اصدار جديد استيطيقا المسرح تجديف في عوالم التخييل والإيحاء للدكتورة هند لبداك
اصدار جديد استيطيقا المسرح تجديف في عوالم التخييل والإيحاء للدكتورة هند لبداك
د . ندير عبداللطيفعن مؤسسة إصدارات أمنية للابداع والتواصل صدر ضمن السلسلة المسرحية النقدية تحت رقم 51 كتاب جديد للدكتورة هند لبداك يحمل اسم: استيطيقا المسرح : تجديف في عوالم التخييل والإيحاء من تقديم الدكتور عبدالكريم برشيد وتصدير الدكتور ندير عبداللطيف.
وهو كتاب قيم يتناول بالدراسة والتحليل علم الجماليات في المسرح، وقد اختارت كاتبته في فهرسته مجموعة من المواضيع حددتها فيما يلي :
ـ المسرح وعلم الجمال من منظور فلسفي (حين يستنطق المسرح وعي الانسان.
ـ المسرح ودرجات الوعي بين التثقيف والتثاقف
ـ المسرح ومسافات القراءة أية مقاربة للوعي المسرحي
ـ جماليات الحلم في المسرح
ـ فن المسرح تجديف في عوالم التخييل والإيحاء
ـ المسرح بين التجريب والاحتفالية
ـ الإبدالات الاستيطيقية في التجربة الاحتفالية عند الدكتور عبد الكريم برشيد
ـ التاريخ ووعي المادة بين العلم النووي والفلسفة
ماذا عن المسرح ..؟ (التناول التاريخي)
ـ المسرح والرمزية في كنف الدولة العالمة
ـ استيطيقا المسرح ـ1ـ ( المسرح والصورة من منظور نووي)
ـ استيطيقا المسرح ـ 2ـ (المسرح و الصورة من منظور نووي) . مسرح الصورة بين التنظير و التطبيق
ـ المسرح و الصورة من منظور نووي : مجموعة من الإعمال المجسدة لمسرح الصورة
تقديم الكتاب:
وقد افتتح الكتاب بتقديم للدكتور عبدالكريم برشيد تحت عنوان : استيطيقا المسرح: الفكر والعلم والفن والصناعات الجمالية حيث جاء فيه
الدكتورة هند لبدك كاتبة تكتب بأكثر من لغة واحدة، ولغةٌ واحدةٌ هل يمكن أن تكفي وعيا فكريا ليس له ضفاف، وليست له حدود؟
هي كاتبة تكتب باللغة العربية، تماما كما تكتب باللغة الفرنسية، وهي تكتب عن عالم الناس والأشياء وعالم المواقف والعلاقات، تماما كما تكتب عن عوالمها الداخلية الحميمة، والتي هي عالم غني بالصور وبالحالات وبالشهادات والمشاهدات، وهي عوالم أقرب إلى عوالم الأطفال الأبرياء منها إلى عوالم الكبار، ولكنها، في فكرها وفي علمها، وفي أسئلتها ومسائلها، تُشعِرك بأنك أمام باحثة مجتهدة وأمام قارئة مدمنة على القراءة، وأمام عالمة يهمها مستقبل الإنسان، ويهمها مستقبل العلوم والفنون التي يمكن أن تخدم وتفيد مستقبل هذا الإنسان
هي كاتبة تختزل العالم، بكل جغرافياته وتاريخه، في جسد الكتابة، وهي تعيش بالكتابة وفيها، وهي تتنفس الكتابة وتتحرك بطاقتها المحركة والجديدة والمتجددة فيها، ولعل أهم ما يميزها هو هذا الإصرار السيزيفي على الحضور وعلى البوح وعلى القراءة وعلى الكتابة وعلى (اقتراف) السؤال العلمي والفكري، وهذا هو القدر الذي اختارته واختارها، لتعيش في الكتابة فيها أحسن عيش وأصدق عيش وأجمل وعيش
عن الكاتبة والكتاب
وفي هذه الكتابة، بشقيها العلمي والشعري، تحضر الكاتبة وهي في أكثر من دور، فهي زرقاء اليمامة التي ترى عن بعد، وهي الشاعرة التي تحضر في كلماتها الموسيقى وظلال الموسيقى، ويحضر روح الشعر قبل جسده، وهي القصاصة والروائية التي تحكي كما كانت شهرزاد تحكي، وهي العالم الحكيم الذي يسأل ويتساءل، ويبحث عن معنى الكلمات والعبارات وعن معنى الأشياء والعلاقات، وهي كاتبة بحس أخلاقي تتمثل فلسفة "كانْتْ" الأخلاقية، وفي كل كتاباتها تشعرك هذه الكاتبة أنها موجودة، وبأن أكبر دليل على وجودها هو أنها تمارس فعل التفكير، وأنها تتقن صنعة السؤال الشعري والسؤال العلمي والسؤال الفكري، ودائما بنفس الوضوح في الرؤية، وبنفس البراعة، وبنفس الدقة.
في هذه الكتابة تتقاطع الكتابة السردية بكتابة السيرة الذاتية، وتصبح أقنعة الكاتبة موزعة على كثير من شخصياتها القصصية والروائية، وأرى أن انتقالها اليوم إلى المسرح هو محاولة للدخول إلى عالم آخر أكبر وأرحب وأخطر، أي العالَم المسرحي الذي يقدم نفسه بنفسه، والذي تعيش فيه الشخصيات المسرحية حريتها، مستقلة عن ذات الكاتب، وبهذا الكتاب تدخل الكاتبة مرحلة جديدة في مسارها الأدبي والفكري والعلمي والجمالي.
وكتابة هذه الكاتبة هي أساسا كتابتان اثنتان وليست كتابة واحدة، فهي كتابة وجدانية باطنية واستبطانية في السرد القصصي والروائي معا، وهي لغة عالمة ودقيقة في البحث العلمي، ونحن في هذا الكتاب أمام اللغة الثانية، من غير أن يعني هذا عدم حضور مشاعرها وذوقها ورؤيتها ورؤاها في هذا الكتاب، وأيضا حضور حسها الجمالي الصوفي والسوريالي في كثير من أنفاس هذا الكتاب.
هي إذن كتابة عاقلة ورصينة ومتوازنة، تُشعرُك الكاتبة فيها بقيمة التوازن في مختلف وجوهه ومستوياته وتجليات، أي التوازن النفسي والتوازن العقلي والتوازن الوجداني والتوازن الروحي والتوازن الأخلاقي
من أعمالها (نحيب الملائكة) و(برزخ الأرواح العاشقة) و(مدامع الورد)، و(محراب النور) و( ELMA MON OPIUM ) ، وفي إبداعها تحضر أسماء كبيرة معروفة في سماء الإبداع الشعري والروائي العالمي، يحضر جبران خليل جبران وشارل بودلير وفكتور هيجو وغيرهم.
هي إذن كاتبة عالمة بحس شعري، وهي باحثة برؤية صوفية، وهي ذات قارئة لأبجدية الوجود والموجودات، وهي متأملة شغوفة بالبحث العلمي الجاد، والعلم لديها عشق ورحلة استكشافية واستبطانية، وهي تبحث في الأشياء الطاهرة، ومعها تبحث عن الأشياء الأخرى الخفية، وفي كتابها هذا تعطينا رِؤية متكاملة عن المسرح، وذلك في كل أبعاده ومستوياته وتجلياته الكائنة والممكنة، والمسرح لديها علم وفن وفكر وصناعة وفعل وانفعال وتفاعل وصور حية وأخلاق وعلاقات ومؤسسات وحالات ومقامات مركبة.
ولعل أهم ما يميز هذا الكتاب هو أنه يجمع بين التأمل الفلسفي والفرضيات والنظريات والمنهجيات العلمية في العلوم التجريبية وفي العلوم الإنسانية معا، وهي تقدم توصيفا جادا وجديدا وجميلا للفرق بين طبيعة العلم وطبيعة الفلسفة، وفي رأيها أن (التفرقة بين العلم والفلسفة، في القول بأن (رجل العلم ينشغل بواقع الطبيعة) (خلافا لرجل الفلسفة الذي تشغله طبيعة الواقع) (من أهم ما تتسم به التجربة الإنسانية القدرة على إحداث التراكم، وهو ما يحيل إلى مفهوم الادخار في الاقتصاد) وهذه ملاحظة ذكية ودقيقة جدا، وعي غي هذا الكتاب تبحث في واقع المسرح؛ وتبحث في طبيعة هذا المسرح أيضا.
قراءة الفن بعين العلم
إن واقع وطبيعة الفن المسرحي إذن، وواقع طبيعة العلم المسرحي والفكر المسرحي والصناعات المسرحية، هو ما يهم هذه الكاتبة، وهو ما يركز عليه هذا الكتاب
ونعرف أن الفن ليس جزيرة مغلقة على ذاتها، ولكنه وجود حي يتقاطع ويتحاور ويتناغم ويتكامل مع كل العلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة الأخرى، ولهذا فإنه لابد من دراسة الفنون في ضوء العلوم، وعلم واحد لا يكفي، وهي تعتبر المسرح علما من العلوم (ومن أهمها وأجملها على الإطلاق فن المسرح.
فهذا الفن الراقي بكل المقاييس يبعث على التفكير والمساءلة، ولطالما كان التساؤل محط قوة الفكر الفلسفي أنه يدعو المبدع المسرحي إلى التأمل في وجود الذات والتي تتحرر من القيود)
ويمكن أن نلاحظ أن كل التطور العلمي والصناعي في العالم في القرن الماضي قد انعكس بشكل إيجابي على تطور المسرح، والذي استفاد من نسبية إنشتاين في بناء الشخصية، خصوصا عند بيرنديللو في نسبية الحقيقة، وفي طبيعة الحدث المسرحي وبناء المسرحية أيضا، وأصبح له منظوره الجديد للزمن المسرحي كذلك، كما استفاد المسرح من نظرية النشوء والارتقاء، واستفاد من التحليل النفسي، خصوصا في تجربة السورياليين الفرنسين، واستفاد من التطور الصناعي الذي أدى إلى الإيمان بالمستقبل، والتأكيد عل جماليات السرعة، وظهور تيار المستقبلية في إيطاليا عند مارنييتي ورفاقه، وظهوره في روسيا أيضا، كما تأثر هذا المسرح بالمادية الجدلية عند ماركس وبعلم اجتماع المسرح وبالأنتربولوجيا وبكل الفتوحات العلمية والاكتشافات الصناعية..
وفي معنى هذا المسرح ترى الكاتبة أنه أساسا فضاء، وأن هذا الفضاء مجال حيوي للانفعالات والعواطف و(كما يخط الرسام موهبته على القماش الأبيض ململما بذلك أشتات رسوماته، فإن المسرحي يصب كل ما يختلج أعماقه من غضب وتمرد، وفرح واحتفال، ولربما في بعض الأوقات يكون أداؤه إبحارا في الذاكرة، وتحررا لا محيد عنه لإرضاء القدرة على البقاء، وبالتالي فهو خطاب قوي يحمل على أكثر من طرح إشكالي، وفي ذات الوقت هو مساءلة للدواخل، واستنطاق لمعاني الجمال وقوة التخييل والايحاء)
وبهذا فإن المسرح هو فضاء أرحب وأعمق من الواقع، لأنه فضاء شعري وسحري، والجاذبية فيه أخف وطأة على الإنسان، والحرية فيه أقوى، والكلمة فيه أبلغ وأكثر تأثيرا وأكثر سحرا، والحقيقة فيه أصدق، والمعاني فيه أقرب إلى العقل، وهو مجال للكشف والمكاشفة، وللحوار بين الأنا والآخر، وهو التكامل بين الواقعي والتاريخي، وبين الوجودي والاجتماعي، وبين الكائن والممكن، وبين المحسوس، والمتخيل وبين الحاضر والغائب والمغيب
في هذا المسرح يعيش الإنسان عيشا مزدوجا ومركبا، وهو يعيش لحظته الحية، ويرى نفسه وهو يحياها، وكيف يحياها، وهذا هو الوجود والمضاعف في مرايا المسرح، وهو يجعل من الواحد جسدا متعددا ومتمددا ومتجددا، وبحسب الكاتبة، فإن الإنسان في هذا المسرح يمارس فعل (التثقيف الراقي)، مما يعني أن هذا المسرح هو أساسا مدرسة من مدارس الوجود، ومن مدارس المجتمع، ومن مدارس الحياة، وبهذا الفن السحري، وفيه أيضا، يسخر الإنسان من الإنسان، ويسخر من شرطه الوجودي أيضا، ويسخر من وضعه الاجتماعي، ويسخر من نظامه السياسي، ويسخر من مجموع علاقاته بالناس وبالأشياء، ويسخر من مؤسساته الاجتماعية والسياسية والدينية أيضا، والأصل في هذه السخرية المسرحية هو أنها موقف، أو أنها مواقف متعددة ومركبة، وقد تكون هذه السخرية سخرية من نظام الوجود، وقد تكون سحرية من النظام السياسي، وذلك في مرحلة من مراحل التاريخ، أو في كل تاريخ الإنسان على وجه الأرض، وقد تكون سخرية من النظام الاجتماعي، وذلك من خلال ظواهره ومظاهره، ومن خلال بعض أمراضه وأعطابه، و سخرية هذا المسرح مقبولة، لأنها مقنعة فكريا، وممتعة جماليا، وملهمة أخلاقيا، ولأنها قائمة على العقد المسرحي، والقائم أساسا على وجوب الإقناع الفكري والجمالي من طرف المبدعين، وعلى وجوب الاقتناع من طرف الجمهور
والأصل في هذا المسرح هو أنه فن ضاحك وساخر، وبهذا فهو قوة ناعمة، وهو سلطة عاقلة وحكيمة وراشدة، وهو لعبة أساسها التمرد على الواقع والوقائع، وهو يجسد ويشخص أمراض المجتمعات في أجساد وشخصيات مسرحية، وهو يسعى للتنفيس والتطهير والتهذيب وللتعليم والتربية ، وأيضا، لإصلاح أعطاب المراحل التاريخية المختلفة، وبحسب الكاتبة، فهذا المسرح هو فن ثوري يتمرد على القوانين (ليؤكد مجددا ثوريته وثراءه الخلاق، وأنه ليراهن على الشاعرية) وهذا هو الفرق بين التمرد السياسي والتمرد المسرحي، فالأول فيه فقر لغوي، والثاني فيه (ثراء خلاق) وفيه (شاعرية) وفيه ( سحرية)
عن اليوم الثامن في الأسبوع
وتتحدث الكاتبة عن هذا المسرح، وذلك باعتبار أنه آلية سحرية لتجاوز رتابة الوجود، ولتجاوز هذه الرتابة في الأيام المتعاقبة والمتشابهة والمتكررة، يوما بعد يوم، ولقد (اكتشف) الإنسان يوما جديدا في الوجود وفي التاريخ، والذي هو اليوم الثامن في الأسبوع، وماذا يمكن أن يكون هذا اليوم الاستثنائي سوى أنه يوم العيد والتعييد ويوم الحفل والاحتفال؟
وإن هذا الإنسان الذي كان بحاجة إلى اليوم الثامن في حياته اليومية، هو نفسه الذي كان دائما ـ وسوف يبقى ـ بحاجة إلى الآداب والفنون، والتي تعطي للموجودات (النثرية) شيئا من الجدة ومن الشعرية، وتعطيها شيئا من السحر المقنع، وتضفي عليها شيئا من الجمال الممتع، والأصل في الجمال هو أنه تفاعل حي وحيوي داخل مثلث أضلاعه الثلاثة هي: الإنسان الفنان الجميل أولا، وهو العالم الجميل موضوع الإدراك الجميل ثانيا، وهو القناة الفنية الجميلة ثالثا، والتي يمكن أن نتمثل بها ومن خلالها هذا الجمال، وأن نوصله إلى الآخرين، وأن نقتسم الإحساس به مع الآخرين، والتي قد تكون شعرا أو تكون تشكيلا أو تكون موسيقى أو تكون رقصا أو تكون غناء أو تكون نحتا أو تكون تصويرا، وفي هذا المعنى تقول الكاتبة والباحثة والمتأملة د. هند لبدك:
(الحاجة الجمالية في طاقة الوعي بالملل وعبثية الوجود بمفارقاته ومتناقضات. إن إرضاء الحاجات البيولوجية شيء، وممارسة فن المسرح يرتقي بالمبدع المسرحي إلى فضاء الكماليات وأن جمال الإحساس هو ذاك الذي ينبثق من صمت الحواس حين تجلو الروح.
فيتحقق بذلك تحرر الذات من واقعية السأم والوجود، ولربما كان هذا المنطق شبيها بهرم أفلاطون ونسبية الحاجة، بحيث تحتل القاعدة الحاجات القاعدية.
وإنني لأرى أن إثراء المسرح من إثراء الوجود ذاته، وأن الوعي ذاته هذا الفكر كخامة، سيما فيما هو نظري وبقي الدهاء القدر الذي تستوعبه المخيلة من هذا الوجود الصاخب)
هو تحليل جميل وصائب، يكشف عن المعنى الحقيقي للمسرح، وعن أدواره الظاهرة والخفية في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات، وفي حياة الشعوب والأمم.
وتتمثل الكاتبة خصوصية المسرح، وتقرأ ألواحه وخرائطه، وذلك باعتبار أنه حزمة فنون متناغمة، وأنه مجموعة لغات متعددة، من بينها لغات الجسد الحي ولغات الأشياء الثابتة والمتحركة، ولغات الرموز والعلامات والإشارات والحركات والإيماءات، وهو بهذا مجمع آداب شعرية ونثرية أيضا، وهو مجموعة علوم متحاورة ومتجاورة ومتضامنة ومتكاملة فيما بينها.
ولعل أجمل ما في المسرح هو أنه فعل سائل وشفاف ومتحرك كالماء، ويمكن لهذا الفعل الحي أن يتم في أي مكان، وأن يقبل كل هيئة، وأن يتلون بأي لون، ويمكن للمسرحية أن تعيشها ممثلة مع الناس في المكان العام، ومن الممكن أيضا أن نقرأها بشكل انفرادي وهي مجرد كتابة في كتاب، ولولا هذه الكتابة، فهل كان ممكنا لنا اليوم أن نستعيد المسرحيات اليونانية القديمة، وأن نُحييها ونحياها من جديد؟ وفي هذا المعنى تتحدث د. هند لبدك عن صلتها بالورق وعن عشقها للكتاب، وأرى أن قراءة المسرحيات هي أصعب من قراءة قصة أو قراءة رواية، وعليه، فإن من يحسن قراءة المسرحية، لا بد أن تكون له مجموعة ملكات ومجموعة كفاءات، وأن يكون قارئا أولا، ويكون ممثلا من حيث يدري أو لا يدري، وأن يكون مخرجا أيضا، وأن يحرك الشخصيات في ذهنه، ويحدد مواقعها وحركتها في مخيلته
جماليات الحلم في المسرح
(جماليات الحلم) هو عنوان فصل من فصول هذا الكتاب، وبالتأكيد فهو عنوان جميل لفصل جميل ومفيد ومَتِع، وهو يرُدُّ المسرح إلى عالمه وكونه، والذي هو عالم ما فوق واقعي وما وراء طبيعي، والذي هو عالم الحلم، وهل المسرح إلا حلم حالمين؟ وهل هذه الحياة الدنيا إلا حلم حالمين أيضا؟
هذا الحلم المسرحي له كونه الخاص، وله عالمه الخاص، وله فنونه الخاصة، وله علومه الخاصة، وله منطقه الخاص، وله مناخه الخاص، وله لغاته الخاصة، وله طقسه الخاص، ولعل أهم ما يميز هذا العالم الما فوق طبيعي هو أنه عالم غريب وعجيب، وأنه مثير ومدهش، وأنه شاعري وساحر، ولولا هذا، فما الذي كان يمكن أن يميز عالم ما بداخل المسرح عن عالم ما بخارجه؟
تقول د. هند لبدك: (إن تاريخانية الأحلام بدأت منذ الأزمنة السحيقة، كون الإمبراطورات ورجال الحكم احتكموا إليها في خوض نزالاتهم وحروبهم، سنذكر أيضا استدعاء العرافات واستشاراتهم في شؤون تسيير وإدارة الدولة، والتي تستحوذ على وسائل القمع والردع وكذا على السلطة الفيزيائية المشروعة)
وتشير أيضا إلى (الاعتقادات اليونانية: تلك التي تقر بأن مملكة الأموات تجاور مملكة الأحلام، ما يحيل إلى صلة ظاهرة الموت بين المعطيات البيولوجية والمعطيات السيكولوجية كما اتفق)
وإن هذا الحلم، وهو في درجة الرؤيا، يمكن أن يكون استشرافا للمستقبل، وأن يكون نبوءة، وفي كثير من المسرحيات يوجد هذا التنبؤ بالذي سوف يكون، ويكون تاريخا يقرأ المستقبل، وذلك في مقابل ذلك التاريخ الآخر، والذي يقرأ الماضي
(المسرح بين التجريب والاحتفالية) هو عنوان جديد لفصل آخر في هذا الكتاب، وفيه تطرح الكاتبة مفهوم التجريب بين الفن والعلم و(الفرق بين التجريبية المعاصرة والتجريبية الكلاسيكية) وتتحدث عن التجريب في المادة الفلسفية تحديدا التجريبية التحليلية تماما كما أن الفلسفة التحليلية تتمحور حول فلسفة اللغة والمنطق، وتتحدث عن أسماء كبيرة في مجال التصورات والاشتغالات التجريبية وهي لوك وباركلي وهيوم
وتتحدث عن مسرح الهواة بالمغرب، بكل حمولاته الفكرية وبكل أبعاده الأيديولوجية والسياسية، ومن خلال هذا المسرح تطرح العلاقة الإشكالية بين المسرح والدولة، مشيرة إلى مطامح هذا المسرح للتوغل في أعماق الوجدان الشعبي العام، وتؤكد على أن تحديات هذا المسرح قد تضاعفت اليوم، وذلك بحكم أننا (نعيش عصر الرقمنة والتحديات الكبرى) وأن مسؤولية هذا المسرح قد تضاعفت، وأنها لم تعد محصورة (في شرنقة الفرجة والمتعة) وأن المطلوب منه اليوم أن يكون (وسيلة توعوية)
حدود التجريب في المسرح الاحتفالي
ومن داخل هذا المسرح التجريبي، والذي جمع بين الفرجة والفكر، وبين المتعة الحسية والمتعة العقلية، ومن داخل المدرسة التي خرج منها هذا المسرح، والتي هي مسرح الهواة، تتحدث الكاتبة عن ظاهرة التيارات المسرحية المغربية، والتي جمعت بين الصناعة المسرحية والفكر المسرحي، والتي عبرت عن نفسها من خلال مجموعة من التجارب ومن الاجتهادات التنظيرية، والتي كان على رأسها المسرح الاحتفالي، والذي تميز بوضوح رؤيته الفكرية، وبانتظامه داخل جماعة تسمى المسرح الاحتفالي، وبوجود أسماء كبيرة في هذه الجماعة من بينها الطيب الصديقي المخرج، وثريا جبران الممثلة، وعبد الرحمن بن زيان الناقد، ومحمد أديب السلاوي المؤرخ، ومحمد الباتولي الزجال، ورضوان احدادو المؤلف، ومحمد بلهيسي المخرج، محمد فراح المؤلف والشاعر، وعبد المجيد فنيش المخرج والممثل والباحث في التراث، وجناح التامي الممثل والمختص في مسرح الميم، ولأن هذه الاحتفالية هي روح الإنسان بصفة عامة، وهي روح الإنسان المغربي بصفة خاصة، فقد قالت الكاتبة: (إن المسرح الاحتفالي ذو وقع قوي على الجمهور٬ ونحن بحاجة إلى صناعة ثقافة في مستوى الرهانات والتحديات المطروحة) وهي تؤكد على أن التيار المسرحي ينطلق من وعي نقدي، وهي تؤكد إعجابها بالوعي الموضوعي والعقلاني، ليس فقط بهذه التجربة الفكرية والجمالية التي تسمى المسرح الاحتفالي، ولكن بكل (ربابنة الفكر على مدار التاريخ ومن مقولات د مستجير ما معناه إن القيادة الفكرية ترقد في أيادي رجال الفكر) وهذه القيادة الفكرية هي التي قادت المسيرة الاحتفالية على امتداد أكثر من أربعة عقود من الزمن.
إن هذا المسرح الاحتفالي هو ديوان الوجدان الشعبي العام، يتسم بالتعدد وبالتنوع بالشمول وبالشفافية وبالانفتاح، وهو يهدف إلى الارتقاء بفكر الجمهور، والارتقاء بحسه وبذوقه وبخياله وبأخلاقه، وذلك من أجل (إعطاء المسرح قيمة مؤكدة ومن اجل ممارسة مسرحية هادفة وراقية كي تكون قريبة من نبض المجتمع)
وبحكم نزعتها الإنسانية، وانسجاما مع حسها الأخلاقي الجميل، تبدي الكاتبة انحيازها لهذا المسرح الاحتفالي، وذلك في تأكيده على (الجانب الإنساني للمسرح أساسا، فمنه تتجسد التجربة الإنسانية، وينتظر من هذا المسرح أن تكون له أهداف محددة لبناء فكر خلاق)
وهي لا تنسى أبدا أن المسرح الاحتفالي ليس خطابا فكريا وأخلاقيا فقط، ولكنه متعة جمالية أيضا، ولهذا فهي تخصص له فصلا بعنوان (الإبدالات الاستيطيقية في التجربة الاحتفالية عند د. عبد الكريم برشيد) وفيه تؤكد على الخيال وعلى المتعة وعلى الجمال.
وبحس المؤرخ فيها، تعطيها الكاتبة صورة دقيقة ومفصلة عن الظروف التي نشأ فيها التنظير المسرحي العربي، وتعطينا سياقاته التاريخية والاجتماعية والفكرية، وتربطها بالنكسة العربية الحزيرانية سنة 1967 والتي أدت إلى ( تثوير الفعل الثقافي العربي وترميم رؤاه نقدا وإبداعا وتنظيرا، وبدأت تظهر أصوات في جل المناحي الثقافية العربية، تعبر عن رفضها لهذا الواقع، وتتأطر داخل سياق ايديولوجي، فوجدوا في المسرح أكثر من غيره من باقي الفنون الإطار المرجعي لبناء تواصل جديد بين الفئات المثقفة وشرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية)
في هذه الأجواء ظهرت التيارات المسرحية الجديدة، والتي كان على رأسها المسرح الاحتفالي في المغرب ومسرح الحكواتي في لبنان وفلسطين، وتذكر الكاتبة أهم الأسماء في المسرحي العربي، وتشير إلى تجاربهم وإلى مشاريعهم التأصيلية والتأسيسية الجديدة
وبوعي المؤرخ أيضا، نجد الكاتبة تسجل الحقيقية التالية، وهي أنه (ورغم ما عرفه المغرب من تجارب مسرحية تنظيرية متعددة، إلا أن جلها توقف ولم يستطع مواكبة صيرورة التجربة المسرحية المغربية)
وعليه (تبقى الاحتفالية هي الوحيدة صامدة في مواكبة استصدار البيانات ليس في المغرب فحسب بل وفي كثير من المدن والعواصم العربية، خصوصا وأن كل التجارب التنظيرية العربية من المحيط إلى الخليج قد توقفت وانطفأ حماسها)
وفي هذا الكتاب تدرس الكاتبة عن التاريخ، وعن التاريخ ووعي المادة بين العلم النووي والفلسفة، وتطرح السؤال الفلسفي، وماذا عن المسرح، وتتحدث عن المسرح والرمزية في كنف الدولة العالمة، وتبدي انحيازها إلى رمزية الأشياء على حساب واقعيتها، وتبدي شكها تجاه الوقائع الواقعية، مستشهدة بمن يقول: "إن القضايا الواقعية هي مجرد افتراضات يقينها لا يرقى إلى مستوى اليقين الضروري، لذا فهي دائما عرضة للخطأ والتكذيب من طرف الوقائع نفسها، سيما وأننا لا ندري ما سيأتي به المستقبل من جديد يمكن أن يكذب توقعاتنا بخلاف القضايا التحليلية التي هي قضايا يقينية يقينا عقليا صوريا"
وتتحدث الكاتبة أيضا عن المسرح والمرآة، وعن العلاج بالمسرح، إلى جانب العلاج بالموسيقى وبالتشكيل أيضا، وتتحدث عن عشق المسرح، وتعطى للعشق معناه الصوفي، والذي يفيد الميولات والحاجات الروحية أساسا، وتتحدث عن هذا المسرح الذي ينهض على (أساليب التقويم الذاتي أو تهذيب الملكة المبدعة أو قوة التخييل والحدس) وتتحدث الكاتبة أيضا عن (الإنسان والزمن والمسرح) وتأتي بمقولة أن الزمن هو (هبة الطبيعة العظمى الذي يحول دون حدوث كل شيء في آن واحد) وهذا هو الحال بالنسية للمسرح أيضا، فالأحداث فيه مرتبة زمنيا، ولا شيء يمكن أن يحدث إلا في حينه، كما تتحدث عن استيطيقا المسرح، وعن (المسرح والصورة من منظور نووي).
وبخصوص هذه الصورة تؤكد الكاتبة على التمييز بين هذه الصورة الحسية، كما تراها العين الحسية، وبين الصورة المتخيلة في الذاكرة الحية، وإلى جانب هذا الإدراك الحسي فهناك الإدراك الحدسي، وبحسب الكاتبة فهو (أجدى من الملاحظة، وهو احتمال رياضي)
صلاح القصب ومسرح الصورة
ومن دراستها للصورة، فيزيائيا وفلسفيا، بصفة عامة، تنتقل إلى الكاتبة إلى تجربة رائدة وتجريبية وطليعية في كل المسرح العربي الحديث، والتي هي مسرح الصورة، ويمثلها المسرحي العراقي الكبير د. صلاح القصب، وهو صاحب تجربة مسرحية غنية لحد البذخ، تجربة تنطق فيها الصورة، بأضوائها وظلالها، أكثر مما ينطق فيها الممثلون بالحوارات، وبعض مسرحياته هي مجرد شرائط سينمائية تؤثثها الأجساد والأشياء والحركة، وتسكنها الغرائبية والعجائبية وكأنها أحلام مصورة في صور ومُجَسْدَنَة في أجساد ومُشَخْصَنَة في شخصيات، وهو مسرحي مفتون بسيميائية اللغات المسرحية المتعددة والمتنوعة، وتشير الكاتبة إلى أهمية تجربته المسرحية، والتي تعززها بياناته العالمة، والتي تدل على أن هذا المسرحي يبدع مسرحه وفق مشروع فكري، ووفق اختيارات فكرية وجمالية ثابتة، وتشير الكاتبة إلى عنوانين بعض مسرحياته الناجحة جدا، والتي منها (الحلم الضوئي) و(عزلة في الكريستال) و(حفلة الماس) و(الخليقة البابلية) و(الفردوس) و(أحزان مهرج السيرك).
ولقد اشتغل هذا المسرحي أيضا على التراث العالمي، خصوصا عند شكسبير وتشيخوف، ولكن بمنهجه التصويري وبأسلوبه التشكيلي، وبلمسته الشعرية، ولقد قدم (هاملت) و (الملك لير) و(العاصفة، كما قدم (بستان الكرز) و (الشقيقات الثلاث) و(الخال فنيا) و (طائر البحر) أو (النورس).
ويبقى أن أشير في نهاية هذه الكلمة، إلى أن المسرح قد ربح الشيء الكثير بهذا الكتاب الجديد، وإلى أن الخزانة المسرحية قد اتسعت وازدادت غنى بمضامينه الفكرية والجمالية المتنوعة، ولذلك نهنئ أنفسنا بظهور جيل جديد من الباحثين في المسرح، والذين يجمعون بين عقلانية البحث العلمي الرصين والتذوق الجمالي السليم
تصدير الكتاب:
في تصدير للكتاب كتب الناشر الدكتور ندير عبداللطيف تحت عنوان: هند لبداك ومعانقة أبي الفنون : رحلة في ابحار استيطيقا المسرح تعريفا بالكتاب وبصاحبته حيث كتب:
بإصدارها هذا الكتاب: (استيطيقا المسرح: تجديف في عوالم التخييل والإيحاء) تكون الدكتورة هند لبداك قد نشرت مع مؤسسة إصدارات أمنية للإبداع والتواصل الفني والأدبي ستة كتب متنوعة، بدءا من (نحيب الملائكة)، (برزخ الأرواح العاشقة) ومرورا بـ (مدامع الورد)، (محراب النور) وانتهاء بـ (ELMA MON OPIUM) و(استيطيقا المسرح). بكتابات جديدة شعرية وشاعرية، سردية وقصصية حالمة، يجمعها خيط رابط هو سلطة الحكي والبوح والاستجداء، كتابات قصصية وروائية باللغتين العربية والفرنسية، اغترفت من خلالهما الكاتبة مرجعياتها من ينابع الأدب والتصوف والفلسفة والعلوم عربا وأجانب، منفتحة بذلك على آداب وفكر وثقافات إنسانية متعددة، في كل كتاب من هذه الكتب تستحضر الأديبة هند ما تركه الفكر الإنساني من مواقف، فيستوقفها كل ما تأثرت به من رواد الفكر والأدب أمثال ابن عربي والنفري وجبران خليل جبران وشارل بودلير وجون جاك روسو وفكتور هيجو مثلما استوقفها في مجال الفكر فلاسفة ومفكرون أمثال: افلاطون وايمانويل كانط ونيتشه وهيكل وليفي برول واينشتين ويورغان هابرماس وباشلار واللائحة تطول...
انها أديبة موسوعية بامتياز، ذلك أنه في كتاباتها يحس القارئ أمام عالم متحرك ومتغير، جديد ومتجدد، اخترقت فيه كل عوالم التجنيس الأدبي بحيث يمتزج فيه الشعر بالقص والنتر بالنقد، تحكمه سلطة قوية لجذب وشد المتلقي للانخراط في عوالم بَوْحها الذي يخترق متخيل جمهور القراء.
وبالرجوع الى هذا الكتاب، فإن الباحثة هند لبداك قد عرجت الى ضفاف أخرى، جديدة وماتعة، فانفتحت على أبي الفنون لتفتح ستائر مسارحه ، وتبحث فيه عن عوالم الجمال من خلال اقطابه ورواده والفاعلين فيه، وتتوقف عند تجارب بعينها، نحتت اسمها بكل قوة سيرورة هذا الجمال فتناولت بالدراسة والتحليل مواضيع حول المسرح في ارتباطه بعلم الجمال من منظور فلسفي و المسرح ودرجات الوعي بين التثقيف والتثاقف والمسرح ومسافات القراءة و جماليات الحلم في المسرح وفن المسرح في عوالم التخييل والإيحاء والمسرح والرمزية في كنف الدولة العالمة ، في حين توقفت بكثير من التأمل عند تجربتين عربيتين رائدتين هما تجربة المسرح الاحتفالي عند الدكتور عبدالكريم برشيد وتجربة مسرح الصورة عند الدكتور صلاح القصب.
ومما لا شك فيه أن الدكتورة هند لبداك ما يزال في جعبتها الكثير من الانتاجات الأدبية والنقدية التي تفاجئنا كل سنة بمولود جديد يتسم بالقوة في الطرح والمتعة في السرد، والدقة في الوصف والسلاسة في المعالجة، واللذة في القراءة.
ولا أخفيكم سرا أن الأديبة والناقدة هند لبداك انخرطت مع مؤسسة أمنية في مشروع مشترك أخذ يحقق في الأفق نجاحات مبهرة ويتبلور سياقه العام من فتح قنوات التواصل والتفاعل والتجاوب مع القراء والأدباء والباحثين المغاربة، هو مشروع نهجنا فيه معا إنتاج الكتاب وتسويقه وفق برنامج مسطر مع مجموعة من الفاعلين والمهتمين بالشأن الثقافي موزعين على خريطة هذا الوطن من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب ، هي تجربة حققت طفرة نوعية في تقريب الأديب وتقديم كتابه الى كل مكونات المجتمع الثقافي والادبي، فتحقق هذا الحلم مع مجموعة من القطاعات الرسمية والشبه الرسمية والخاصة كوزارة الثقافة ومؤسسة محمد الخامس ونقابة الادباء والباحثين المغاربة واتحاد كتاب المغرب وإدارة المعرض الدولي للكتاب وكثير من الجمعيات والمكتبات والمركبات الثقافية، فبدأت تظهر تمار هذه النجاحات في كل محطة من محطات رحلتنا مع هذه الاديبة المتميزة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق