سامي عبد الحميد.. خمسون عاماً من الصداقة والفن الجميل / لطفية الدليمي
مجلة الفنون المسرحيةسامي عبد الحميد.. خمسون عاماً من الصداقة والفن الجميل / لطفية الدليمي
علّمني الأستاذ كيف يكون المسرح وكيف تكتب الحياة فيه
مسرحيتي ( الليالي السومرية ) وذكريات أُخَر
تجسيد الطغيان بعلامات بصرية عصرية
قبل أن أتحدث عن صداقة عمر مديد بين تجليات الفن ومنعرجات الحياة جمعتنا كعائلة بالأستاذ الكبير سامي عبدالحميد أود الإشارة إلى موقف مشهود له يضاف إلى مآثره الفكرية في الفن وسعة أفقه الثقافي ومواقفه ، وأتحدث عن المشهد الافتتاحي الصادم الذي صممه إخراجاً وسينوغرافيا مشهدية وسمعية لمسرحيتي ( الليالي السومرية ) في عرضها الثاني على مسرح قاعة الشعب ربيع 1995، تخطى الأستاذ سامي شأنه شأن العباقرة الكبار رؤيته للعرض الأول الذي قدمته الفرقة القومية للتمثيل على مسرح الرشيد ضمن العروض المسرحية المرافقة لمهرجان بابل ؛ فهو الفنان المُجدد الذي لم يكن يركن إلى صيغ ثابتة في إخراجه الملهم لأي عمل مسرحي بل كان دائماً يعيد قراءة الحياة واستنطاق النص ويطلق الطاقة الإيحائية والعلامات الدرامية و الفكرية التي تصلح لكل عصر .
كان النص مكتوباً من وجهة نظر جندرية لملحمة كلكامش : الأنوثة في مواجهة غطرسة السلطة ودور المرأة في صنع الحضارة والبحث عن لغز الموت والحياة والوجود . إرتأى الأستاذ سامي أن تقدم المسرحية بملابس شعبية معاصرة لاعلاقة لها بسومرالقديمة ، واستخدم موسيقى شعبية عراقية وجعل الصراع بين أنكيدو وكلكامش شبيهاً برقصة السيوف العراقية ( رقصة الساس ) ، وكان هذا أول التحديات التي لم ترُق للبعض ، وجعل سيدات العمل يحتفظن بمظهرن البابلي من ثياب وحلي وزينات ، وعند الإعداد للعرض الثاني في مهرجان المسرح العراقي على مسرح قاعة الشعب أسرّني الأستاذ سامي بأن لديه فكرة لديكور وإخراج المشهد الافتتاحي أشد وضوحاً وهي تنطوي على مجازفة ، وأردف قائلاً : قد لانسلم من عواقب تأويلاتها لكني سأنفذها منطلقاً من تحليلي لشخصية كلكامش ولن أفصح عنها بل ستفاجؤون بها لدى رفع الستارة . غاب الممثل الرئيس لدور كلكامش الفنان ميمون الخالدي فأدى الفنان العظيم سامي عبد الحميد الدور بقدرات تقنية جسدية وصوتية ونفسية مدهشة ومنح حضوره القوي والمؤثر زخماً هائلاً للعرض .
حين رُفع الستار رأينا أجساداً إتخذت هيأة قبور سوداء ، وقطع ملابس بيضاء ممزقة مضرجة بالدماء تتدلى بمستويات متباينة من سقف المسرح وتهبط ببطء حتى تلامس القبور ؛ فتنتفض القبور وتنهض الجوقة التي تتضرع للآلهة أن تخلق ندّاً ليقارع كلكامش المتجبر ويهزمه ، ومعها تنطلق موسيقى عراقية تراثية مع قرع الطبول واستغاثات النساء وصراخهن ، ثم تنفرد النساء بمونولوغات من إفتتاحية النص تكشف مايفعله كلكامش بمدينة أوروك وأهلها ونسائها إستناداً إلى الملحمة :
- لماذا يفعل كلكامش مايفعله بأهل أوروك .. ( إستغاثات )
- لماذا هذا الذي ثلثاه من الآلهة وثلثه من البشر ،القوي الشجاع الذي أسلحته لاتضاهى ، لماذا يتفجر عنفه ليل نهار ؟
- ألا تسمع الآلهة تشكيات أهل أوروك ؟ ألا تسمع ضراعاتهم ؟
- كلكامش الذي لم تنقطع مظالمه عن أهل أوروك ،
- كلكامش الذي لم يترك عذراء طليقة لأمها ولاولداً لأبيه ، راعينا القوي إبن الآلهة ، الذي لم يترك إبنة المقاتل ولا خطيبة البطل ، فاعتصم أبطال أوروك في بيوتهم . أيتها الآلهة أخلقي نداً يصارع كلكامش ويصرفه عن فتكه بأهل أوروك ... إلخ
إنتهى العرض الثاني للمسرحية ، وكانت الفرقة تستعد للعروض التالية لكن أمراً صدر بمنع عروض المسرحية وانتهى الأمر باغتيال المسرحية ؛ لكننا نفدنا بسلام وأتت مجازفة أستاذنا سامي عبدالحميد أُكُلَها . علمنا فيما بعد أن اتصالاً جرى مع الشاعر يوسف الصائغ لإيقاف عرض المسرحية .
سامي عبد الحميد صديقاً وفناناً ومثقفاً ملهماً
ندر أن ظهر لدينا فنان شامل يتمتع بقدرات فريدة بين فناني المسرح العراقي الكبار ، يجمع بين الشخصية المرحة المحبوبة والثقافة الرصينة والقدرة القيادية والخبرة المعمقة التي اكتسبها من تدريبه في مسرح شكسبير ودراسته في جامعة أوريغون الأميركية وبراعته في تدريس فن الإلقاء والإخراج وحنوه على طلبته وزملائه فضلاً عن كتاباته الثرية وترجماته المميزة . كنت دوماً أغبط نفسي إذا أتاح لي الحظ والظرف أن يقوم فناننا الكبير بإخراج وتمثيل أول مسرحية لي ، وكان من دواعي الفرح أن ألقاهما هو وزوجته الفنانة الكبيرة فوزية عارف في المناسبات الثقافية والعروض المسرحية وفي تبادل الزيارات العائلية بيننا .
ترقى معرفتي الشخصية بالأستاذ سامي عبد الحميد إلى مطلع الستينيّات من القرن الماضي ؛ فقد كان صديقاً لزوجي الراحل كامل العزاوي المخرج وأحد أعضاء هيئة مصلحة السينما والمسرح التي كان يرأسها الفنان الراحل يوسف العاني وتضم في عضويتها فنانين ومثقفين بارزين من بينهم - على ما أذكر - الأساتذة فؤاد التكرلي وجعفر علي وغائب طعمة فرمان وعبد الهادي المبارك وغيرهم .
ربطت بين زوجي المخرج كامل العزاوي والفنان الكبير سامي عبدالحميد صداقة ممتدة وعلاقات عمل ، وعندما تصدّى لإخراج فيلمه التأريخي الملوّن ( نبوخذنُصّر ) وقع اختياره على الأستاذ سامي عبد الحميد - وكانا في عنفوان شبابهما - لبطولة الفيلم الذي أنجزاه في نهاية الخمسينيّات من القرن الماضي ولم يُعرَض إلا في 1962 في ظروف اضطرابات سياسية عنيفة ، وبعد عرض الفيلم تواصلت لقاءاتنا ، وذات يوم زارنا مع شابة جميلة مشرقة قدّمها لنا : خطيبتي فوزية عارف ، وتناقشنا في تفاصيل ثوب زفافها .
تواترت لقاءاتنا خلال عروض فرقة المسرح الفني الحديث ومهرجانات الأفلام العالمية التي كانت تقام في بغداد ؛ غير أن قطعاً مروعاً حصل بعد انقلاب 1963 الدموي حين اعتقِل زوجي ويوسف العاني وعلى الشوك وعدد كبير من أبرز فناني ومثقفي العراق في معسكر الرشيد ولم نعرف شيئاً عنهم إلا بعد شهور ستة حتى حسبناهم في عداد المفقودين ؛ لكن الصداقات الجميلة تواصلت بعد انقشاع الغمة لتمتد عبر العقود التاليات .
ذُهلت أيما ذهول في سنة 1977 عندما شاهدت إخراج فناننا الكبير سامي عبد الحميد لملحمة كلكامش على مسرح أكاديمية الفنون وكان إخراجاً مبهراً جمع بين الجماليات البصرية ورفعة الفن الأدائي والموسيقى وروعة الأداء ، وقد منحت قراءته الخاصة للنص فهماً متفرداً لمضمون الملحمة مما أضفى عليها دلالات فكرية مضيئة تليق بعظمة النص البابلي وصلاحيته لكل زمان ومكان ، ولم أشهد تأثيراً مماثلاً كالذي تركته مسرحية كلكامش لديّ في الأعمال المسرحية الأخرى التي استلهمت الموروث الرافديني كمسرحية الطوفان ورثاء أور وغيرها .
كان من عادتي كل عام أن أقرأ ما استجدّ من ترجمات للموروث الرافديني وأعيد قراءة ملحمة كلكامش سنوياً بعد أن أغرمت بها وجمعت نحو ثماني طبعات وترجمات مختلفة لها ، وانعكس ولعي بالتراث الرافديني بوضوح على قصصي ورواياتي ونصوصي المسرحية الخمس : الليالي السومرية ، قمر أور ، شبح كلكامش ، الكرة الحمراء ، ومسرحية الشبيه الأخير.
كتبت نص ( الليالي السومرية ) ونشرته مجلة الأقلام في عدد حزيران المزدوج لسنة 1992 ، والتقيت في أواخر سنة 1993 بالاستاذ سامي عبد الحميد في عرض مسرحي وكان برفقة الشاعر يوسف الصائغ مدير عام دائرة السينما والمسرح ، فالتفت الصائغ إلى فناننا الكبير قائلاً : هاهي كاتبة النص ، إلتقيا وتفاهما ، وفوجئت أنهما كانا يتحدثان عن نصي المنشور . قال الأستاذ سامي : لدي أفكار عديدة للعمل على نص الليالي السومرية بخاصة وأن هناك مقترحاً لتقدّمه الفرقة القومية ضمن فعاليات مهرجان بابل المسرحية ، ولابد من قراءة مستفيضة .
كنت قد قسّمت العمل إلى سبع ليال ليقدم في أماسٍ متتابعة مع توزيع الأحداث المفصلية على تلك الليالي ؛ غير أن الأستاذ سامي - بخبرته المديدة ورؤيته الفنية المتمرسة ووضوح أفكاره - إرتأى أن نقصرها على ليلة واحدة لصعوبة تفرغ الفنانين للعمل من جانب وتعذر وجود مسرح شاغر طوال سبعة أيام من جانب آخر . عملنا معاً خلال جلسات طويلة في بيتنا بالعامرية وبيته في الحارثية على اختيار المشاهد والشخصيات الأساسية وتكثيف الحوارات وحصر الفكرة في عناصرها الأساسية : دور المرأة في الحضارة ، البحث عن لغز الموت والخلود والوجود ، الكشف عن هشاشة الطاغية كلكامش . عملت بعدها على إعادة صياغة النص حسب توجيهات الأستاذ سامي وإضافاته المهمة ، وكسبت خبرة كبيرة في الرؤية المسرحية ، وكنا في نقاش مستمر خلال الإعداد للعمل ، نحذف ونضيف حتى استقر النص على صيغته النهائية ، وقد إجتهد المعلم سامي عبد الحميد في المزج بين قراءته الخاصة للملحمة وبين قراءتي لها وانتهينا إلى ضرورة إثراء أدوار النساء الملهمة وعدم الإكتفاء بشخصيتيْ سيدوري وشمخت ؛ فظهرت شخصية نيسابا وأورورو الخالقة إلى جانب شمخت الغانية الجميلة الشامخة ، وسيدوري صاحبة حانة الآلهة الواقعة على البحر .
قُدّمَ العمل للمرة الأولى صباح يوم الأربعاء 5 تشرين الأول ( أكتوبر ) 1994 على مسرح الرشيد ، وجسّد الشخصيات الفنانون : فوزية عارف بدور نيسابا ، وآزادوهي صموئيل بدور أورورو ، وأحلام عرب بدور سيدوري ، وأميرة جواد بدور شمخت ، وميمون الخالدي بدور كلكامش ، ونزار السامرائي بدور أنكيدو، وقد استخدم الأستاذ سامي في مقاربته الإخراجية الألوان والأعداد لتأكيد علاماته الدلالية ؛ ففي أعلى المسرح وضع ثلاث نوافذ ، وقسّم المسرح إلى ثلاثة مستويات : موقع أعلى حيث تُتِم ألهة الولادة أورورو عملية استيلاد أنكيدو ، وأوجد موقعاً وسطاً يرمز إلى ميدان أوروك الرئيس الذي تجري فيه منازلة كلكامش مع خصمه وصديقه لاحقاً أنكيدو، وثمة مستوى ثالث تتجلى فيه سلطة كلكامش وجبروته من جانب وحيرته وعزلته عن الجميع من جانب آخر. حصلت المسرحية على جائزة الإخراج وجائزة أفضل نص يستلهم التراث الرافديني .
بعدها باعدت بيننا محنة الحصار والفقدانات الشخصية وتفكك المجتمع العراقي في عزلته بعد كارثة غزو الكويت وحرب تحريرها ، ولم ألتق الأستاذ سامي إلا بعد سنوات عجاف في عمان نحو 2011 حين كان راقداً في مستشفى دار السلام وحييته وحييت صداقة عمر بباقة ورد وزرتهما هو والسيدة فوزية بعد شفائه في سكنهما بعمان رفقة الصديق الناقد المسرحي والروائي عواد علي . مازالت قهقهاته المفعمة بالأمل والمرح وحكاياته المدهشة وسخريته مما آل إليه مسرحنا ووضعنا العراقي الموئس تتردد أصداؤها وتؤكد حيوية وجوده بيننا وتحوله من كينونة مادية إلى تجلٍ روحي كبير الأثر .
-------------------------------------
المصدر : المدى
0 التعليقات:
إرسال تعليق