مسرح العُزلة وانكسار المُثُل
مسرح العُزلة وانكسار المُثُل
في مسرحية " إلى أن نلتقي " ، ثمّة ما ينهل من التحوّلات ، أمس واليوم ، نازعاً إلى الاغتراب عما كان يعده صاخباً مدويّاً ككرنفال جميل ، باتجاه التسليم لملامح الواقع البئيس من صمت وغضب وقسوة وقد رفدته يد القدر بقدسية المصير وأحدُ وجوهه التطهير الذي تكلم فيه أرسطو ، حتى انتفاء الاحساس بالزمن بقوة الاخلاص للمسرح الذي هو فن اللحظة / الآن .
العرض من تأليف وإخراج ميرا ترّو ، أما الأداء فهو لكل من : حمزة كركي ، لين يزبك ، لين الجبة ، وهو قدّم على مسرح زقاق مؤخراً في بيروت .
تتوضّع المسرحية على فصلَين ؛ فالأول يتكلم عن ثلاثة من رفاق أيام الطفولة في المدرسة : ليث ( حمزة كركي) وهيا ( لين يزبك ) ولارا ( لين الجبّة ) ، جعلتهم العفوية والصداقة القديمة منفتحين على أحاديث المرح والفرح والعفوية التي غالبا ما تسقط معها حواجز الكلفة والمجاملات ، حتى أنهم يتندرون فيما بينهم وعلى بعضهم بعفوية ومرح وهم يستعيدون ذكريات الطفولة ، وما برع فيه كل منهم من مهارات في صغره . فليث ممثل ، وها هو ينهض ليؤدي مشهداً من " ماكبث " ، وهيا برعت في الرقص وها هي ترقص بجرأة ومهارة ، أما لارا فصوتها جميل حنون فتغني " لو كنت مغمض عينيا " ، وهكذا في جلسات مليئة بالشغف والمحبة على تلة قريبة ، تنتهي دائما بحالة تأمل للنجوم ، التي يبدأ الثلاثة بتعدادها حتى الرقم 326 الذي نكتشف في مشهدية الفصل الأول من العرض أنه عدد الذين رحلوا عن دنيانا ، أشخاص من أقارب وأصدقاء وأناس يحبونهم شاء القدر أن يرحلوا ، كل في مناسبة ووقت مخصوص به . بعد هذه الجلسة في الفصل الأول يختلف الثلاثة حول العودة كل إلى منزله ، فمن سيقود السيارة ، حتى اتفقوا أن من يصل إلى السيارة أولاً يقودها ، وذلك قبل أن يكون القدر لهم بالمرصاد في حادث سير مؤلم لا نعلم حتى اللحظة ما تسبب به من أضرار في الأرواح . أما الفصل الثاني ، فيظهر فيه كل من " ليث "وهو يجلس بشكل جانبي غير مواجه للجمهور ، بينما " هيا " تحاوره ، أمّا " لارا " فغير موجودة ، وحيث يجري الحديث في منحًى سلبي تراجيدي وجدّي بعكس المرح الذي ملأ لحظات الفصل الأول . هنا يتناول الحوار أحوال الكون بشكل رمزي ، حيث لعب القدر لعبة الموت ، ما دفع الجمهور في الصالة إلى التساؤل عن مصير " لارا " ، إنما حتى آخر مشهد حيث يتساءل " ليث " وهو يمارس عادة تعداد النجوم التي دأب عليها مع صديقتَيه دائما : " أديش صارو ؟" وتجيبه " هيا ": 327 ، أي أنّ " لارا " هي الرقم 327 ، الرقم الزائد عما كان دائما ، والنجمة الجديدة التي هي " لارا " وقد توفيت وصعدت إلى السماء وأصبح لها قصة من قصص النجوم كغيرها ممن فقدوهم ، فيما أصبحت " هيا " على الكرسي المتحرك لانها مقعدة . نفهم هنا، وحتى آخر مشهد ، أنّ التصور الاخراجي وضع الجمهور في حيرة من أمره ، متسائلا عن مصير " لارا " في الفصل الثاني ، حتى اكتشافه من خلال الحوار أنها ماتت جراء بسبب حادثة السير ، ثم في حالة تعتيم فرجوي على ما أصاب " ليث " و "هيا " بأن جعل طريقة جلوسهما بشكل موارب غير مواجه للجمهور ،
ما جعل الأخير في غفلة عما أصابهما نتيجة الحادث ، إلى أن يأتي " ليث " بكرسي متحرك ينقل عليه " هيا " خارج المسرح ، وكانت هذه الصدمة الثانية للجمهور ، أما " ليث " فقد فقَدَ نظره أيضا بسبب الحادث ، وهذا تراكمَ كله في مفاجآت متتابعة رمزاً ودلالات تجسد ما يقع فعلاً من أحداث مماثلة من حولنا دائماً في لبنان ، لصيقة بهم وبتفاصيل حياتهم اليومية إلى حد كبير ، ما أعطى العرض موضوعية وصدقاً وجدت لها تأثيراً عميقاً في المتفرجين . ثمة فجوة بين الفصلين الأول والثاني كان لا بد من حفرها بحرفة ، أن يستغل العرض كل لحظات الحياة بين ملهاة ومأساة ، وعلى قاعدة بسيطة يقبلها الجميع ووردت في الحوار : " كل واحد يعمل اللي بيعجبو " تحمل في طياتها روح الحرية التي لا تتجاوز الحدود إلى إزعاج الآخر أو إيذائه . وعلى الرغم من تطور الأحداث فإنّ إيقاع اللغة قد خفت وانكسر ، تحت وطأة الفاجعة التي بدأت تتبدى تدريجياً خلال الفصل الثاني : إعاقة " هيا " ثم عمى " ليث " وانتهاء بموت " لارا " ، وخلقت تشاركيةً من حزن وأسى مع النظّارة ، من ضمن السلم الحدثي الذي لخص حركة
العرض بدرامية مقنعة ؛ فصحيح أن حبكة العرض هي نسيج ما أصاب الأصدقاء بعد حادث سير ويحصل في كل مكان وزمان ، إلا أن رهافة الأداء نمذجتها الأدوار الثلاثة ، بين الفصلين . كان " ليث " مشبعا بالحزن مضغوطا بكلماته المتدافعة بغير فاصل على شفتيه ، محموما بحركاته التي قيدتها إصابته بالعمى ، غير بعيد من " هيا " التي تأرجحت بين يقين وظنون وهي تعبر عن محنة الانسان أمام الموت بتراكم الحكايات والصور . إذن ، المخرجة الشابة " ميرا ترّو " وعَتْ بعُمق عملية الانتقال بين فصل وآخر ، انتقال الأحوال والمصائر وهو يوظف تكنيك المشهدية المضيئة التي تفجر أحاسيس الشخصيات وتنقلها للنظارة ، أما التكنيك الأدائي ، وعلى الرغم من تماثل الثلاثة في الرؤى الشبابية ، إلا أن الاخراج جعل من بروفايل كل منهم تكويناً تشكيلياً خاصاً به ، لا سيما في وضعيات الجلوس المقننة في الفصل الثاني ، حيث انثنى كل من " ليث " و " هيا " بزاوية قائمة بدت مثبتة جامدة قيدت حركة الجسد بما يتماهى والنفس السجينة في كل منهما ، سجينة الفاجعة التي حلّت بهما حتى يقول " ليث " : " الى اللقاء يا أعز العابرين في عمري " . نحن نقرأ في هذا العرض رؤية " بيرانديللو " في مسرحيته الشهيرة " ستة أشخاص يحتاجون إلى مخرج " التي يطرح فيها المشكلة نفسها تقريبا ويؤكد أننا نعيش الوهم لا الواقع ، من زاوية محلية شرقية تمازجت في الرؤية مع التعبير الحركي المبرر منطقياً وهو يشتغل في آليات البحث بين الواقعي والمثالي ؛ فالممثلون شكلوا عناصر طقس أدائي ينتظم الذهن والجسد والصوت ، تنساب فيه الحركات متماوجة بلطف ، واعيةً لمفردات التواصل بالكلمة أو الجسد ، وهي حالة غوص في الذات قريباً من العزلة إذ يبدو أنها خابتْ في التفاعل مع الآخر ، لكنها وجدتْ لحظة مسرحية تلتقي بالجمهور فيستسيغها ، لحظة تواصل مزدوجة على مستويين : الأول بين الصالة والخشبة ، والثاني بين الشخصيات المتحاورة . بنفس زاوية الرؤية ، تضع " ترّو " يدها أيضا على مجموعة لوازم البصري والسمعي ، حيث رتبت بنفسها مجمل مفردات العرض ، من السينوغرافيا إلى الأزياء وحتى الأغاني والموسيقى ، مع العلم أن العرض لم يتطلب كبير عناء ولا كثير تجهيزات من ديكور وإضاءة وموسيقى إلى إتمامها بكليتها مشهديا . ذلك أنه لا ديكور لافتا في العرض ، وكان هذا خياراً جيداً لشدّ انتباه الجمهور إلى النص وفكرته وما يريد توصيله من رسائل ، بعيداً من فلسفة الأحداث ، وجاء الاكتفاء بالاضاءة مقنعاً إلى حدّ كبير مع جمال الزركي ، تناوبتها المشاهد في سينوغرافيا واقعية تخدم الحكاية والحبكة معا ، وتعيدنا إلى تقاليد المسرح الفقير للبولوني غروتوفسكي ، بواقع الاختصار في أغراض ووسائل غير مكلفة إلا في حدود الافادة من تقانة الإنارة التي لا غنى عنها لروحية العرض في محاكاة الواقع .










0 التعليقات:
إرسال تعليق