مارسيل مارسو: بلاغة الصمت Marcel Marceau ترجمة وتقديم: موفق ملكاوي
مجلة الفنون المسرحية
بملامحه الطبشورية والغليون والقبعة المزينة بوردة حمراء، جاب الممثل الفرنسي والمايم المعروف مارسيل مارسو أرجاء العالم، ملهما أجيالا عديدة بمسرحه الذي عمل خلاله على إنعاش فن التمثيل الصامت.
وبوفاة مارسو في أيلول (سبتمبر) العام 2007، فقدت الحركة الفنية العالمية عملاقا مؤثرا، ساهم بفعالية في ترويج هذا الفن في جميع أنحاء العالم، وأبدع فيه من خلال شخصية “بيب” التي اخترعها، ورافقته على مدار سنوات حياته.
التمثيل الصامت فن قديم يعود لليونانيين والرومان، وهو عند الإغريق “تمثيل هزلي صامت”، يلقي الضوء على حدث ما، ولكن من دون أي استخدام للكلام.
خلال قرون طويلة وبلاد عديدة، مر التمثيل الصامت بظروف مختلفة، فقد ازدهر في أزمنة ما، وخفت في أخرى، حتى أن السلطات الدينية حرمته في أوروبا بعدما أفتى رجال الكنيسة بأنه “هرطقات دينية”، ما حدا بالملك شارلمان إلى تحريم البانتوميم، ليمر ممارسو هذا الفن بالاضطهاد سنوات طويلة، وليستمر التحريم خمسة قرون كاملة.
مارسو الذي مات عن (84 عاما)، بدأ مهنته في التمثيل الصامت منذ العام 1945، وأدّى ما معدله200 عرض في العام الواحد، معظمها كانت خارج فرنسا، حيث وجد الاستحسان والقبول أكثر من موطنه.
وقد تغيرت خبرته الفنية وذخيرته قليلا على مر العقود، ومع ذلك فقد ظلّ يؤدي عروضه الكاملة في الولايات المتّحدة وألمانيا وبلدان أوروبية أخرى، إضافة إلى استراليا واليابان، حيث اعتبر “كنزا وطنيا
في العام 1999 كتبت آنا كيسيلكوف في صحيفة نيويورك تايمز تقول “في الوقت الذي ثارت فيه الأجيال من فناني المايم ضدّ أسلوبه الكلاسيكي، فإن السيد مارسو بقى أنموذجا غير متحجّر. وأي شخص فاته أن يختبر الموهبة والأداء الراقي الذي قدمه السيد مارسو في الولايات المتّحدة منذ العام 1955، فيجب عليه أن يسارع لاختبار هذا الأداء”.
إن عروضه الكثيرة تضمّنت العديد من الأدوار، كما في “الخلق”، حيث تسلسلت بداية العالم لديه بتصفيق من أصابعه الطويلة متشبها بأفعال السمك والطيور، وانتهى بآدم وحواء وهما يخرجان من الجنة.
وفي “شباب ونضج وشيخوخة وموت”، صوّر في أربع دقائق مباهج الحياة ومآسيها باختصار مفيد تجاوز فيه، وبشكل مثير، العديد من الروائيين وكتّاب المسرحيات الذين توفرت لديهم مئات الصفحات؛ لقد بدأ ملتفا على نفسه تماما كما الجنين، ثمّ تهادى بجرأة متمثلا مرحلة الشباب، ثمّ تكوّم على نفسه بانتظار الموت.
وفي “المحكمة” لعب دور المتهم والقاضي وهيئة المحلفين، وأخيرا الجلاد. وفي مشهد آخر لعبت أحدى يديه دور الشر، بينما لعبت الأخرى دور الخير، وبقيتا تتصارعان وتلفان في دوائر حول بعضهما بعضا إلى أن اندرجت اثنتاهما في الصلاة.
وفي غيرها من المشاهد استحضر ريحا خفية للكفاح ضدّه، وقفصا مخفيا كذلك، لاحتجازه بينما هو يناضل للهروب
ظهر مارسو بالقرب من برودواي في نيويورك في العام 1955 خلال برنامج بعنوان “أمسية تمثيل صامتة”، وكتب الناقد المسرحي في التايمز حينها بروكس أتكنسون، أن مارسو “كان موهوبا برتبة أولى في مدرسة الفن، التي تكمن شعبيتها بالدرجة الأولى في العبقرية”. لقد كان المعرض ناجحا بشكل كبير، بحيث انتقل مباشرة إلى مسرح برودواي.
لكن علاقته بموطنه فرنسا كانت أصعب، هناك ما كان يضايقه، في النهاية، وبعد الجوائز العديدة التي فاز بها في بلدان مختلفة، وفي العام 1970 بالتحديد منحه موطنه درجة “النبالة” في الحقل الثقافي. وفي العام 1978، وعندما كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك عمدة لمدينة باريس، خصص معونات مالية لمدرسة مارسو، والتي أنتجت أعدادا كبيرة من التمثيليات الصامتة.
إن مارسو الذي يصنف على أنه “مهذار جدا” خلال حواراته الإعلامية، قال ذات مرة عن تمثيلياته الصامته: “في الغالب فإنني أفكر كثيرا في البعد الإنساني العام خلال عملي، وليس المحلي فحسب. ليس هناك طريقة فرنسية خاصة للضحك، كما لا توجد طريقة أميركية خاصة للبكاء. مواضيعي تحاول كشف الجوهر الأساسي للإنسانية”.
مارسو اخترع شخصية (بيب) في وقت مبكر من مهنته في العام 1947، مستلهما إياها بطريقة ما من أحد العروض الإيطالية “كوميديا ديللارتي”.
وذات مرة قال مارسو “إن بيب شخصية حزينة ومضحكة في آن، والأشياء التي تحدث دائما معه، يمكن أن تحدث مع أي شخص آخر. ولكن، وبسبب حديثه بحركة الجسم وردود الأفعال، فإن كلّ شخص يعرف ما يجري معه. إنه شعبيٌّ جدا في كل مكان؛ اسكندنافيا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، إيطاليا، النمسا، وفي كل مكان يسافر إليه”.
وقد ظهر مارسو من خلال شخصيته “بيب” في أفلام عدة، مثل الفيلم الكلاسيكي
“Les Enfants du Paradis
الذي لعب فيه دور مهرج، و”باربيللا” مع جين فوندا.
وكان مارسو درس التمثيل في “مدرسة الفنون الدرامية” في مسرح سارة بيرنهارديت في باريس، وتعلّم على يدي جين لويس بارولت، الذي اختار مارسو الانضمام إلى مسرحه.
وفي العام 1955، وتبعا لما أوردته صحيفة “ليبراسيون”، وخلال أدائه على “مسرح أولمبيا”، مع المغني الشاب تشارلز أزنافور وعازف الجاز سيدني بيخت، حظي مارسو بـ “الاستقبال الأكثر سخرية في تاريخ مهنته”.. الجمهور كان يتحد بالهتاف أثناء أدائه: إنه غير مفهوم على الإطلاق”.
ذهب في جولة إلى الولايات المتّحدة لمدّة إسبوعين، وحين تم الاحتفاء به هناك، بقى لستّة أشهر.
وفي هوليوود، أدى لستّة أسابيع، وكان فخورا جدا كون الجمهور الذي جاء لمشاهدته اشتمل على ممثلين مهمين، مثل: تشارلز لوتن، مارلون براندو، غاري كوبر، حتى أن شركة “ماركس بروذرز” للإنتاج تابعت عروضه، وأصبح هاربو ماركس الذي كان مؤديا صامتا هو الآخر، صديقا له.
وحتى العام 1992 كان يتجوّل في الولايات المتّحدة لشهرين كلّ عام، ومع بداية القرن الجديد، كان التهميش قد طاله من جديد في فرنسا. واقتصر أداؤه في معظمه على ترفيه الأطفال. جمهوره في الغالب كان من الأطفال والأشخاص الذين كانوا أنصارا له منذ الخمسينيات، أما مدرسته فقد كانت تقدم حوالي 20 تمثيلية صامتة جديدة في السّنة.
كان في أواخر السبعين من عمره، ومع ذلك فقد استمر في الدفاع عن فنّه وتوضيحه. وفي ذلك الوقت بدأ يطلق على عروضه اسم “وداع بيب
قال ذات مرة لصحيفة نيويورك تايمز في العام 1993 “أعتقد أنني بيكاسو التمثيل الصامت، ففي سن الثمانين كان بيكاسو ما يزال شابا. إذا نجحت في الحفاظ على لياقتي، فإن ذلك يعطيني عشر سنوات أخرى على الأقل. أنا أعتبر هذا تشجيعا لكلّ إنسان في الخمسين أو الستين أو السبعين. فأنا لا أعتقد بالعمر، بل أعتقد بالقوة والإبداع
0 التعليقات:
إرسال تعليق