أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الاثنين، 1 مايو 2017

دور الفلسفة في تفعيل الاستيعاب العربي للمسرح الغربي

مجلة الفنون المسرحية

دور الفلسفة في تفعيل الاستيعاب العربي للمسرح الغربي

  رجاء البرومي

تشبع المسرح العربي بالفلسفات التي أثرت على المسرح الغربي، ونهل منها لتطوير إبداعاته المسرحية التي تحولنا من مجرد النقل والاقتباس إلى التجريب والابتكار على مستوى النص والعرض، الأمر الذي انعكس بدرجات متفاوتة على التواصل المسرحي العربي مع الجمهور، ودفع بالمسرحيين العرب إلى تكثيف جهودهم من أجل انتقاء الفلسفات التي تتوافق مع تجاربهم الإبداعية ،والتي لا تتعارض مع طموحات جمهورهم، الذي يختلف كثيرا عن الجمهور الغربي. 


إن انتقال النظريات الفلسفية والفنية من بيئة إلى بيئة أخرى، يخضع لمجموعة من العوامل والمؤثرات التي قد تفتح  جسور التواصل مع المتلقي ، أو تبوء بالفشل فتكون ثمارها عكسية.
ويطرح إدوارد سعيد إشكاليتين هامتين في هذا الإطار: 
* أولاهما: - هل تكتسب الفكرة أو النظرية قوة إضافية بحكم انتقالها من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، أو أن الوهن يصيبها من جراء ذلك؟ 
* وثانيهما: - هل تصبح نظرية التي تنتمي إلى مرحلة تاريخية معينة وثقافة وطنية واحدة ،غيرها في مرحلة وموضع آخرين؟ 
وينبه إلى أن الإنتقال إلى وسط جديد لا يمر دون عراقيل، كما تستلزم العملية مسلسلا من التمثيل والتأسيس مخالفا للمسلسل الأصلي. وأن أي إحصاء يستهدف حصر عمليات زرع النظريات والأفكار، ونقلها وتداولها وتبادلها يصبح أمرا معقدا. 
ثم يضع أربع مراحل توضح الطريقة التي تسلكها أية نظرية خلال سفرها: 
أول مرحلة: نقطة الانطلاق؛ أو ما يبدو كذلك، وهي مجموعة من الظروف الأصلية التي رافقت ميلاد الفكرة أو دخولها ميدان الخطاب. 
ثاني مرحلة: المسافة المقطوعة، أو ذلك الممر الذي تجتازه الفكرة، عبر ضغط السياقات المختلفة، خلال انتقالها من نقطة معينة إلى زمان ومكان تصبح فيهما واضحة البروز. 
ثالث مرحلة:  [...]تخضع لمجموعة من الشروط يمكن تسميتها شروط القبول، أو أشكال المقاومة، كجزء لا بد منه لكي يحصل القبول،وهذه الشروط تواجه النظرية أو الفكرة المزروعة، وتمكن من إدخالها أو التساهل تجاهها مهما بدت غريبة(1)  
ورغم خطورة سفر النظريات والأفكار الفلسفية والفنية ،فقد غامر المسرحيون العرب بالتفاعل مع الإبداعات الغربية، وتقديمها في بيئة غريبة عنها. وأهم تلك النظريات الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية، التي تشبع بها المسرح العبثي والمسرح الملحمي. 
و لقد أبرز محمد عوزري جانبا من التواصل بين المسرحيين العرب والغربيين من خلال حديثه عن التجربة المسرحية بالمغرب، كنموذج يعكس لنا خصوصية هذا التواصل، ويصف رواده بأنهم جيل الرفض؛ إذ يرى أنه مادام «رواد هذا الجيل الجديد جاءوا إلى المسرح، على العموم، من الجامعة، فإنهم سيبحثون عن مصادر الإلهام المسرحي في منابعها، وسيفرض هذا الجيل اقتباس كوميديا موليير ويتجه نحو ريبيرتوار آخر يمثله كل من بيرتولد بريخت، وهارولد بينتر، وبيتر فايس، وجان جوني، ولويجي بيرا نديللو، وأوغست ستريندبيرغ، وصامويل بيكت... أما المناقشات حول الإخراج فإنها ستتجه نحو عمل كل من كروتوفسكي، وبسكاتور، والمسرح الحي...وكل ذلك سيؤدي حتما إلى ظهور كتابة مسرحية جديدة.»(2) 
ونذكر على قائمة المتأثرين بالمسرح الغربي المتشبع بالفلسفة الاشتراكية، وتحديدا المسرح الملحمي البرشتي عبد الكريم برشيد الذي يصرح قائلا: «... ففي الاحتفال تختفي الأقنعة المجتمعية، وباختفائها تتحرر الذوات من الخوف ومن التمثيل الذي تعرفه كل يوم، ومن هنا تكون إيديولوجية الإحتفال مبنية على أسس من الاشتراكية، والوحدة، والعدالة والتحرر، ليس فقط بالنسبة لذلك الحيز المكاني الضيق والذي يسمى الخشبة، ولكن بالنسبة لكل الأرض التي تسع الإنسان.»(3) 
غير أن احتفالية عبد الكريم برشيد ستنسلخ من قوالب فلسفة المسرح الغربي، وتحاول البحث عبر مجموعة من الإبداعات تحمل بصمة هوية وذات لها خصوصيتها  الأصيلة، التي تخول للجمهور التواصل مع الاحتفالية المغربية وليس الغربية، من خلال مسرحياته «عطيل والخيل والبارود» و «امرؤ القيس في باريس» و «وفاوست والأميرة الصلعاء» و «الحكواتي الأخير». 
وفي نفس الإطار يتحدث خالد أمين عن صورة التواصل بين المسرح المغربي والمسرح البرشتي من خلال كتابه «مساحات الصمت» (غواية المابينية في المتخيل المسرحي) بقوله: «بالنظر إلى طبيعة الثقافة المغربية ونوعية المخاضات السياسية والثقافية التي شهدها المغرب خلال فترة السبعينيات، يمكن القول بان الكثير من المسرحيين المغاربة عثروا على ضالتهم في مفهوم التغريب البرشتي، فبرشت كان له الفضل في نحت مجموعة من النظريات البديلة في الخارطـة المسرحية المغربية والتي نلمس فيها الحضور البرشتي بقوة (مسرح النقد لمحمد مسكين، المسرح الجدلي، المسرح الثالث، المسرح الاحتفالي إلى حد ما)»»(4) 
ويلخص حسن المنيعي مراحل التفاعل بين المسرح المغربي والمسرح الغربي قائلا: «الواقع أن تراكمات المسرح المغربي منذ نشأته سنة 1932م، وإلى حدود الآن، تؤكد لنا أن الممارسة قد اعتمدت في الغالب على تجارب مسرحيته غربية بدءا بعملية الاقتباس، مرورا بعملية التشبع بمدارس ذات توجهات اجتماعية إيديولوجية رمزية، وأخرى عبثية ملحمية وتسجيلية، وصولا إلى الاسترشاد بمدارس وتقنيات تهتم بالفضاء المسرحي وعلاقته بجسد الممثل وبتكوينه الفيزيولوجي النفسي، وكذا بأبعاده الحضارية والثقافية.»(5) 
ثم يقدم لنا نموذجا من المسرح المغربي المتمثل في مسرح الصديقي الذي تواصل مع الأشكال المسرحية الغربية بفلسفاتها العديدة: «انطلاقا من المسرح اليوناني، مرورا بالمسرح الكلاسيكي، وصولا إلى المسرح الطليعي الذي لمسناه في رائعتيه «مومو بخرصة» و «في انتظار مبروك».(6) 
إن عمق الفلسفة البريشتية ومهارته في إنتاج إبداع مسرحي متميز خول له إمكانية اختراق أفق توقع المتلقي العربي، لأن الفن لا ينفصل عن الفكر ولا ينفصل أيضا عن واقع الإنسانية جمعاء. لذلك صرح برشت قائلا: «(لقد أصبح المسرح حقل نشاط للفلاسفة، أولئك الذين يسعون ليس فقط إلى توضيح العالم، ولكن إلى تغييره أيضا).»(7) 
ويعلق عبد الكريم برشيد على فلسفة برشت بالتأكيد على أن «المسرح ليس فرجة فقط، وإنما هو بالأساس فلسفة، فلسفة لتفسير العالم أولا، ولتغييره ثانيا. 
وتفسير العالم وتغييره، مهمتان صعبتان بلا شك، الشيء الذي يكشف عن خطورة هذا الفن الذي يسمى المسرح. 
وأن قياس المسرح المغربي –كفن يفسر ويغير- قياس قوته وفعاليته، لا يمكن أن تتم إلا من خلال عمليتين أساسيتين: 
- مقارنة هذا المسرح – كما هو كائن، هنا والآن- بما كان يجب أن يكون، أو بما هو كائن هناك.
- مقارنة هذا المسرح- كفن وعلم وصناعة- بالواقع التاريخي والحضاري للإنسان المغربي والعربي، ثم التساؤل بعد ذلك، إن كان هذا المسرح في مستو ى اللحظة التاريخية الراهنة؟ أو أكبر منها؟ أو أقل؟»(8) 
إن فلسفة المسرح الغربي تمكنت من أن تحفز المسرحي العربي على أن يجد ذاته من خلال الآخر، وأن يضع أسسا لفلسفة المسرح العربي، لأن التفاعل العلمي والثقافي والفكري لا يمكنه التطور والازدهار في عالم منغلق ومتقوقع، وهذا لا يعني الانمحاء بل ازدواجية التواصل بين المكون الداخلي والخارجي يغني التجربة الإبداعية، ويكسبها تنوعا افرز لنا المسرح الاحتفالي والطليعي والتجريبي والملحمي. وكلها حسب رأي فرحان بلابل متفرعة عن نهج واحد هو (تغيير ترتيب أركان الدراما). [...] وينبه على أنه يكفي أن يتذكر القارئ نصوص سعد الله ونوس ورياض عصمت وعلي عقله عرسان وممدوح عدوان ووليد إخلاصي وعبد الفتاح قلعجي وغيرهم من كتاب مصر، وأن يتذكر نصوص عز الدين المدني في تونس وعبد الكريم برشيد في المغرب وغيرهما من كتاب المغرب العربي(9) 
ويؤكد أيضا السعيد الورقي أن «النجاح الذي حققه المسرحان الملحمي والتجريدي كان له تأثيره على المسرح العربي خاصة منذ ستينيات الازدهار.»(10) وينفي بول شاول الخصوصية العربية عن كتابات المسرحيين العرب إذ يصرح قائلا: «وإن كانت المسرحيات مكتوبة أصلا بالعربية كمسرحيات أحمد شوقي وسعيد عقل وعبد الرحمان الشرقاوي وعزيز أباظة والفريد فرج وسعد الله ونوس ويوسف إدريس، إلا أنها، في العمق، استلهمت البنية التعبيرية الغربية في الشكل الكتابي. ولهذا، فهي، وإن كانت كتبت بالفصحى، إلا أنها امتدادات للمسرح الغربي، فأحمد شوقي وسعيد عقل وألفرد فرج مثلا، من متبعي المسرح الكلاسيكي الفرنسي والانجليزي، وسعد الله ونوس ابن الكتابة البرشتية، ويوسف إدريس غرف من بيكيت وخصوصا في «الفرافير.»(11) 
إن هذا الرأي يجعل المسرحيين العرب مجرد صدى للمسرح الغربي، ويلغي قدراتهم الإبداعية والفكرية، وإن كانوا قد تأثروا بالغرب، فهذا لا يعني أن فكرهم قد شل وأن ملكاتهم الجمالية والتخييلية قاصرة، كما أن اختيارهم لمرجعيات معينة لا يعني إلغاء لمرجعيتهم الأصلية.وإن كان الأمر كذلك فسنحكم على مسرح برشت بأنه مجرد صدى للمسرح اليابانـي والصيني يحكم أنه تشبع به، وعلى آرتو بأنه مجرد ناقل للمسرح الياباني والشرقي بصفة عامة ،وكذلك الأمر بالنسبة لآريان منوشكين ويوجينيو باربا. 
إن التفاعل الثقافي والحضاري لا يعني إلغاء للأصل، بل هو تحفيز لتطويره وخلق فلسفات تساير إيقاع التطور الذي تعرفه الإنسانية ، لبناء تواصل إيجابي مثمر.
وظهور مثل هذه الفلسفات والعلوم والنظريات الجديدة كان له أثر كبير في تحطيم معظم المعطيات الموروثة؛ ولا شك أن هذه التحولات الكبيرة في الأساليب الأدبية قد ساعد على رفع القيم الجمالية للمسرح الحديث من جانب، وإثراء الثقافة المعرفية على المستوى الإنساني من جانب آخر، في ترجمة وتجسيد المفاهيم النظرية بأطر جمالية جديدة تحقيقا لوظيفة الدراما كنشاط معرفي.(12)  
لكن يظل التعامل مع الموروث رهين بمجموعة من الاعتبارات التي نجملها في الأخذ بما هو إيجابي وترك كل ما هو سلبي وفق خصوصيات الإنسان حسب هويته وانتمائه، وأن لا نتجاهل هذه الخصوصيات أثناء تواصلنا مع الغرب ، ومادام «أن الثقافة والفنون إرث إنساني متبادل بين الشعوب والأمم، فقد كان للبيئة الفنية العربية ومنها العراقية حصة من هذا الإرث الإنساني، إسهاما في تنفيذ نشر الوعي الفني والثقافي في حدود البيئة العربية والمحلية بما يمكن التعبير عنه من خلالها،  كالواقعية[...]التي احتوت النصوص المسرحية في إطار موضوع القضية الاجتماعية، كمسرحيات يوسف العاني وطه سالم، وعادل كاظم (فكتب يوسف العاني مسرحية «إني أمك يا شاكر» وكتب طه سالم «قرندل» وكتب عادل كاظم مسرحية «الحصار». والتعبيرية في أطر سياسية واجتماعية فيما كتب جليل القيسي مسرحية «أيها المشاهد جد عنوانا لهذه المسرحية»، وكتب يوسف العاني مسرحية «الخرابة».(13) 
ومادام أن المسرح الغربي تشبع بفلسفات متعددة تنحو نحو التجريب من أجل التثوير والتطوير، فإن مجموعة من الأسئلة ستطرح نفسها بقوة وتظل المساحات البيضاء مجالا خصبا للاجتهاد والوقوف عند نقط القوة والضعف.
كما أشار تيودور أويزرمان فإن «بعض الأسئلة لا يمكن أن يجيب عليها الأشخاص الذين يطرحونها، وإنما يمكن أن يجيب عليها آخرون.»(14) 
إن المسرحيين العرب أثبتوا قدرتهم على خلق فضاء مضاعف لفلسفة المسرح الغربي، حيث تمكنوا من خلال قراءتهم لمختلف الإنتاجات الغربية أن يجيبوا عن الأسئلة والإشكاليات التي تطرحها قضية سفر النظريات المسرحية إلى البيئة العربية، وتمكنوا من أن يهيئوا مناخا خصبــا لترعرعها بشكل إيجابي ومن خلال براعتهم في التفسير والتأويل والتحليل –أي النقد البناء- وفق منهج مقارن يسمح بتجاوز حساسية الآخر، تمكنوا من نسج فضاء أرحب للحوار الفني والأدبي والحضاري، وفقا لفلسفات قد تتوافق ، أو قد تتخالف لكن تظل قاعدة أن الإختلاف لا يفسد الود، شعار الأدباء والفنانين والمفكرين في معظم أرجاء العالم،و الشاهد على ما نقول ثراء التبادل العلمي والثقافي والفني والأدبي عبر العصور والأزمان،لأنه مهما اشتدت حدة الصراع بين الأنا والأخر، فلابد من وجود وجه معاكس، يتمثل في توثيق الحوار. 
ومن رحاب المسرح يحدثنا محمد مصطفى القباج قائلا: «أكدت الأبحاث والمتابعات النقدية للنصوص والأعمال المسرحية الحداثية (بريشت- أونسكو- بيكيت...الخ) إن القضايا التي تطرحها هي من عمق الاهتمامات الفلسفية، وعلى الخصوص إشكالية اللغة وأزمة الجماليات التي تسببت في ميلاد ما أصبح يطلق عليه «المسرح المضاد» (Anti-théâtre) وإشكالية الصراع بين الأنا والآخر في منحاها الفلسفي.»(15) 
بحكم أن البعد الفلسفي كان حاضرا بقوة في الإبداعات المسرحية، بل أن المسرح كانت له القدرة على جس نبض المتلقي مع تلك الفلسفات، فإن عملية التواصل بين النص، والمنصة العرض ،وقاعة العرض أسست لفلسفة التواصل المسرحي الحر.  ومن بين مظاهر هذا التفاعل المسرحي ،  ما ورد في مقولة إسماعيل بن أصفية ، التي تضعنا أمام صورة تفاعل المتلقي العربي مع المسرح البريشتي، وتحديدا النقاد ، إذ يرى بأن: «نقاد المسرح العربي الذين تجلت في كتاباتهم تلك المقاييس النقدية المستمدة من آراء بريخت ونظريته، مثلوا ظاهرة تلقي الخطاب البريختي في النقد المسرحي، [...] كانوا جميعهم من ذوي الاتجاه اليساري، أمثال محمود أمين العالم، وأحمد عطية، ورجاء النقاش، ومحمد الشوباشي، ولويس عوض، وعبد المنعم تليمه وغيرهم، من النقاد الذين اكتفوا بالدعوى إلى اجتماعية الأدب، وضرورة الاهتمام بمشكلات المجتمع والتعبير عن قضاياه، واستجابوا للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جاءت بها ثورة 1952م.»(16)
ويؤكد إسماعيل بن صفية أيضا على أن «معظم الذين كتبوا مسرحيات ملحمية لاسيما الرواد منهم، كانوا يساريين أيضا أمثال رؤوف مسعد، نجيب سرور، ألفريد فرج، ميخائيل رومان، فأقبلوا على المسرح الملحمي لتقاطعه فكريا (باعتباره مسرحا اشتراكيا يدعوا إلى العدالة والمساواة)»( 17)  
ويربط كمال عيد بين الفلسفة الاشتراكية والتغيير الفني، إذ يرى بأن الواقعية الاشتراكية المتأثرة بالفلسفة الاشتراكية تنادي بتغيير الواقع، وعدم السكوت عليه. 
فهي لا تكتفي بالتغيير الفني، بل تنادي بالتغيير في أساس المجتمعات، وهي نفس فلسفة الكاتب الألماني برتولت برخت B.Brecht.(18) الذي تحدث عنه عدنان رشيد في مقدمة كتابة «مسرح برشت»  إذ قدم أهم المراحل التي مر منها هذا المسرح، وكيف استطاع أن يربط جسور التواصل مع المتلقي الغربي والعربي من جهة ،ومع الفلسفة الدياليكتية من جهة أخرى. وشرح علاقة برشت واهتماماته بالآداب العالمية الأخرى منذ شبابه، وكيفية تحوله إلى تبني فلسفة الديالكتيك (الجدل)، كما تناول شرح أبرز ملامح المسرح الملحمي والمسرح التعليمي، وقدمت بعض النماذج منها، كما شرح طريقة برشت في التمثيل والإخراج المسرحي التي طبقها في مسرحه (برلينرانسامبل) في برلين الديمقراطية، والذي أسسه عام 1949م بعد عودته من المنفى، وقد تتلمذ في هذا المسرح خيرة المخرجين والممثلين في أوروبا وألمانيا، وبعض المخرجين العرب وغيرهم حتى وفاة برشت في (أغسطس عام 1906).(19)  
ويؤسس لبداية تواصل المسرح العربي بالمسرح البرشتي بأوائل الستينات، حيث تم عرض مسرحياته وطبقت نظرياته وأساليبه في مسارح بغداد، والقاهرة، ودمشق، وبيروت، والكويت والأردن ودول المغرب العربي. 
ويكشف يونس الوليدي عن نموذج للتواصل المسرحي العربي بالمسرح البرشتي من خلال مسرحية بروميتيوس 91 لمحمد الكغاط، بقوله: «تأثر محمد الكغاط بمفهوم التغريب البرشتي في هذه الإرشادات المسرحية المتعلقة بتركيب الديكور وتغييره أمام الجمهور من أهم عناصر تكسير الإيهام بالواقع، وبالتالي من أهم مقومات التغريب عند بريشت.»(20) 
ويضيف قائلا: «وإذا كان الكغاط قد أشار في بداية اللوحة الثانية إلى أن ديكور بيت المحجور –أو بعبارة أخرى مع تشديد الحصار على العراق- سيصبح البيت أكثر ضيقا في اللوحة السادسة: «ينصرف بوشويكا»، يشرع مبارك في إغلاق كل منافذ الغرفة، ويمكن تضييق ديكور بيت المحجور إلى أقصى حدود ممكنة».»(21)  
واهتمام  محمد الكغاط  بأسطورة بروميثيوس يرجع إلى ما تتضمنه من قيم فلسفية متمثلة في البحث عن الحرية والخلاص من القيود، وفضح مظاهر الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان، علما أن مسرحية بروميثيوس 91 كتبت بعد قيام حرب الخليج، وتواصل المسرحيين العرب مع الأساطير اليونانية، كان من أجل ترسيخ فلسفتهم الذاتية تجاه واقعهم المعيش وتطلعاتهم لمستقبل أفضل، متأثرين برواد المسرح الغربي الحديث ،الذين أعادوا قراءتهم في المسرح اليوناني وقدموه في شكل تجريبي يتوافـق وفلسفتهـم في الإبداع والتفاعـل مع واقعهم، ونذكر من بينهم ألبيركامو، الذي يحدثنا عنه حنا عبود في كتابه «الدوائر المغلقة» قائلا: «فإذا نظرنا في الأساطير اليونانية، برزت أسطورة سيزيف التي كانت محور فلسفة ألبيركامو في العبث، كما كانت أسطورة بروميتيوس محور فلسفته في التمرد.»(22) 
واستطاع المسرح البرشتي أن يزود المسرحيين العرب بآليات تمكنهم من تقديم المسرحيات الأسطورية في قالب حداثي مغاير للفرجة الكلاسيكية والمتجسدة في تكسير الإيهام.ولم تقتصر إبداعات المسرحيين العرب المتأثرين بالمسرح البرشتي على الأسطورة فحسب، بل عرفت تنوعا وتعددا بتعدد القضايا السياسية والاجتماعية، ففي «مجلة المسرح خلال الستينيات كتب عدد من الكتاب المسرحيين في مصر مسرحيات تنتمي إلى الدراما الملحمية بدرجات مختلفة، والمسرحيات هي (لومومبا)أو(القناع) و(الخنجر) لرؤوف مسعد، كتبت عام 1965م،(اتفرج يا سلام) لرشاد رشدي، عرضت عام 1965م،(النفق) لرؤوف مسعد كتبت عام1966،(آه يا ليل يا قمر) لنجيب سرور عرضت عام 1967.(الزير سالم) لألفريد فرج عرضت عام1967،(بلدي يا بلدي) لرشاد رشدي، عرضت عام1968،(ليلة مصرع جيفارا) لميخائيل رومان، عرضت عام 1969»(23)  
إن تشبع المسرحيين العرب بالفلسفات الغربية، واجتهادهم في اختراق أفق المتلقي العربي، دفعهم إلى التسليم بالجوانب الإيجابية المطلقة لتلك النظريات دون الالتفات إلى سلبياتها، لان التفاعل مع الآخر سواء في المعسكر الشرقي أو الغربي والمغاربي، يقتضي بذل مجهود في تحليل الفلسفات المطروحة، والأخذ بالجوانب الإيجابية ومراعاة المجتمع والمحيط والحضارة التي ستتغلغل بين أوصالها. غير أن الجراح التي عانى منها المثقف العربي جراء الحروب الامبريالية من الدول الغربية والهزائم المتوالية دفعتهم إلى البحث عن: 
- الفلسفات الغربية الثائرة بعد الحربين العالميتين، الأولى، والثانية ،حيث ظهر الاتجاه العقلاني مع ديكارت، والوجودي الإلحادي مع سارتر، والإلحادي مع نيتش. 
- الفلسفات التي ظهرت في المعسكر الشرقي –أي الإتحاد السوفياتي سابقا-، والتي  أفرزت لنا الفلسفة اليسارية والاشتراكية. 
- وبين هذين العالمين كان هناك مثقفون عرب و مسلمون و مغاربيون، تعاملوا مع كلا الثقافتين لكنهم لم يطمسوا هويتهم وأصالتهم، واقتنعوا بأن التخلي عن مبادئ الإسلام كان سببا رئيسيا في تراجع الأمة العربية الإسلامية.
كما يصرح رينيه جرار René Girard في كتابه «العنف والمقدس» بأن: «وجود الفكر الديني في بدايات كل مجتمع بشري من الأساسيات والتي لا تقبل الشك. وقد يكون الموضوع الديني هو الوحيد، بين المؤسسات الاجتماعية، الذي لم يستطع العلم معرفة موضوعه الحقيقي، أو وظيفته الصحيحة، ونحن نؤكد أن الموضوع الديني وهدفه اوالية الضحية البديلة. ووظيفته تأمين استمرار وتجديد آثار هذه العملية أي أن يبقى العنف خارج المجتمع»(24).
ورغم تفاعل المثقفين العرب والمسلمين ومن بينهم المسرحيون بالفلسفات الغربية، إلا أنهم أدركوا أن الحضارة العربية الإسلامية غنية وقادرة على تجاوز أزماتها بالاجتهاد البناء والهادف، القادر على أن يترك بصمات الأصالة والحداثة في إبداعاته.
الأمر الذي حفز المسرحيين العرب للنهل من الرصيد الثقافي التراثي والحضاري، إذ ألف صلاح عبد الصبور مسرحية «مأساة الحلاج» المتشبعة بالفلسفة الدينية للمتصوفة في نموذج الحلاج، وتوفيق الحكيم بمسرحيته «أهل الكهف» التي يحدثنا عنها عبد الكريم برشيد قائلا:» لقد عاد توفيق الحكيم إلى القرآن الكريم واتخذ من آياته المتعلقة بأهل الكهف خيوطا نسج بها مسرحيته (أهل الكهف) ويقول صلاح عبد الصبور عن هذه الآيات القرآنية «إن معظم مشاهدها تتبع أسلوب الحوار.»(25) 
إن المسرحيين العرب والمسلمين أدركوا أن هدفهم يتمثل في التواصلهم مع الفكر والفن الأجنبي تواصل إيجابي قادر على الإنتاج، وأن لا يقتصروا فقط على الاستهلاك. وعلى حد تعبير محمد مصطفى القباج: «لسنا في حاجة إلى أن نستمر في تناول الموضوعات التي تتضمنها الأعمال والنصوص المسرحية، فليس هناك أي موضوع فلسفي لم يجد المسرح منفذا إليه أو ذريعة لمعالجته لا كنشاط تخيلي محض، ولكن كمشروع كاشف لوضع تاريخي في الزمان والمكان، وتوجه استشرافي كما ينبغي أن يكون عليه فعل أو حياة أو فكر أو كيان.»(26) 
أسهم عمق القضايا الفلسفية في المسرح الغربي على تعميق الرؤية لدى المسرحيين العرب ودفعهم إلى طرح إشكاليات تنبع من عمق الحضارة العربية الإسلامية، مما حول تواصلهم مع الآخر:
 j من        - مرحلة الاستهلاك. 
j إلى        - مرحلة الإنتاج.  
الأمر الذي يضعنا أمام فلسفة تواصلية مسرحية متداخلة بين حضارتين بدرجات متفاوتة: 
الفلسفة والمسرح الغربي        لفلسفة والمسرح العربي 
المستوى الأول: الإرسال                                التلقـي. 
المستوى الثاني: التلقي                                  الإرسال. 
يظل التواصل بين المسرحيين العرب والغربيين مشروطا بعملية الإرسال والتلقي التي تعرف قوة في المستوى الأول وتذبذبا في المستوى الثاني. 
ويعكس لنا المخرج المسرحي الألماني عزيز أحمد بيتر كرويش صورة معكوسة للتواصل بين المسرح الغربي والمسرح العربي، إذ استطاع أن يقدم مسرحية عربية للجمهور الألماني، واخترق أفق توقعه، وجعله يتجاوب معها تجاوبا إيجابيا، والمسرحية لألفريد فرج ترجمها للألمانية ناجي نجيب وعنونها «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، كتبت عام 1968م، وهي تحكي عن «التبريزي» المفلس وتابعه قفة. 
ويحدثنا المؤلف عن مسرحيته قائلا: «وقد شاهدت «التبريزي» المفلس قبل أن أكتب يدعو «قفة» إلى مائدته الوهمية، بجد لا على سبيل المزاح... ثم يسافر الاثنان إلى مدينة على حدود الصين فلا يجدان مفرا من الزعم بأنهما أغنياء، وأن القافلة للتبريزي تتبعهما وتحمل ثروات فوق ما يتصور الذهن... قد حملها التبريزي خلفه، نفقة لسياحته هو وخادمه، مما أغرى التجار باقراضه، والوالي بتزويجه ابنته... وكل مال وصل إلى أيدي التبريزي تصدق به على الفقراء... والفقراء أصبحوا صناعا وحرفيين وتجارا... والقافلة لا تأتي بعد...»(28)  
ويكشف ألفريد فرج عن فلسفته في تأليف مسرحيته بقوله: «سيرة القافلة في الواقع لم يبتدعها التبريزي أوقفة، وإنما شاركه في ابتداعها كل من صدق التبريزي وقفة. ولكل إنسان خياله الخاص ورغبته الكامنة في إيهام النفس والغير باقتدار بوجود غير الموجود.»(29) 
أما المخرج عزيز أحمد بيتر كرويش فيقدم لنا فلسفته في تواصله مع مسرحية «على جناح التبريزي وتابعه قفة» من خلال حواره لمذيعة تلفزيونية حيث يصرح بأن: «كل ممثل سألني ما هي القافلة.. وكنت أجيبه، إن القافلة هي السلام العالمي، هي حرية الإنسان، هي الطعام والكرامة، وإذا كنت تؤمن بالغد، فأنت تعرف أن القافلة في الطريق...مع التبريزي، مع الأميرة، ومع قفة آخر الأمر، ومع كل المدينة[...]، ولما اعترف قفة لهم بعدم وجود القافلة حزنوا... ثم عادوا يصدقون ويفرحون.»(30)  
وتزداد فلسفته عمقا حين تطلب منه المذيعة أن يوجه خطابه للمتفرجين، إذ يبادر قائلا: «أريد أن أقول لهم، ها أنتم تتأملون وأنتم تضحكون، ها أنتم تضحكون وأنتم تتأملون، فهل رأيتم كيف يمكن أن يكون المسرح مفكرا وممتعا في الأدب العربي»(31) 
يظهر تواصل عزيز أحمد بيتر كرويش عمقا فلسفيا، تكون لديه من المزج بين ثقافتين غربية وعربية وإسلامية ،خولت له أن يقدم أعمال مسرحية ناجحة قادرة على اختراق أفق توقع المتلقي الغربي، وعلى حد تعبير يوسف سايفرت Josef Siefert فإن الفلسفة الغربية عاجزة عن تغذية طموحات المثقف العربي. إذ يصرح قائلا: «فعندما نتذكر أن معتنقي الإسلام لم يجدوا في الفلسفة الغربية ضالتهم، لأن الأسس التي تنبني عليها هذه الفلسفة بعيدة كل البعد عن الأسس الأخلاقية والروحية التي ينبني عليها الإسلام من جهة، ولأن هذه الفلسفة تعمل على إقبار أسس عقيدتهم وأخلاقهم من جهة أخرى. وعندما نتذكر كذلك أن النسق المفاهيمي الغربي لم يعمل على إيجاد أية نقطة الالتقاء بالمسلمين، فإننا نفهم بالطبع أن أسس الحوار بين الفلاسفة الغربيين والفلاسفة المسلمين لم تكتمل، أو لم تقم بعد.»(32)   
أدرك المسرحيون العرب خطورة الانصهار في حضارة مغايرة عنهم، واهتموا بالبحث عن قوالب عربية للمسرح العربي، وكان توفيق الحكيم من أهم المسرحيين العرب الذين استفادوا من النظريات الغربية، دون طمس المعالم العربية و الإسلامية، «وتعتمد فلسفته [...] على الإيمان بقصور العقل والاتجاه نحو الروحيات التي تجري في حياة الشرقيين وأعماق نفوسهم.(33)
غير أنه لم يقص الفلسفات الوجودية التي تشبع بها المسرح العبثي من أعماله، بحكم أن الاستفادة من الجوانب الإيجابية للإبداعات الغربية، لا يعني إقصاء للفلسفة العربية الإسلامية. «وقد أخذ هذا الاتجاه يعرف طريقه إلى العالم العربي بعد أن لفت إليه الأنظار توفيق الحكيم، عندما قدم مسرحية «الطعام لكل فم» ومسرحية «يا طالع الشجرة» وكتب لمسرحيته الثانية مقدمة حاول فيها أن يشرح مفهوم اللامعقول.»(34) 
إن التأمل في المسرح الغربي وفي فلسفاته زود المسرحيين العرب بالآليات التي خولت لهم التواصل مع المتلقي العربي أولا، ثم المتلقي الأجنبي ثانيا، وأدركوا أن قيمة إبداعهم لن تصل ذروتها إلا عن طريق ربط العلاقة بين الفلسفة والمسرح، فبحكم أن «العلاقة بين الفلسفـة والمسرح علاقة تبادل وتداخل. ومرد ذلك إلى أن المسرح إنتاج مركب، فهو لغوي ومعرفي وأدبي وتقني، ويشكل موضوعا للتفلسف بقدر ما يتناوله هو نفسه من موضوعات تمت إلى الفلسفة بصلة وثيقة»(35)
ويقدم سعد الله ونوس رؤيته الفلسفية العميقة تجاه الآخر والذي كانت ثمرة للتأمل عن قرب في التجارب المسرحية الغربية، إذ يخبرنا بأنه «لن يقول بان هناك تعارضا جذريا بين المسرح بمفهومه الأوروبي وبين هوية الثقافة العربية.[...]ولكن سينطلق من التساؤل التالي: 
هل هناك حقا مفهوم أوروبي عن المسرح؟.
ليخلص إلى أنه لا يمكننا أن نجد روابط حقيقية بين مسرح «الكوميديا فرانسير»، و «مسرح الشمس». وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن مفهوم أوروبي للمسرح، لأنه لا يمكن أن نضع آرتو وبيسكاتور، وبرشت، وغور دون كريغ، وغروتوفسكي والليفينغ تياترو ... و ... في نفس السلة؟[...]  ليخلص في النهاية إلى أن الواحد المتجانس، ليس واحدا أو متجانسا.(36)   
ويضيف قائلا: «لقد استوردنا مسرحا جاهزا وميتا، وغرسناه في بلادنا، وكانت لدينا سذاجة الاعتقاد بأن الشكل ليس إلا وعاء محايدا ومرنا يمكننا أن نضع فيه المحتوى الذي يتلاءم مع حاجاتنا وقضايانا. [...] وفي هذه الخدعة، ضيعنا، ومازلنا نضيع الكثير من الجهد والوقت دون الوصول إلى «مسرحنا». إن الشكل في المسرح، وخاصة في المسرح يفترض المضمون دائما، أو بتعبير أدق الموقف الفكري من الإنسان في سياق حركة التاريخ، بحيث أن كل تغيير في هذا الموقف – المضمون لابد أن يستتبع تغيرا في الشكل.»(37)  
وفي نفس السياق يحدثنا  عبد الرحمن بن زيدان الذي يرى بأن رفع الكفاءة الفكرية في التعرف على الآداب العالمية من حولنا، أمر حتمي وضروري تمليه طبيعة الغرب بخصوصياته الفلسفية والنفسية، والاقتصادية، وتفرضه –بالمقابل- خصوصيات الوطن العربي. إلا أن الأمر يحتاج إلى تحديد الموقف من المؤثرات الأجنبية، اقتباسا كانت، أو نقلا، أو موضوعا للسؤال النقدي المسرحي العربي، وهو يريد أن يكون منفتحا على التيارات المسرحية العالمية للتعامل مع أشكالها وتجاربها وأبعادها وخطاباتها الإنسانية.(38)
إن إهمال المزج بين المضمون والشكل في المسرح العربي وغياب الكفاءة في التواصل مع المسرح الغربي يولد قصورا ذاتيا يدفع بالبعض على حد تعبير نهاد صليحة «إلى استعارة تقنيات المسرح التجريبي الغربي التي تتطلب مهارات ليست متاحة للمؤدين العرب، وتقليد أساليب تدريب الممثل الغربية، في جانبها الجسدي والعملي، دون الاهتمام بجوانبها الروحية والنفسية، وأسسها الفكرية، فقلد البعض منهج جروتوفسكي، والبعض الآخر منهج بريخت، أو غيره، وكان التقليد في كل الحالات خارجيا صرفا.»(39) 
ويتطرق أيضا عبد القادر القط إلى الفروق بين المسرح الغربي والمسرح العربي ومدى تأثيرها على التواصل بين الثقافتين وقدم مسرح العبث كنموذج، إذ يرى أن «هذا الاتجاه لم يصادف نجاحا عند رواد المسرح العربي لأنه يعكس حاجات فنية ونفسية لبيئة تختلف جوهريا عن الوطن الغربي.[...] كما جاء تعبيرا عن ضيق الغربيين بحضارة تبدو لهم ثقيلة الوطء على وجدان الإنسان وذاتيته إذ صبته في «قالب» من الأوضاع الاجتماعية والمادية الصارمة،[...].»(40)
ويخلص إلى أن المجتمع العربي مازال يحاول أن يبني حضارته من جديد، ومازال أمام الإنسان فيه ألوان كثيرة من الطموح الواقعي الذي ينبغي أن يحققه، وما زالت مشكلاته وقضاياه واضحة محددة تدعو إلى شكل فني يلائم طبيعة تلك المشكلات.»(41)
وكما سبق وأشرنا، فإن معظم رواد المسرح العربي قد تشبعوا بالفكر الوجودي،على مستوى الشكل والمضمون في إبداعاتهم، محاولة منهم للبحث عن حلول للفشل الذي شل مجتمعاتهم. ونذكر من بينهم سعد الله ونوس الذي عكس هذا الاتجاه في مسرحياته، وتحديدا في الفترة الزمنية المحددة بسنة 1963م إلى 1965م متأثرا بكل من «سارتر» و «كامو»، وبحكم أن «رواد هذا الاتجاه قد عمدوا إلى استخدام أدوات مسرحية جديدة من خلال التهويل والتضخيم والمبالغة في رسم المناظر والشخصيات، كما استخدموا أسلوب المسرح داخل المسرح، على نهج الكاتب الإيطالي «لويجي بيراند يللو»، وعمدوا إلى التجريد والبعد عن محاكاة الواقع في صورته الخارجية، واتجهوا إلى البحث عن صورة الواقع في دخيلة النفس الإنسانية، وفيما تنطوي عليه أشكال الحياة، وسلوك الناس من حقائق كامنة تحت الحياة الظاهرية»(42)  
إن سعد الله ونوس قد اختار الاتجاه العبثي ليطرح من خلاله القضايا الشائكة والحساسة للأمة العربية والإسلامية، وكتب في هذا الإطار تسع مسرحيات هي: 
1- ميدوز تحدق في الحياة سنة 1962م. 
2- مأساة بائع الدبس الفقير سنة 1963م. 
3- الرسول المجهول في مأتم انتيجونا سنة 1963. 
4- فصد الدم سنة 1963م. 
5- جثة على الرصيف 1965م. 
6- الجراد سنة 1965م.
7- المقهى الزجاجي سنة 1965م. 
8- لعبة الدبابيس سنة 1965م. 
9- عندما يلعب الرجال سنة 1965م.(43)
وبالنسبة لعبد الواحد عوزري فإن الجيل المتأثر بالتيارات الغربية الحديثة وتحديدا في المغرب يعتبره جيل الرفض، إذ يصرح بأن «هذا الجيل الجديد الذي يقدم نفسه باعتباره جيلا بلا شيخ، ويعتمد فقط على روحه اليقظة، سوف لن يعترف بالنموذج المقدم والمبجل منذ استقلال البلاد، فهو قبل كل شيء جيل رفض ومواجهة.»(44) 
ثم يضيف قائلا: «ولأن رواد هذا الجيل الجديد جاءوا إلى المسرح، على العموم، من الجامعة فإنهم سيبحثون عن مصادر الإلهام المسرحي في منابعها... وسيرفض هذا الجيل اقتباس كوميديا موليير ويتجه نحو ريبيرتوار آخر يمثله كل من بيرتولد بريخت، وهارولد بينتر، وبيترفايس، وجان جوني، ولويجي بيرانديللو وأوغوست ستريندبيرغ، وصامويل بيكيت... أما المناقشات حول الإخراج فإنها ستتجه نحو عمل كل من كروتوفسكي، وبسكاتور والمسرح الحي... وكل ذلك سيؤدي حتما إلى ظهور كتابة مسرحية جديدة.»(45)
وفي المقابل نجد عقيل مهدي يوسف يعطي تصورا عن التواصل المشوه مع المسرح الغربي، إذ يعتبر أن مسرح اللامعقول أصبح من كلاسيكيات الدراما العالمية وينبه الشباب إلى أن اعتقادهم خاطئ فيما يتعلق بأن كل (جديد) هو (اللا معقول) ويضيف قائلا: «أو إن شئنا الدقة أكثر أنهم يعتبرونها الأساليب الوحيدة المعبرة عن الجديد المبتكر! لذلك يتفقون على صيغ ومعالجات تكاد تكون مكررة ومستنسخة إحداهما عن الأخرى... في كل كتاباتهم وعروضهم (مثل غموض الأفكار وتعثر بناء الجمل والصراخ الهستيري، والضحك الآني، واستخدام الصليب كرمز عن معاناة الإنسان وانسحاقه، ودوران المجموعة في متاهات الظلام، وهي تهذي في سيولة عالم مجنون، والغوص تحت ركام الأشياء من أثاث وملابس وأحذية وأنقاض.»(46)
ويذهب إلى أن الواقعية أكثر قدرة على تحقيق تواصل إيجابي في الوطن العربي الإسلامي ويقدم مسرح شكسبير كنموذج، ويستدل على قوله بأنه مسرح لا يخلو من الألغاز والأشباح والفلسفة السايكولوجية، وكذلك مسرح ستانسلا فسكي الذي يتوفر على طاقة إبداعية متميزة تتمثل في تكسير الجدار الرابع الوهمي واستخدام اليوجا والارتجال وتحريك جدران الديكور واستخدام تقنيات تظهر الشموع وهي تطير في الهواء وأشباحا تتراقص. 
ومع محمد نور الدين أفاية نجد أنفسنا أمام صورة أخرى من صور التواصل مع المسرح الغربي تظهر الجوانب الشائكة والحساسة والتي تتحدد في كون الغرب ليس وحده كلية ثابتة، فهو فضاء متعدد، تأسس، منذ بداياته الحديثة، على الاختلاف والتوتر والصراع. لذلك فإن سؤال الغرب بالنسبة للمثقف العربي كان دائما مصدر دهشة وحيرة وانفصال، فهو تارة تجسيد للعقل وتقدم للنزعة الإنسانية، وتارة أخرى قوة مسيطرة تعرقل نهضة الآخرين وتتحول إلى عنف وحشي وتدخل غاشم. إنه غرب الإخاء والمساواة وحقوق الإنسان، وغرب العدوان واللاتكافؤ والاحتقار والاستعمار.[...] لذلك نجد كتابات ومواقف فكرية من صميم هذا الغرب تدعو إلى نقده وتفكيك مقولاته وخلخلة نزعته المتمركزة حول العقل أو حول الغرب.(47) 
وإذا كان جون بيير مايكل Jean Pierre Miquel يرى أثناء حديثه عن طبيعة المسرح بأنه من الحماقة أن نعالج المسرح كما لو أنه عالمي يحكم أن الممثل يحمل بطبيعة الحال ثقافته الخاصة، وفقط داخل إطار ثقافته يمكن أن يحمل إلينا شيئا ما. وإلا سيحاكي ممثلين آخرين، يمثلون ثقافتهم الخاصة.(48) فإننا  يجب أن نراعي هذه الخصوصية، وأن نبحث عن الأبعاد الفلسفية داخل ثقافتنا وحضارتنا لندعم بها قضايانا الأدبية والفنية. 
ويضعنا أنتونين أرتو Antonin Artaud أمام قضية مهمة أيضا يجب أن ننتبه إليها أثناء تواصلنا مع الآخر، والتي نستخلصها من قوله: «نفهم أن هذه الأنتروبولوجيا المدخرة إلى التوق للماضي، يمكن أن تسخر المسرح مسكونا بالنوع البدائي والعودة إلى الأصول، متطلعا نحو الخارج ونحو الآخر كمحاولة لإيجاد دواء لأزمة الأشكال المسرحية التي هي في نفس الوقت مدركة كأزمة لكل الثقافة الغربية.»(49)  
إذن مادام الآخر يبحث عن حل لأزمته لدينا،ولدى المجتمعات الشرقية بصفة عامة التي تتوفر على طاقة روحية تفتقر إليها المجتمعات الغربية. فلا بد أن ندرك أننا يجب أن نجتهد في تفجير الطاقات الروحية والفكرية والجمالية الكامنة لدينا، وأن نبحث بدورنا لدى الآخر عن ما  يحقق لنا تميزنا وخصوصيتنا، دون أن ننصهر في القوالب الجاهزة. 

الهوامش
(1) إدوارد سعيد، عندما تسافر النظرية، مجلة بيت الحكمة، دار قرطبة للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، العدد الثاني، السنة الأولى، يوليوز 1986م، ص 139، 140. 
(2) عبد الواحد عوزري، المسرح في المغرب ،اتجاهات وبنيات، ترجمة عبد الكريم الامراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1998م، ص 219. 
(3) محمد بهجاجي، ظلال النص ،قرارات في المسرح المغربي، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى، 1991م، ص 62. 
(4) خالد أمين ،مساحات الصمت، غواية المابينية في المتخيل المسرحي، تقديم د.حسن المنيعي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى، 2004م، ص 30. 
(5) حسن المنيعي، المسرح... مرة أخرى، سلسلة شراع دار النشر المغربية، العدد التاسع والأربعون، 1999م، ص 54.
(6) نفسه، ص 56. 
(7) عبد الكريم  برشيد، الأزمة في المسرح المغربي أساسية أم  انعكاسية؟ مجلة البعث الثقافية، الطبعة الوطنية، العدد الثاني، أكتوبر 1980م، ص 7. 
(8) نفسه، ص 7-8. 
(9) فرحان بلبل، النص المسرحي الكلمة والفعل، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص 19-20. 
(10) السعيد الورقي، تطور البناء الفني في أدب المسرح العربي المعاصر (في مصر)، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية، 1990م، ص 267-268.  
(11) بول شاوول، المسرح العربي الحديث (1976-1989)، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1989م، ص 25
(12) فؤاد علي خارز الصالحي، دراسات في المسرح، دار الكندي للنشر والتوزيع، أربد، الأردن، الطبعة الأولى 1999م، ص 83. 
(13) نفسه، ص 85-86. 
(14) تيودور أويزرمان، تطور الفكر الفلسفي، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، 1988م، ص
(15) محمد مصطفى القباج، من قضايا الإبداع المسرحي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1420هـ 2000م، ص 25.
(16) إسماعيل بن اصفية، أثر بريخت في الخطاب النقدي المسرحي العربي، النادي الأدبي الثقافي، جدة، علامات ج 53، م 14، رجب 1425هـ - سبتمبر 2004م، ص 621. 
(17) نفسه، ص 621. 
(18) كمال عيد، فلسفة الأدب والفن، (بتصرف)، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس 1398هـ - 1978م، ص 322، 323. (19) عدنان رشيد: مسرح العبث، دار النهضة العربية، بيروت، 1451هـ - 1988م. ص 7-8. 
(20)  يونس الوليدي، الميثولوجيا الإغريقية في المسرح العربي المعاصر، مطبعة أنفوبراتن الليدو، فاس، الطبعة الأولى، سنة 1998م. ص 220
(21) نفسه، ص 220
(22) حنا عبود، مسرح الدوائر المغلقة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سنة 1978م، ص 145 
(23) حياة جاسم محمد، الدراما الملحمية في مصر، عالم الفكر، م الخامس عشر، ع الأول، سنة 1984م، ص 84
(24) محمد مصطفى القباج، من قضايا الإبداع المسرحي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1420هـ 2000م، ص 17. 
(25) سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، سنة 1978م، ص 93-94. 
(26) نفسه، ص 94-95. 
(27)  عبد الرحمن بن زيدان، خطاب التجريب في المسرح العربي، مطبعة سيندي، مكناس، الطبعة الأولى 1997م، ص 16
(28) حياة جاسم محمد، الدراما الملحمية في مصر، عالم الفكر، م الخامس عشر، ع الأول، سنة 1984م، ص 84. 
 (29) رينيه جيرار، العنف والمقدس، ترجمة ،جهاد هواش وعبد الهادي عباس، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق الطبعة الأولى. سنة 1991م، ص 118. 
(30) عبد الكريم برشيد، حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى. سنة 1985م، ص 49-50. 
(31) محمد مصطفى القباج ، من قضايا الإبداع المسرحي، مطبعة النجاح الجديد، الطبعة الأولى 1420هـ - 2000م، ص 24
(32) ألفريد فرج، أضواء المسرح، دار الهلال، سنة 1989م، ص 283. 
(33) نفسه، ص 283-284. 
(34) نفسه، ص 285.
(35) نفسه، ص 285. 
(36) يوسف سايفرت، تفاعل الحضارات، دور الفينومينولجيا الواقعية في حوار الحضارات والديانات. ترجمة وتقديم: حميد لشهب، دعم من طرف الأكاديمية العالمية للفلسفة إمارة الليكتنشطاين، الرباط، 2004م، ص 47. 
(37) شوقي ضيف ،الأدب العربي المعاصر في مصر، دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة، 1961م ص 216. 
(38) حنا عبـود، مسرح الدوائر المغلقة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978م، ص143 
(39) نهاد صليحة، المسرح بين الفن والحياة، مطابع الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 2000م، ص 16. 
(40) عبد القادر القط، من فنون الأدب المسرحية، دار النهضة العربية، 1978م، ص 307. 
(41) نفسه، ص 307. 
(42) خالد عبد اللطيف رمضان ،مسرح سعد الله ونوس ،دراسة فنية، الكويت، 1984م، ص 33، 34.. 
(43) نفسه، ص 35. 
(44) عبد الواحد عوزري ،مرجع سابق، ص 218. 
(45) نفسه، ص 219. 
(46) عقيل مهدي يوسف، متعة المسرح ،دراسة في علوم المسرح نظريا وتطبيقيا، دار الكندي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة 2001م، ص 47. 
(47) محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل ،مفارقات العرب والغرب، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الاولى، سنة 1414هـ - 1993م. ص 92. 
(48) Jean-Pierre Miquel , le théâtre et les jours, Flammarion, 1986, p 42. 
(49)            Monique Borie et Antonin Artaud ,Le retour aux sources,
 Editions Gallimard, 1989, p 12.  

------------------------------------------------
 المصدر : مجلة نزوى 

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption