، ومن بعد في مهرجان BAM NEXT WAVE عام 2008 ، وكان ذلك هو الظهور الأول لفرقة Vesturport في الولايات المتحدة، حيث أصبح هو الأيسلندي الأول الذي يُخرج عملاً مسرحياً في برودواي، فضلاً عن ذلك، عمل جاردارسون، منتجاً مستقلاً وكاتب سيناريو في بعض مشاريع الفرقة.
الرؤية الإخراجية
لقد تمَّ تجزأة العرض إلى ثلاثة محاور تجري وتتداخل ضمناً بشكل دائري، ولا تخضع للسرد الأفقي التقليدي. يبحث
المحور الأول محاولة غريغور سامسا الخلاص من مهنته التي هي بمثابة ترميز لعبوديته، وخلاصه يستلزم منه دفع ثمن باهظ، ألا وهو التخلي عن إنسانيته.
"حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة وجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة...". بهذا المقطع المروّع، يُستهل العرض، وهي الثيمة المتكررة لموضوع "الحيوان" لدي كافكا، والتي نعثر عليها، ولكن بشكل ساخر ومقلوب، في "تقرير إلى أكاديمية" التي يتحول فيها القرد "روت" إلى إنسان، كما لو أن ثمة وجود متناوب لماضٍ وراثي بين الإثنين.
المحور الثاني يتضمن علاقة غريغور بأفراد أسرته، سيما علاقته بالأب، وهي الفكرة الأولى والمركزية التي تكاد تتحكم بكل نتاجات كافكا وحياته على حد سواء، وهي الشعور بالذنب اللاعقلاني الصادر عن عقدة الأب، تلك العقدة التي كانت تشكل تهديداً مبطّناً لأمنه في الطفولة، ولعنة تلاحقه لآخر لحظة في حياته، لدرجة أنه عزم مرّة على إصدار أعماله الكاملة تحت عنوان "محاولة للهرب من دائرة الأب" حسب صديقه وكاتب سيرته ماكس برود.
في كتابه "واقعية بلا ضفاف" كتب روجيه جارودي يقول: "... كان والده في نظره هو بمثابة صورة مصغرة للمجتمع الضاغط الذي يخنق شخصية الانسان ويدفعه إلى الإحساس بالغربة".
إنًّ تحوّل غريغور سامسا إلى حشرة ضخمة، سيقلب موازين علاقته بكل أفراد أسرته، فحب العائلة وحنوها نحوه سيتحول
فجأة إلى نوع من الاستياء والاشمئزاز. هذه الغرابة التي يمكن ملاحظتها بجلاء منذ البدء من خلال المظهر السينوغرافي المتعارض الذي شطر خشبة المسرح إلى مستويين: طابق أرضي وآخر علوي، الأول، صالة جلوس رتيبة باهتة مخصصة للأسرة، والثاني، غرفة نوم مشوهة أشبه بزنزانة خاوية إلا من سرير كأنه نعش، مخصصة لغريغور.
إن حياة غريغور، الحبيس داخل زنزانة الأسرة، يستبد به شجن عميق لا يحسه سوى شاعر وليس حشرة. إن من كان يكدح ليسدّد ديون والده ويعيل أفراد الأسرة جميعاً، يصبح بمنظور الأسرة مجرد "حشرة" عديمة النفع، مخلوق غريب ينبغي التخلص منه.
" ينبغي المحاولة في التخلص من ذلك الشيء الذي في الغرفة المجاورة" تقول شقيقته غرتا، التي أحبها أكثر من الجميع. (لعبت الدور نينا دوك فيليبرسدوتر، زوجة المخرج جاردارسون). أو قولها في مكان آخر: "يجب أن يغادر. هذا هو الحل الوحيد يا أبي. ينبغي عليك التخلص من فكرة إن هذا هو غريغور". أو صرختها في النهاية: "لا أريد أن ألفظ اسم أخي أمام هذا الوحش. فلو كان هو غريغور حقاً، لأدرك منذ فترة طويلة أن البشر ليس بمقدورهم العيش مع مخلوق مثله، ولمضى في سبيله طوعاً واختياراً".
هنا تصبح حشرة غريغور بمثابة مرآة تعكس مسوخاً شوهاء بهيمية وفراغاً روحياً مروعاً لأفراد هذه الأسرة.
"إنَّ الإشارة الأولى لبداية الإدراك هي الرغبة في الموت"
يتناول المحور الثالث هذه المرة، علاقة غريغور بذاته، بوصفه "حشرة"، وهي لحظة الاستسلام الأخيرة وفقدانه الكامل لنزعة التمرد. إنها لحظة القبول في أن يصبح هذا الجسد الحيواني ملاذاً أخيراً ووحيداً لذاته الجريحة.
تحت وطأة الخوف والضغط والشعور بالذنب هذا، يصبح التحوّل مجرد وسيط بين الرغبة في التمرد والنزعة الى معاقبة تلك الرغبة. اللحظة التي يرحّب فيها أخيراً بإرادة "الأب" في قتله لتلك الحشرة، أي القبول بفنائه، ذلك لأن الحرية التي أحرزها وهو "حشرة"، هي في نظره، لم تكن سوى حرية بهيمية. في يومياته، كتب كافكا، يقول: "إنَّ الإشارة الأولى لبداية الإدراك هي الرغبة في الموت".
إنَّ تصميم السينوغرافيا المذهل الذي أنجزه (بوركر جونسون) يُبقي الحشرة مرئية بشكل دائم. يتضمن النصف العلوي منه غرفة خاوية إلا من سرير مغطى بشرشف أبيض كأنه كفن. أما النصف السفلي، فهو عبارة عن غرفة جلوس باهتة كئيبة صامتة كالموت.
عالمان متلاصقان منفصلان ومتباعدان لكنهما مرتكزان على محور واحد. فضاء حلمي وآخر أرضي. عالم غريغور المفعم بالرؤى، وهو يتدلى بقوائمه وذراعيه الطويلتين، متطلعاً بحزن ووجع إلى العالم الأرضي، وعالم الأسرة الذي يشي بخواء روحي، هناك حيث يكمن موته المحقَّق.
حين يتدلى غريغور من أعلى السقف ورأسه نحو الأسفل، نسمع صوته المبحوح وه يوجه خطابه نحونا:
"أحب التدلي من السقف فذلك أفضل لي من البقاء على الأرض، لأن المرء يستطيع هنا أن يتنفس بحرية أكثر. بإمكاني التأرجح والاهتزاز إلى الأمام وإلى الخلف.. أحسُّ أنني خفيف وبوسعي رؤية المستشفى عبر الشارع.. كل ما أستطيع رؤيته من على الأرض ليس سوى سماء رمادية معتمة".
وبعد لحظة صمت طويلة يقول بهمس: "ومع ذلك فإنني أتوق جداً إلى رؤية والدتي لأنني لم أرها منذ مدة طويلة. ربما أنا بحاجة لرؤيتها الآن أكثر من أي وقت مضى".
ليس ثمة أثاث وإكسسوارات كثر على الخشبة باستثناء ثلاثة كراسٍ وطاولة شغلت أسفل ووسط المسرح وسرير نوم موحش في الطابق العلوي. أما الاتجاهات التي يتحرك فيها أفراد العائلة فقد تم تحديدها بخطوط مضاءة بحدّة. فحين تفتح غرتا باب غرفة شقيقها غريغور، على سبيل المثال، يقدح ضوء ثقيل مسلط على غريغور يستطيع أفراد الأسرة من خلاله رؤيته بشكل خاطف لأنهم يقيمون صلتهم به أصلاً عبر جدران الغرفة أو السقف فقط، كما لو أنه لم يعد له وجود على الإطلاق. وحين يتلاشى ذلك الضوء تُغلق تلك الباب لنواجه خشبة المسرح (الواقعية) التي خُصصت لأفراد العائلة.
إن ظهور غريغور عبر ضوء نصفي دائماً الغرض منه هو ألا يراه أحد. حين يقف أو يتقدم رافعاً قائمتيه الصغيرتان الأماميتان أو الخلفيتان، فإن ذلك كله يوحي بشيء واحد فقط هو أنه يحوم فوق فضاء العائلة. إنه يراقبهم وسيظل يقظاً هكذا حتى لحظة موته.
التدلي بالمقلوب من أعلى السقف هو الذي سمح للممثل بمراقبة الحدث مكشوفاً تحته على أرضية المسرح، معززاً بالاستخدام الواسع للضوء والظل.
لقد لعب أفراد العائلة دوراً يتماهى ودور الكورس الإغريقي في سردهم المتناوب لحكاية غريغور. إنهم يستخدمون مفردات كافكا ويوجهونها مباشرة نحو الجمهور، مفردات تتضمن مواجهات حاسمة وصدامات خطيرة في حياة هذه العائلة داخل إطار من الذكريات.
عملية التحّول التي تجري على الخشبة لم يتم تجسيدها عَبر مستلزمات تقنية أو سينوغرافية، إنما من خلال جسد الممثل جيسلي أورن جاردارسون، الذي لعب دور (غريغور)، والذي يتمتع بقدرة تعبيرية فيزيائية تكاد تشبه قدرة كافكا الأدبية في مزجه المتقن بين السوريالي والواقعي، فعضو الاستشعار لديه، بوصفه حشرة كان ينمو أمام ناظريه، فكان عموده الفقري يتقوس، وذراعاه وقدماه تستطيلان، ومع ذلك لم يكن يأبه بكل ذلك.
إنَّ تحوله إلى حشرة هو بمثابة موقف حُر، الهدف منه الكشف، بشكل مؤثّر، عن عريه الداخلي، بعد إن جرد العالم عنه جُلَّ صفاته الإنسانية والشخصية، على حد سواء، ليصبح في الآخِر، الحشرة التي ينبغي عليها أن تُحارِب.
لقد وصف كافكا نزاعه مع والده مرّة بأنه "كفاح الحشرة التي لا تلدغ فحسب إنما تمتص الدم من أجل المحافظة على حياتها".
المعالجة الإخراجية خلقت حالة أشبه بمخاض لولادة حشرة غريغور، عَبر جوٍّ مازج بين موسيقى النقر والقرع والخشخشة بالتوازي والتزامن مع حركات لولبية لاهثة لجسد الممثل وهو يتدلى من السقف بشكل مقلوب أو يقفز أو ويعدو بشكل لاهث على أطراف أصابعه ويديه وساقيه وبطنه زاحفاً على الجدران تضيئه إنارة حادة تعكس ظلال أرجل الحشرة على جدار الخلفية. وعلى ذات الإيقاع كنا نسمع همهمات وحشية يطلقها أفراد العائلة وهم يتابعون مشهد نمو مظهر الحشرة.
الممثل جاردارسون يتمتع بجسد لدن مطواع شبيه بجسد راقص أو لاعب جمباز. بحركة قوائمه وذراعيه الطويلتين كان يجسد ثنائية حادة ومرعبة لحشرة صغيرة تملّكها وعي إنسان. رأسه وعيناه كانا يوحيان بصورة طير وحشي قادم من كتب الأساطير، أما زحفه على أصابعه وبطنه ومرفقيه فيوحي بصورة حشرة ذات ثمانية أرجل. إنه يتسلق درابزين السُلّم أو
عوارض قفصه أو يزحف على الجدار كما لو أنها عادة مألوفة شبيهة بتلك الجولات التي كان يقطعها غريغور في المدن والقرى بحثاً عن زبائن، مرغماً إيانا، نحن الجمهور، على مشاركته وجعه الخفي، وجع روح بشرية وهي محصورة داخل جسد حشرة.
حركات الممثل جاردارسون ونزعاته المبهمة كانت بمثابة استجابة آلية للمظهر الهندسي للحشرة التي تلبّسته، ليس بسبب دأبه في العثور على الجانب البهيمي في شخصية غريغور فحسب، إنما بسبب سعيه لتعميم تلك البهيمية وجعلها تجتاح فضاء العرض برمته لتصل إلى القاعة. فالحشرة ينبغي أن تكون على مرأى من الجمهور، وهذا يعني أنه ينبغي على الممثل الحوم بشكل متواصل حول العائلة ومراقبتها بدقة.
الهيجان والوثب والتدلي من السقف بهذا الشكل المُهدِّد قد أصبحا ملاذ الممثل وهدفه، تقابلها الحركات الآلية لأفراد العائلة التي تتماهى وحركات الدمى، وهي تعكس توترات تلك الحشرة. مشهدهم المقرف وهم على مائدة الطعام يوحي كأنهم حيوان واحد عملاق يقوم بجمع قذارته ليقتات عليها.
الاغتراب، النفور، العزلة والقطيعة بين غريغور وأسرته يتم التعبير عنه عبر الظلال الممسرحة. ففي أي وقت يشاء أفراد العائلة التحدث إلى غريغور تظهر ظلالهم الضخمة منعكسة على الجدار الخلفي، كما لو أنها إسهامة مضافة لتوسيع فجوة سوء التفاهم المشترك. لا أحد يعرف أو يتوقع من هو غريغور أو من هو هذا الآخر الذي أصبحه.!
المظهر الأكثر عبثية وقسوة وغير معقول بالنسبة غريغور ليس التحوّل ذاته، إنما ذلك العمى الذي كان يتعامل به الجميع
إزاء هذا التحّول. فالأم تقول ببساطة: " كان ثمة شيء ما غريب دائماً بشأن غريغور، لهذا السبب غادرَنا". أما شقيقته
غرتا، التي لم تظهر في الإعداد الجديد للنص ودودة ومشفقة، كما هي في قصة كافكا، إنما الهدف من اهتمامها وعنايتها
بشقيقها غريغور كان بدافع من والديها فقط، لغرض محدّد، وهو مراقبة تطور حشرته. ولعل المشهد الأكثر قساوة وإثارة
للشجن هو المشهد الأخير الذي يتم فيه قمع الحشرة وهلاكها من قبل الأب. والأكثر رعباً ووحشية في هذا العرض هو
التحول الذي يحدث في النهاية لأفراد العائلة. فوالد غريغور الهرم العليل يستعيد فجأة عافيته وتتغير ملامحه ونبرة صوته
وحركاته مرتدياً بذلته القديمة، بذلة ساعي المصرف النظامية، ليلعب دور طاغية المنزل ومعيل الأسرة، كما لو أنه يمثل رمزاً لمبدأ العقاب.
أما غرتا، شقيقته، فتخرج من بين ظلال الحشرة، لتلعب دورين متضادين ومتناوبين، الأول، دور رئيس الموظفين وهو يوجّه خطابه المُذّل والمهين إلى الأم والأب وشقيقها، والثاني، دور الفتاة الجميلة العاشقة التي تنتظر ملاقاة عريس المستقبل بعد إن تم إقصاء الحشرة ورميها في القمامة.
كانت النهاية مفجعة ومحزنة سيما حين تحولت المقطوعة الموسيقية لموت غريغور إلى أغنية هادئة تسترخي العائلة على
إيقاع لحنها عند جثة غريغور المتدلية من السقف.
لقد جسد هذا العرض كوميديا كابوسية سوداء مقلقة وصارخة عن وحشة الإنسان وضياعه في عالم تمزقت فيه الصلات الحميمة بين الناس، حيث العلاقات الأكثر لُحمة وجمالاً وعذوبة في هذا العالم متمثلة بالعلاقات العائلية، تبدو هنا كما لو أنها مجرد أوهام.
لقد تملّك المخرجان هاجس مُلحّ وعنيد في تحويل هذا العرض الكافكوي إلى درس في الحنين، دعوة لاسترجاع تلك الوشائج الإنسانية التي نفتقدها اليوم، إلى بحث في طبيعة الشقاء الذي يقاسيه أولئك الذين يقلقهم بلوغ المستحيل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق