«أليس» لسوسن بوخالد: السرير مسرح للّعب… والخشبة ملعب لمسرحة الحلم
مدونة مجلة الفنون المسرحية
عرض «أليس» الذي استضافته مؤخراً خشبة مسرح «دّوار الشمس» ـ بيروت، بتوقيع «سوسن بوخالد» تأليفاً وأداءً يقلب المعادلة القديمة التي بُنيت عليها في العام (1865) حكاية «أليس في بلاد العجائب». اليوم تقودنا «أليس» إلى عجائبها الداخلية، ولا يغدو ذاك العالم السحري، اللُعَبي الذي تضيع فيه «أليس» الحكاية الشعبية سوى فضاءً تُشكّله هواجسنا، أحلامنا، ومخاوفنا، ومفردات واقعنا القاسية كذلك. فالوحوش تسكن في مُخيلتنا، هي وحوش اليوميّ في حيواتنا وقد ظهرت متصوّرةً بما يتناسب ومخيّلة طفولية، ما بين هذا اللعب الطفولي، والنضج المبني من عيش اللحظة الراهنة، يترنّح العرض، لغةً وبناءً.
أليس السيدة مُمدّة على سريرها تحاول النوم، أليس لا تحمل هويّة. لا نعرف عمرها، مهنتها، يظهر أنّها عازبة، ولكنها ليست معلومة مؤكدة. تبدو وحيدة، ولكن هذا ليس بالضرورة واقعاً فعلياً. اليس بجسدها النحيل، وطولها المتوسط (سوسن بوخالد) يمكن لها أن تكون فتاةً يافعة، ويمكن لها أن تكون سيدة في الثلاثين. تفتح «بوخالد» عرضها بالحديث عن الخيار الذي تضعه على عينيها كل يوم، لمقاومة الزمن والتجاعيد. على بساطة الأمر، فإنّه يتحوّل مفتاحاً لقراءة شخصيّتها التي ترفض مغادرة عوالم الطفولة، بل التي تهرب إلى تلك العوالم من واقعها الذي تتخلّل مُفرداته سردها الحركي واللغوي لكوابيسها وأحلامها الليليّة.
عن ماذا تحدّثنا هواجس «بوخالد»؟! وهل يَهِبُ بوحها النَفسي هذا للعرض هويّة نسويّة؟! أم يبقيه في إطار النقد الإنساني العام، نقد الوجع اليومي الذي نعيشه في خضم لحظتنا الراهنة؟! هل كانت تحلم أم أنها لا تحلم؟! حين تضاء الخشبة يبدأ المسرح واللعب، في حياة «أليس» حين تطفئ السماء نورها ويغدق الليل ظلامه يتحوّل سرير أليس مسرحاً لللّعب. وعليه فإننا لم نعد نشاهد حدثاً بصفته (هنا.. والآن)، وإنمّا نحن أمام مسرحةً لأحلام أليس. لكن إن كانت «أليس» نجحت في نهاية الحكاية التي كتبها عالم الرياضيات الإنكليزي « تشارلز دودجسون» في العودة إلى حياتها الطبيعية، وقد ودّعت رفيقها الأرنب الذي قادها إلى جحره حيث بلاد العجائب السحريّة، فإنّ عرض «بوخالد» لا يحتمل فرحاً طفولية يتسع للأرانب وبهجتهم، بل فيه قطة، مُجسّم قطة، جثة قطة. والحِجْرُ هنا ليس عالماً سحريّاً بل حبساً كأنّه انفرادية. مساحة ضيقة مربعة لا تتسع بالكاد لجسد «بوخالد» الصغير وقد التفّ على نفسه كجنين يخشى وينتظر الانطلاق إلى عالمٍ أرحب.
لوإن كانت بلاد العجائب هي هواجس وأحلام الفرد ذاتها، فإنّ محاولة الهروب تغدو شبه مستحيلة. إذ كيف نهرب من ذواتنا؟! وما هي حدود المساحة التي تتمسرّح عليها وضمنها كل هذه التهيؤات؟! هل لها حدودٌ أصلاً أم أنها تمتدُّ وسعَ الخيال؟!
في العرض الذي دعمه (الصندوق العربي للثقافة والفنون- آفاق) وتمّ تقديمه في القاهرة قبل أشهر، وحالياً في بيروت، تعاون كل من سوسن بوخالد (كتابة وتمثيلاً وإخراجاً)، وحسين بيضون (سينوغرافيا) وسرمد لويس (إضاءة) على إنتاج فضاءٍ رحب من مساحة محددة هي مساحة السرير التي تقارب المترين والمتر، التي لا تتحرّك «بوخالد» كثيراً خارج أطرها المُفترضَة، فهي إن خرجت قليلاً بعيداً عن حافته، فإنّها لا تتجاوز في حركتها المدى الذي حددّته أغراض السرير التي بعثرتها «بوخالد» في سردها المسرحي. بل هو السرير يتحوّل إلى أقفاص تعتقل الحريّة، تقيّد الحركة، لكنها لا تقوى على أسر المُخيّلة.
من هنا يُحسب للعرض قدرته على اللعب بفكرة السرير. السرير الذي يكاد يكون وحدّه طوال العرض- ومدته حوالي 50 دقيقة- خشبةً لمسرحة أحلام وهواجس أليس، ففيه تسكن الوحوش التي تخافها، وفي كل طبقةٍ منه يُخفي حسين بيضون غرضاً من أغراض المسرحَة التي تحتاجها أليس في بناء فضاء حكايتها. هذه الأغراض التي شكّلت مع بعض المفردات اللغوية وسيلة الوصل الوحيدة بين مُتخيّل امرأةٍ وحيدة، طفوّلي، وبين الفرد العربي الذي يعيش كل التحوّلات الكبيرة في زمن الثورات والانكسارات هذا. إذ ربما ستتلاشى من ذاكرة أغلب جمهور العرض كل جمل البوح ومونولوجات «اليس» البطولية، إلاّ أنّ صورة الإطار المعدني المُزخرف الذي يصلح إطاراً لمرآةٍ وإطاراً للوحة عائلية، للوحة شابٍ جميل أو عروس فتيّة وقد هشّم الزجاج المؤطر بما يشبه الطلق الناري في مكان العين تحديداً، هذه الصورة حين حملت «أليس» الإطار ووضعته أمام وجهها، من الصعب ان تتناساها الذاكرة بسهولة.
اللعبيّة الجديدة التي يشتغل الثلاثي عليها في هذا الفضاء المتحوّل والمتبدّل كما «اليس» الطفلة و»اليس» المرأة تكون بواسطة تكنولوجيا الفيديو، التي ترسم عمقاً واستطالاتٍ للسرير على شاشة وضعت في عمق المسرح، تظهر عليها ظلال وصور تكمّل مشهديّة «أليس» المسرحيّة، فحين تغدو «أليس» غيمة لا نعرف إن كان ما يخترقها هو احمرار الدم كطلقةٍ في رأس حالم ثوّري، في رأس حالم وطني، أم أنّه احمرار الغسق لا أكثر يوشّح السماء بلون الدم.
موسيقى كالحلم، تتبدّل بتبدله، تلوّنه بألوانها، دون قطعٍ، بسلاسة تخففّ انتقالنا كمشاهدين ما بين الفضاءات المتعدّدة الرحبة بكل ما في الرحابة من سِعَة التي ترسمها لنا «أليس». والأهم أنّ موسيقى «ميخائيل ميروفيتش» (المُعدّة لفيلم «قصة القصص» 1979( تحملنا إلى السؤال الأساسي الذي يطرحه العرض، وتطرحه «أليس» على قطتها: كيف نعرف أننا أحياء أم أموات؟!
بيروت - يارا بدر
القدس العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق