المسرح العراقي نحت كيانه خلال مئة عام
مجلة الفنون المسرحية
المسرح العراقي نحت كيانه خلال مئة عام
علي لفته سعيد - العرب
المسرح من أقدم الفنون البشرية ولا أحد ينكر دوره البارز في إحداث التغيير سواء الآني في نفوس وذائقة الجمهور أو التأثير اللاحق في النظم الفكرية وحتى السياسية. لكن هذا الفن العريق وفد متأخرا إلى العرب، ورغم البدايات الصعبة والبسيطة تمكن العرب من تأسيس عدة مسارح من المشرق إلى المغرب مبدعين أعمالا مميزة ألحقتهم بركب المسرح العالمي.
تمر هذه الأيام الذكرى المئوية الأولى لولادة المسرح في كربلاء التي تعد واحدة من المدن المقدسة في العالم والتي شهدت في عام 1917 عرض أول مسرحية كانت عن واقعة الطف وهي تخرج من عباءة المواكب الحسينية إلى فضاء العرض المسرحي متأثرة بالثورة البلشفية في روسيا في عام 1917 وهو ما يعني أن المسرح في هذه المدينة تأسس قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921.
ويقول الباحث المسرحي العراقي عبدالرزاق عبدالكريم الخفاجي إن جميع المؤرخين من أهالي المدينة ومن بينهم السيد إبراهيم والسيد شمس الدين القزويني ذكروا معلومة مفادها أنه قبل سنة 1917 من القرن الماضي كان هناك مسرح أقامه الحاج نور آل عويد، وقد كانت له فرقة مسرحية تقدم عروضا مسرحية اجتماعية ودينية، خاصة أيام عاشوراء والمعروفة بواقعة الطف الخالدة ذكرى استشهاد الإمام الحسين. والعروض التي كانت تقدم حينها رغم بساطتها فقد اكتست بصفات مسرحية.
البساطة المبكرة
لم تكن العروض المسرحية في تلك السنوات التي سبقت تأسيس الدولة العراقية فقط مهتمة بواقعة الطف بل قدمتها عروض مسرحية متنوعة أخرى، كانت تقدمها طوال أيام السنة وفي مناسبات عديدة.
يقول الخفاجي إن تلك العروض كانت متأثرة بالأجواء الاجتماعية والسياسية المحلية والعربية والعالمية وكانت المسرحيات التي تعرض تتضمن شعارات تحررية ضد الحكم العثماني، كما كانت متأثرة بشكل جلي وواضح بالثورات التحررية في العالم في تلك الحقبة، ومنها الثورة الروسية في عام 1917.
العروض المسرحية كانت بسيطة وتفتقر إلى الكثير من مقومات المسرح كما نعرفه اليوم لكنها كانت مهمة ومؤثرة
وبين الباحث أنه كانت هناك فرقة مسرحية وفرقة أخرى للعزف، وهي فرقة كشفية تعزف على الطبول والنقارة، تجوب شوارع مدينة كربلاء وتحفز المواطنين على الثورة ضد الحكم العثماني وتحث الناس على مشاهدة العروض المسرحية التي تقام في بستان الحاج نور آل عويد الكائن خلف المخيم الحسيني الحالي.
ويؤكد الخفاجي أيضا أن ذلك الظهور في مطلع القرن الماضي عقبه ظهور مجاميع وفرق شعبية وأشخاص قدموا أعمالا كثيرة سواء كانت كوميدية أو تراجيدية أو تاريخية وحتى دينية، وإن كانت بتنظيم متواضع. فكان هذا المسرح يشهد حصول تقليد ممارسات وأصوات الشخصيات المعروفة في المدينة وكانت تتم بطريقة عفوية أي من دون نص مكتوب، وإنما نص شفاهي يمليه الأكثر خبرة في المجموعة، كما تكون له عملية التمثيل الرئيسية والإخراج حسبما هو متبع اليوم، علما وأن الأعمال التي كانت تقدم تحتوي على فكرة اجتماعية أو تاريخية ولكن بشكل بسيط.
الظهور المبكر للمسرح في العراق شهد في بعض أوجهه ذلك الأداء الذي غلف طابع الممثل الكربلائي وأداءه مثل الأداء الحسيني كالمنبر الإنشادي ومحاضرات التعزية والتشابيه التي كانت تحتاج إلى الكثير من الأدوات المسرحية.
التطور المسرحي
يقول الخفاجي إن الخطيب المنبري استبدل بالقصخون، وهي صفة مركبة من كلمتين “القصة” وتعني الحكاية و”خون” وهو راوي القصة المحترف، فصار دارجا في الكثير من المدن والمحافظات العراقية إذ هو أكثر جاذبية من حيث المتعة والإفادة والالتزام الشعوري، فهو الجاذب إلى عوالم شجية مليئة بالعواطف ولا شك أنه يمتلك الكثير من القوة المسرحية كموهبة كبيرة بحيث يطوف بخيال الجالس إلى وقائع وأحداث وقصص كثيرة.
مدينة كربلاء رغم قداستها إلا أنها مطلع القرن العشرين شهدت إقامة العديد من المهرجانات بما فيها إقامة أماس موسيقية، ولكن المسرح فيها كانت له الغلبة في شد انتباه الناس، كما أن العروض لم تكن متوجهة إلى الجانب الديني فقط، بل كانت فيها أفكار ونصوص عديدة بما فيها الجانب التربوي والاجتماعي والسياسي حتى أن المسرح أصبح له الأثر الفاعل في إطلاق سمة المحافظة المدنية على واقعها لأنه مسرح محرك ولم ينشأ من فراغ كما يقول الخفاجي، الذي يضيف أن العامل الديني كان من العوامل المهمة والأساسية لنشأة المسرح في العالم، وهو ما حدث أيضا في العراق، لكنه تحرر من تلك البدايات ليتطرق خاصة إلى الجانب السياسي لكي يلعب دورا مهما في التغيرات التي شهدها العراق في تلك الحقب سواء ما قبل تأسيس الدولة أو في زمن الحكم الملكي وما بعده في زمن الحكم الجمهوري الأول ما بعد عام 1958. لذا نرى أن الكثير من الفنانين والمؤلفين تخرجوا من المسرح الكربلائي أصبحوا نجوما في سماء الفن العراقي والعربي من أمثال عزي الوهاب وجواد الأسدي وبدري حسون فريد ونعمة أبوسبع.
المسرح العراقي تحرر من الدين وتطرق إلى الجانب السياسي لكي يلعب دورا مهما في التغيرات التي شهدها العراق
لم يتطور المسرح في كربلاء بشكل فني كبير إلا في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته حيث أخذت الأعمال تقدم على مسرح تتوفر فيه بعض الشروط الفنية كالإنارة والديكور الواقعي (الكلاسيكي) وبعض الإكسسوارات، بعد أن كانت الأعمال السابقة تقدم داخل البيوت وخلال المناسبات الاجتماعية والدينية.
يقول المؤرخ الخفاجي إن المسرح نبتة والنبتة المثمرة تحتاج إلى تربة خصبة كي تنمو، ومدينة كربلاء تعرف بخصوبتها والتي نبتت فيها عموم المعارف العلمية والدينية والثقافية وجميع أنواع الممارسات الفنية وخلال البحث ستتبين التسميات والمعاني التي توضح ماهية المدينة وبجميع مفرداتها الحياتية والروحية من تنامي هذه الحركة المسرحية في كربلاء. ويضيف أن المسرح ربما يعد أولى حلقات التطور الفني للمدينة التي رافقها بعد ذلك تطور كبير في الأجناس الثقافية الأخرى كالشعر والقصة والعلوم.
يؤكد الخفاجي أن المسرح كان منتجا وناضجا ما بعد عام 1958، رغم أنه كان ما بين الشد والجذب، ولكن في سبعينات القرن الماضي تعددت الفرق، وكانت أهمها فرقة المسرح العمالي وفرقة كربلاء الفنية وغيرها من الفرق التي ساهمت حتى في تأسيس المسرح العراقي ولكن الجميل أن المسرح العمالي تأسس من قبل 35 عاملا عام 1971 من هواة الفن المسرحي في مقر نقابات العمال العراقي ليعلنوا تشكيل فرقة المسرح العمالي ومن ذلك الاجتماع وضعت صيغة “بيت المسرح العمالي” ليأخذ هذا البيت في فتح بيوت فرعية في محافظات العراق ومنها محافظة كربلاء. وكانوا في كربلاء يقدمون العروض المسرحية بدعم ذاتي.
ويشير الباحث إلى أن أغلب الفنانين العراقيين من كربلاء تخرجوا من هذه الفرق، وقدموا العديد من العروض التي ظلت في حالة توقف واستمرار بحسب الظروف السياسية وهي، أي هذه الفرق والكلام للباحث، تحاول الآن تقديم العروض الفنية التي تنتمي للجمال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق