مسرح ما بعد الحداثة.. مأزق الصورة المرئية.. مأزق التقنيات الرقمية / نجم الدين سمان
مجلة الفنون المسرحية
كان المسرح طقسا جماعيا ولما يزل حتى لو تم تقليص الجموع وتفكيكها بنيويا! ومن الفضاء المفتوح لطقوس الخصب والانبعاث في الحقول حيث الجميع يشاركون فيها فرجة وتمثيلا انتقل الطقس الى فضاء المعابد الاولى وبدأ يتشكل اول جمهور مسرحي حين تولى الكهنة بانفسهم تجسيد هذي الطقوس دوريا فتكون «الممثلون الاوائل»: كاهنات معبد عشتار، عرافات دلفي، كهنة رع وآمون، حتى الملوك، متقمصين سيمياء «تموز» وكيميائه، لحظة انبعاثه، وصولا الى الزواج المقدس.
احتكر الكهنة والملوك «التمثيل» واحتكرت الجموع «الفرجة» فحسب! وسيتوارد لخاطر ساخر مثلي ان الزواج هو اقدم عملية تمثيل في العالم، لاتزال الجموع تشاهده وتشارك فيه!
بعد ذلك ستقوم «اثينا» الذئبة بارضاع ابنائها حليب المدنية الثانية، مكرسة للمسرح طقسا سنويا ومسابقة للنصوص التي كانت شفوية فصارت مكتوبة، وعروضا في مدرجات، وجمهورا، بينما بقي ديونوسيس وباخوس خارج العلبة الاغريقية، خارجا عن اي سلطة سوى .. سلطة الجموع..
سيترك لنا اكثر من اشارة خصوصا الاشارة في اوراق لوكيوس ابولينوس» ان الطقوس الجماعية المقامة خارج «العلبة الاغريقية» ومدرجاتها، كانت مكرسة لطقوس خصب «سورية قديمة، عشتارية ـ تموزية، تتداخل بها طقوس اوزيريسية، بينما تغص المدرجات اليونانية بالالهة الاثينية.
بانهيار القيم مع استفحال روما القديمة امبراطوريا تحول الصراع الدرامي الى صراع دموي بحشر العبيد في الحلبة، عبدا قبالة عبد في صراع حتى الموت، عبدا قبالة الوحوش المفترسة. وفيما بعد قرون ستقوم روما الجديدة باستبدال الوحوش المفترسة بوحوش اكثر تقانة: «B52 ـ الشبح ـ F16 ـ توماهوك ـ كل القنابل الذكية» بعد حشر العبيد في الحلبة قبل بدء القصف المسرحي!
مع العلبة الايطالية للمسرح في عصر النهضة الاوروبية صار المسرح طقسا مسائيا، بعد ان كان نهاريا من شروق شمس الى غروبها التقانة الوحيدة المضافة ان شكسبير وموليير قد عرضا مسرحياتهما على ضوء الشموع!
باختراع الكهرباء دخل المسرح عصر التقانة والستارة التي كانت تفتح بشد الحبل يدويا صارت تنفتح بواسطة آلة تطورت تقنيات الاضاءة، تقنيات الصوت، وامكن تبديل خلفيات الديكور آليا والخشبة الثابتة صارت دوارة.. الخ.
مع الحداثة بات على المسرح الى جانب اختباره للمفاهيم ان يختبر التقانة جاء تطوير المرئي: آلات التصوير الفوتوغرافية، آلات التصوير السينمائي، آلات عرض الافلام وشاشات سحرها الجديد ليضع المسرح في اختبار حقيقي بدأ بمحاولات المزج بين التقنيات المسرحية والتقنيات السينمائية وسنجد مثالا نادرا في الحياة المسرحية السورية لمثل هذه المحاولة ففي عام 1933 على خشبة سينما «اللورنبارك» بحلب وبمشاركة خمسين ممثلة وممثل قام شرف الدين الفاروقي في مسرحيته «محمد علي الكبير» التي كتبها واخرجها باستغلال شاشة السينما الموجودة لعرض لقطات وثائقية خلال المشاهد المسرحية بالتضافر مع سياق العرض. تصور محمد علي وهو يستعرض الاسطول البحري المصري واحداها لمعركة البوسفور بين الاسطول المصري والاسطول العثماني مثل هذا التجريب المسرحي كان يعد مغامرة فنية آنذاك.
مع ذلك فان كل محاولات مسرح الحداثة الاوروبي واستعانته بكل التقانات المتاحة لم تنقذه من مأزقه بتوالي حربين عالميتين على ارضه ،وانتهاء الثانية منها خصوصا بانهيار المعنى وفقدان اليقين سنرى تجلياته الاوضح في مسرح العبث.
كل التقنيات والتقانات لم تنقذ مسرح الحداثة الغربي من ازمته الداخلية «المعرفية والروحية» ولذلك سنراه يتجه نحو شرق وجنوب في عودة لخطه البياني دائريا الى النقطة الاولى في دائرة الطقس المسرحي او الى اقرب نقطة من بداياته الاولى محافظا عليها كما هي في المسرح الصيني وفي مسرح «النو» و«الكابوكي» الياباني، والى طقوس الاقوام البدائية في افريقيا ومجاهل الامازون كما استقاها الايطالي «اوجينوباربا» تلميذ «جروتفسكي» الذي ترك كل تقانات الغرب وراء ظهره ميمما صوب الشرق حتى «برتولت بريخت» الماركسي ـ الشيوعي استقى من الشرق مادة اكثر من عمل له وكذلك مشهدياته بعد انغماسه مع «مايرخولد» في «المسرح السياسي» الذي تبدو فيه العلبة الايطالية اشبه بمصنع آلي على الرغم من كسر الايهام باختراق الجدار الرابع.
هل كان ذاك استشراقا على طريقة الحداثة؟!
أم.. انه تعبير عن مأزق الحداثة نفسها؟!
مع بداية ستينيات قرن مضى سيكون على المسرح ان يواجه خصما اشد ضراوة من السينما هو التلفزيون الذي جعل الصورة المرئية في متناول الجميع داخل جدرانهم الروحية كما داخل جدران الاسمنت مع كل فوائد «الرائى» ـ لا اراك الله هما ـ سيناط بالتلفزيون خصوصا بعد فورة ثورة الاتصالات ان يحيل العقل الجمعي الى قطيع من الغرائز الاساسية الاستهلاكية الموحدة المعولمة، لاتشبه بأية حال الطقوس الجمعية الاولى حيث كان الكل يشارك في تجسيدها حتى في حالة الفرجة عليها لان هدف الصورة المرئية ـ الرقمية ـ ان تزيح دلالة «المتفرج» وتفككها الى اشد مستوياتها تسطيحا: «المتلقي».
وحيث ان المسرح سؤال انساني مستديم منذ سؤال جلجامش عن الخلود مرورا بخيار هاملت الشكسبيري اكون او لا اكون، وليس انتهاء بكل الاسئلة المستعصية في راهننا الانساني ستتم ازاحة المسرح الى الهامش لتكريس الصورة الرقمية جوابا جاهزا مع تجاهل قصدي للاسئلة!
سيتم اقصاء الدراما حتى عن المشهدية باحلال الصورة مكانها وبدلا من مشهدية اول قتل بين قابيل وهابيل تنتج ملايين الصور الرقمية عن قتل بلا معنى قتل منزوعا من دراميته قتل مثل اية عادة يومية كوجبة «همبورجر» اعتيادية مع علبه بيبسي كولا، قتل بارد قتل حتى من غير رؤية القتيل بازاحة القتيل الى نقطة تقاطع على شاشة رقمية قتل من غير ردة فعل حيث لا يحق للقتيل حتى ان يلتمس آخر امل بالرحمة او يتقوى اهل القتيل بالرحمة عليه!
حتى في العاب الكمبيوتر يحدد المبرمجون للاعب خياراته في الوقت الذي يظن فيه انه يختار بنفسه طريقة القتل! ستجتاح الصورة المسرح تحت ذريعة التجريب والتجريبية لتفكك الدراما التي في ماهيته وخصائصه محولة مشهديته الى مشاهد مرئية، والممثل الى آلة اسمها «الجسد» ونصه «المعنوي» الى اشارات رقمية، حتى شخصيات النص تبدو مجرد صور ويرى منظرو مسرح ما بعد الحداثة ـ الذي نسميه فيما بيننا المسرح التجريبي، ان اللغة المنطوقة في النص المسرحي لغة مسطحة مقولبة وليست وسيلة للحوار لذلك يتم تحويل اللغة المنطوقة من حنجرة انسانية الى شريط للتسجيل يحل محلها وللتغلب على مأزق التوصيل يتم الاعتماد على «الحوار المرئى» الذي تتكفل به الصور بينما يبحلق الممثلون ما تبقى من دلالة الممثل في الجمهور طوال العرض! مسرح مابعد الحداثة يلغي ايضا الزمان والمكان وبهذا يلغي التاريخ والبيئة والخصوصية اما كائناته فلا تشبهنا لانها كائنات رقمية صوتا وصورة وعلينا لكي ندخل عصر ما بعد الحداثة ان نخلع ذاكرتنا وجلدنا لنصير مثلها او نبقى رعاعا! مسرح مابعد الحداثة يلغي ايضا البناء السردي، البنية، كما الغت اغنية ما بعد الحداثة الجملة الموسيقية والبناء الموسيقى مستعيضة عنه بالصراخ والكلمات المبهمة.
واذا كان مسرح الحداثة قد اطلق «مسرح العبث» فان مسرح ما بعد الحداثة قد اطلق فيما اطلقه من القذائف الموجهة: «مسرح الهيستيريا الانطولوجي» الذي اسسه ريتشارد فورمان في بلاد «العم سام» وغايته مسرحة عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد لانتاج مسرح تجريدي يقوم المشاهد فيه بممارسة الاستغراق الذهني وسط هيستريا انطولوجية تطلقها الصور المتلاحقة بينما الممثلون خلف براويظ كمجرد متحدثين لايصال الافكار!
مسرحي ما بعد حداثي آخر «لي بروير» يستأنس بتقنية الرسوم المتحركة، رسوم تنجزا أجساد الممثلين عن الحياة العاطفية للحصان! هاهنا تتم أنسنة الحصان واتمتة الانسان في عالم يحتج على اكل الكوريين للحم الكلاب ويسكت عن اكلة لحوم البشر!
ويكتب «روبرت ويلسون» نصا ما بعد حداثي خاليا من اي بناء سردي مفتقدا الى اية نقطة يمكن اعتبارها بداية او نهاية فعلا او رد فعل، شيئا من خطاب مكتوب او شفوي على الرغم من عنوان نصه «خطاب الى الملكة فيكتوريا» حيث يعتبره المولف عملا اوبراليا! بالرغم من عدم وجود غناء فيه حيث يبدأ العرض وينتهي بالصراخ وبكلمات مبهمة واصوات حوافر خيل وصفير قطارات ودوي قنابل تتخللها صور مرئية من الجرائد والتلفزيون والسينما واصوات رقمية من مقتطفات تعليقات اذاعية.
تلك هي امثلة من بين اطنان الأمثلة لم اقل: آلاف الامثلة لاني اقيس الصورة بالطن كما يقيسون نجاح اي حرب باطنان القنابل! اما مصطلح «المسرح التجريبي» الذي نتبناه عربا فهو مصطلح خلبي حيث الحياة الانسانية نفسها تجريب وتجربة والمسرح نفسه منذ ولادته فعل ابداعي تجريبي دائم ومثل ذلك مصطلح «المسرح الطليعي» الذي يحصر الطليعية في مسرح الحداثة الغربي وتبنيناه نحن آليا كما نتبنى كل اشكال الاستيراد: من ابرة الخياطة الى المصطلحات! الم يكن كراكو وعيواظ طليعيا في زمانه شكسبير ايضا ابسن، تشيخوف، موليير، بريخت، وآخرين.. كل بما قدمه من ارتقاء وتجاوز للسائد في عصره؟!
ثم سيلتبس على الكثيرين القول بان مسرح الصورة مسرح طليعي!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق