وخرجت شهرزاد عن الصمت إلى الكلام المباح العلاج الدرامي حرّر السجينات من قضبان قدرهن
هي مرحلة ثانية من حكايات شهرزاد، وموسيقى ريمسكي كورساكوف، تلتف حولها كشال القدر وتدعوها إلى الكلام. ففي سجن بعبدا للنساء كان احتكاكنا الأول بنساء دفعت بهن قساوة الحياة إلى اقتراف ذنوب الآخرين فكانت قضبان السجون تلك الفاصلة المنيعة بين أحلام عبثية كاذبة ويقظة تأمليّة في ما كان مشوّشا فاستضاء.
كيف يا ترى كانت ستخرج شهرزاد من زمن الأسطورة وتلبس حلّة امرأة من واقع الحياة، لو لم تعمد زينة دكاش مؤسسة مركز "كثارسيس" للعلاج الدرامي، إلى استبدال شهرزاد الماكرة، الأرجوانية، ذات الألف خدعة وخدعة، بشهرزاد ضحية مجتمعها، سجينة هفواتها، فتنيرها بوشاح الرجاء والإيمان؟
في قصر الأونيسكو، كان للفيلم وقع أقوى تأثيرا من المسرحية، فالكاميرا استطاعت أن تطال أعمق مما قيل وقتئذ، وتشي لا بالمرأة المذنبة، بل بآفات مجتمع ذكوري، لعب في حياة المرأة، زوجة أكانت أم ابنة، دور الجلاّد، وليّ أمرها، عابثاً بأنوثتها، بضعفها، مستعبداً خضوعها، دافعاً بها في انتفاضتها إلى الطيش والاحتراق. لعل زينة دكاش في تطبيقها الدراما العلاجية، اختصاصها، وجدت أنها أمام رسالة إنسانية بدأت تمارسها في سجن روميه على المساجين، ثمّ على سجينات بعبدا، ومن نتائجها الإيجابية، رهانها على الاستمرار، إيماناً منها بأن دمج الدراما والفنون التعبيرية مع العلاج هو طريقة فعّالة تساعد في حل المشكلات المستعصية وتعزيز النمو والرفاه لدى الأفراد والمجتمعات.
الفيلم صاغته زينة دكاش سيناريواً وإخراجاً، وليس في نيتها أن تدعو المشاهد إلى فيلم إجتماعي طويل، له البداية والنهاية، بل وعلى خلفية موسيقى شهرزاد، خلقت ورشة، لا تمثيل فيها ولا تصنّع، تلقائية، عفوية، كما تؤمن بالمفعول الدرامي علاجا ليس فقط للسجينات، اللواتي أطلقن صرخة مدوّية لما حدث لهن، ولكن للمشاهد القابع في مقعده، يتلقى من التجارب الصعبة التي تعانيها النساء دروساً لمجتمع أفضل.
تقول زينة دكاش: "تكمن رسالتنا في تقديم خدمات العلاج بالدراما للمجتمع، وفقا للمعايير الأخلاقية المعتمدة في العلاج من خلال الدراما وذلك بتوفير وسيلة فعّالة للتعمق في الصعوبات والتعامل مع المعاناة المحددة لدى مجموعة متنوعة من المستفيدين من العلاج بمن فيهم الأكثر عزلة وحرماناً".
من أبرز إنجازات "كثارسيس" منذ بداية عملها في العام 2007، الشباب المعرّضون للخطر والنساء اللواتي يعانين من العنف الأسري كما المرضى في مستشفيات الأمراض النفسية، إلى السجناء واللاجئين. وقد استقر العلاج الدرامي في السجون منذ العام 2008 فكانت مسرحية "أنا غاضب"، قدمتها مجموعة من سجناء سجن روميه وقد ساهمت في تنفيذ العقوبات التي تنص على خفض العقوبة لمحكوم كان حسن السيرة. وقد حاز الفيلم الوثائقي لـ"أنا غاضب" ثماني جوائز عالمية كما شارك في 63 مهرجانا سينمائيا دوليا.
في العام 2012 كانت مسرحية "شهرزاد ببعبدا" وفي العام 2013، مسرحية "من كل عقلي" قام بتمثيلها نزلاء مستشفى الفنار للأمراض العقلية والنفسية والعصبية. وها هو العمل الأخير للمركز، "يوميات شهرزاد" فيلما وثائقيا عرض في قصر الأونيسكو. أهم ما جاء فيه الحوار المباشر بين الجمهور وتسع مسرّحات من سجن بعبدا أطلقن إلى الحريّة بعدما تبيّنت براءة إثنتين منهن وإتمام الباقيات مدة عقوبتهن. فمن بين الأسئلة:
كيف استقبلتن الحرية؟
الأجوبة سريعة من سماح أو نجوى أو فاطمة أو غيرها:
الحرية مخيفة، لم نكن لنعرف كيف نتعامل معها. وكيف سيكون استقبال الناس لنا. فعلينا دمغة السجن التي لا تمحى.
قالت إحداهنّ: "قلت في نفسي ليتني بقيت في السجن، حماية لي".
من المفاجآت الجميلة، ما روته إحداهن:
الآن تزوجت من شاب أحبني. لقد فهم من أنا والظلم القاسي الذي تكبدته فكان سبب سجني.
تعود بي الذاكرة إلى تلك السجينة الجميلة، الشابة التي وجدت عند دخولها السجن دفتراً حمل يوميات سجينة قديمة، أطلق سراحها. وكان دورها في هذا الفيلم، شهرزادا راوية والدفتر بين يديها تقرأ فقرة من هذه اليوميات، بين مشهد راقص وآخر على إيقاع الفلامنكو فلا نرى سوى أقدام تقرع الأرض على إيقاع فظ، فيما الأكف على الأفواه تمنعهن عن الكلام.
زينة دكاش خلقت مع المساجين في سجن روميه وسجينات بعبدا ما يشبه التبني، فها هو أبو عبدو الطليق اليوم، حاضر في هذا الحوار الحي، يلازم زينا في مشروعها الإنساني الكبير، وها هي على هذا المسرح محاطة بالنساء اللواتي أعادت إليهن بشرة الأنثى المسلوخة زمناً عنهن وحرية التعبير من دون خوف أو خفر. هذه هي زينا دكاش المنذورة لمداواة جراح الإنسان.
مي منسي
النهار
0 التعليقات:
إرسال تعليق