"الملك لير" مسرحية شكسبير في "مسرح المدينة": الانحدار التدريجي إلى الجنون
مجلة الفنون المسرحية
-------------------------------------------
المصدر : مي منسي - النهار
"الملك لير" مسرحية شكسبير في "مسرح المدينة": الانحدار التدريجي إلى الجنون
كأن روجيه عسّاف في شخصيّة الملك لير، كان يراهن على طاقاته المسرحية الفذّة، المخزّنة في ذاكرته منذ زمن المسرح الحديث، لشد عصب المشهد الشكسبيري، المصوغ بهمّة جامعيين من عشّاق المسرح، والإضاءة بحسه وتفاعله مع هذا الدور التراجيدي، على فحوى الموضوع، المتمحور حول ملك متزهّد، يتخلى عن كل ممتلكاته مقابل جرعة حب صادق من بناته الثلاث.
إنها مسرحية النفوس الشريرة المتستّرة وراء قناع الحب الكاذب، كتبها وليم شكسبير كمنقّب بمنكاش الشعر والنثر في خفايا الانسانية، الغالب عليها المكر والجشع والطموحات القاتلة كما النادر منها الإخلاص والحب الصادق.
مساء الخميس عرضت مسرحية "الملك لير" على "مسرح المدينة"، بمبادرة شجاعة من العمل المسرحي في الجامعة الأميركية ومشاركة مسرح "الفاكشون" في لندن المتخصّص في إنتاج أعمال شكسبير. هذا الحدث اللافت كان لا بد من أن يجلب جمهوراً واسعاً، جاء أولاً، مشجّعاً لعمل مسرحي راقٍ، نابع من قلب الجامعة الأميركية النابض، وثانيا لمتعة حضور تراجيديا من خمسة فصول بطلها ليس منتصراً، بل ملك أسطوري إسمه لير يتخلّى عن تاجه وملكه ليعيش الزهد مع بهلوله.
المطويّة أنارت لنا الأسماء المشاركة في هذا العرض الطويل. الترجمة لندى صعب ورافي فغالي وسحر عسّاف، لم تمنح اللغة العربية الملبننة شيئاً من جمالية اللغة الشكسبيرية، الشعرية والنثرية، سوى تلك التي قالها الملك لير في غضبه وشكوكه ويأسه وهذيانه. أما سحر عسّاف فكان لها أكثر من حضور في هذا العرض، مترجمة، مخرجة مع راشيل فالنتاين سميث وممثلة في دور كورديليا إبنة الملك لير. الدراماتورجيا لروبرت مايرز ومارك ليباتشر. تصميم الديكور لغيدا حشيشو. فما عدا روجيه عسّاف (الملك لير) ورفعت طربيه (الكونت غلوسستر)، الرائدين في تاريخ المسرح اللبناني، وبحضورهما، دفعا بالعمل الجامعي إلى مستوى ولو شحيح، من الاحتراف، استقطبت الخشبة عشرين عنصراً تمثيلياً أهم ما بينهم بنات لير، كورديليا (سحر عسّاف)، غونريل (زينب عسّاف)، ريغان(مارليز عاد)، الباني (باسل ماضي)، كورنويل (هادي دعيبس)، كنت (بشارة عطا الله)، إدغار إبن غلوسستر غير الشرعي (إيلي يوسف)، إدموند إبنه الشرعي (فؤاد يمين)، البهلول (سني عبد الباقي) والحرّاس وغيرهم.
يدخل الكونت غلوسستر إلى قصر الملك لير، برفقة كنت وإدموند إبنه غير الشرعي. يسأله كنت: أما هو ابنك يا سيدي؟ يجيبه غلوسستر: "إنه إبن الزنى خجلت من الاعتراف به لكني اليوم شفيت من خجلي". هل كان يعلم أن إبن الزنى سيغدو خائناً، ثعلباً أكثر من أبيه فيستولي على الحكم فيما نزوات الملك العجوز ترمي به إلى الحضيض.
هذا العمل الجامعي، لم تحظ بعض مراحله باستقطاب إنفعال الجمهور. المسرح الواسع لم يكن مفصّلاً ليضم مساحة مسرح إليزابيتي حميمي. أما الصوت في "مسرح المدينة"، فهو من زمان الآفة التي يشكو منها الحضور. الكثير من الكلمات لم تصل إلى سمعنا، ما جعلني أتكل على ما بقي لي في ذاكرتي للتواصل مع هذه اللعبة الشكسبيرية الجهنّميّة، المحنّكة القائمة على الدسائس، النواة الرئيسية للمسرحيّة.
كم كنت أتمنى ليلة الخميس في "مسرح المدينة" أن أعيش بمشاعري وحبي الجامح لشكسبير، رجوع كورديليا المنبوذة من والدها لصدق كلمات لم يفهم جوهرها: "أحبك لأنك والدي لا للإرث الذي تعطيني إيّاه". هذا المشهد القادر وحده أن يمحو ذنوب الغش والرياء في هذه المملكة، لم يحمل معانيه الإنسانية إلى ملك أعماه الإستبداد، كما لم تصل إلى ذرة من دفء هذا الحنان. الخشبة باردة، الصوت شحيح، حميّة الممثّلين شبه غائبة. رسالة شكسبير التي شاء بها أن يشي على طبائع البشر الدنيئة لم تصل إلينا. في ذاكرتي تخيّلت شكسبير جاثياً أمام هذا الملك المخلوع، مشفقاً عليه، إنساناً من عامة الناس وزّع أملاكه على بناته لقاء ذرّة حب منه. كم غالٍ الحب وكم نادر.
المصدر : مي منسي - النهار
0 التعليقات:
إرسال تعليق