رجاء بن عمار مدرسة في المسرح التونسي
مجلة الفنون المسرحية
رجاء بن عمار مدرسة في المسرح التونسي
رجاء بن عمار مدرسة في المسرح التونسي
فقد المسرح التونسي الحديث برحيل رجاء بن عمار واحداً من نجومه الكبار الذين ساهموا مساهمة فاعلة في صياغة خطابه الدراميّ الجديد، وابتكروا طرائق أدائه الحديثة، وأسسوا، بصبر وأناة وجمالية لا عهد للمسرح التونسي، وربّما العربيّ، بها من قبل.
قدمت إلى المسرح مزوّدة بثقافة جامعية رافداها الأدبان العربيّ والفرنسيّ إذ انتسبت رجاء، بعد حصولها على البكالوريا، إلى مدرسة المعلمين العليا التونسية التي كانت نسخة من نظيرتها الفرنسية في جودة البرامج وتميز الطلاب.
لا شكّ في أنّ رجاء بن عمّار قد شغفت بالمسرح منذ طفولتها وأنّ دراستها الجامعية لم تفعل سوى تأجيج هذا الشغف ولهذا أقدمت على الانخراط في بعض الفرق المسرحية الجامعية ذات النبرة المتمردة. منذ البداية امتزج المسرح لديها بمعاني الرفض، الرفض في أوسع معانيه، رفض الواقع / رفض الفن السائد / رفض النصوص المتهافتة / رفض أساليب الفرجة القديمة... فالمسرح، في نظرها، فنّ ناقد، لا يفتأ يهجم على العالم بالأسئلة تلو الأسئلة.
بهذا الفهم للمسرح تشبثت رجاء بن عمار على امتداد حياتها وإن تنوّعت طرائق الرفض وأساليب التمرّد.
قدمت رجاء بن عمار أعمالاً كثيرة نذكر منها على سبيل المثال: «ساكن في حيّ السيدة»، «بيّاع الهوى»، «فاوست»، «الباب إلى الجحيم».
جنحت رجاء بن عمار، في معظم أعمالها الأخيرة، إلى التجريب أسلوباً في الإخراج والكتابة والتمثيل، والتجريب، بالنسبة إلى هذه الفنانة الكبيرة بحث مستمرّ عن آفاق تعبيرية وجمالية. لا شيء، في نظرها، قد استتبّ ولا شيء استقرّ، كل شيء إلى تغيّر وتحوّل مستمرّين. لهذا وجب على المسرح أن يبحث باستمرار عن لغات بصرية جديدة، أن يختبر وسائل جديدة في الكتابة الإخراجية. ويتجلّى هذا التجريب أقوى ما يتجلّى في مسرحيتها الشهيرة «نافذة على ...» التي هي نافذة يطلّ من خلالها المشاهد على اللحظة الراهنة بكل ماتنطوي من حروب وأوجاع وصراعات. هذه المسرحيّة هي مسرحية الجسد في المقام الأوّل، الجسد بوصفه اللوح الذي تكتب عليه الثقافة أحلامها وقيمها. والمسرح في نظر هذه الممثلة هو في المقام الأول مجال الجسد يملأ الخشبة بحضوره القويّ. وهذا ما قاد رجاء بن عمّار إلى الاهتمام بالكوريغرافيا بوصفها شكلاً راقياً من أشكال الرقص المسرحي وعلمته للكثير من المهتمين بالمسرح والرقص.
كل هذا جعل من مسرح رجاء بن عمار مسرحاً مثقفاً يستدعي التأمل والمشاركة الواعية...أي يستدعي المساهمة في تأسيس رموزه ودلالاته. هذا المسرح يستخدم أكثر من لغة : لغة الكلام / لغة الصور/ لغة الموسيقى/ لغة الرقص / ...هذه اللغات تتمازج داخل المسرحية الواحدة لتحول العمل الفني إلى عيد من أعياد العين والسمع والخيال.
رحلت رجاء بن عمار تاركة وراءها إرثاً مسرحياً مهماً ومدرسة فنية ستبقى تلهم الكثير من رجال المسرح في تونس. هذه المدرسة التي تمكنت من استيعاب تيارات فنية كثيرة وجعلتها، تعيش، على اختلافها، في مسرح رجاء في كنف العافية.
-----------------------------------------------
المصدر : محمد الغزي - الحياة
0 التعليقات:
إرسال تعليق