الناقد المسرحي بين الوساطة الجمالية والتحول الثقافي قراءة في وظائف النقد المسرحي المعاصر
مجلة الفنون المسرحية
الناقد المسرحي بين الوساطة الجمالية والتحول الثقافي
قراءة في وظائف النقد المسرحي المعاصر
أحمد عبد الفتاح
عندما يظهر الممثل ويبدأ في أداء دوره أمام المتفرج، يتحول المكان إلى فضاء مسرحي، ويبدأ فعل التلقي. وهنا يتجلى الدور الجمالي للناقد المسرحي. فالناقد لا يُعد مجرد متلقٍ مثقف، بل هو طرف فاعل في العملية المسرحية، يضطلع بمهمة الوساطة بين العرض والجمهور. ومن خلال قراءته الجمالية، يساعد في توجيه المتلقي نحو فهم أعمق لتجربة العرض، وربط عناصره الجمالية بدلالاتها الفكرية والثقافية. وإذا كان الفن المسرحي قصدًا يُمنح في الوعي وليس موضوعًا خارجيًا، فإن النقد هو تتبّع لهذا القصد في أفق ثقافي متحول. ومن ثم، فإن وظيفة الناقد لا تقتصر على توصيف العرض، بل تتجاوز ذلك إلى مساءلة التجربة الجمالية وتأويلها ضمن سياقها الثقافي المتغير. فدور الناقد لا يقتصر على التفاعل مع العرض كظاهرة جمالية فنية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تفكيك المعاني الكامنة خلف التشكيل الجمالي، وربطها بالسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تُنتج فيها وتُتلقّى ضمنها. إنه يسهم في إعادة إنتاج المعنى، لا بوصفه تفسيرًا نهائيًا، بل كفعل تأويلي يضيء ما يتجاوز سطح العرض، ويكشف عن دينامياته الرمزية والثقافية.
الناقد المسرحي بوصفه وسيطًا جماليًا
يؤدي الناقد المسرحي دورًا محوريًا يتجاوز حدود التلقي الفردي أو التذوق الذاتي إلى آفاق أوسع تتصل بصياغة التجربة الجمالية ذاتها، بما يجعل منه طرفًا فاعلًا في العملية المسرحية وليس مجرد مشاهد أو متلقٍ خارجي. فالمسرح، باعتباره فنًا مركبًا يعتمد على التفاعل الحي بين الممثلين والجمهور، يحتاج إلى وسيط يمتلك القدرة على تفكيك عناصر العرض المختلفة وإعادة تركيبها ضمن رؤية نقدية تنفتح على البعدين الفني والمعرفي معًا .
فلا يكتفي الناقد بتسجيل انطباعاته أو بوصف ما يراه على خشبة المسرح، بل يمارس قراءة متعددة المستويات للدلالات التي يطرحها الأداء المسرحي، سواء كانت لفظية أو بصرية أو أدائية. وهذه المستويات تشمل :
المستوى الجمالي: الذي يهتم بتكوين الصورة المسرحية، والعلاقة بين العناصر البصرية والسمعية، والإيقاع العام للعرض.
المستوى الدرامي: المتعلق بالبنية النصية، وتطور الحدث، والصراع، والشخصيات.
المستوى السيميولوجي: الذي يحلل العلامات والإشارات المستخدمة في العرض، وكيف تُنتج المعنى من خلال الحركات، الأزياء، الإضاءة، وغيرها.
المستوى الثقافي: الذي ينظر إلى العرض بوصفه خطابًا يحمل تصورات اجتماعية أو أيديولوجية، ويتفاعل مع السياق الثقافي الذي أُنتج وتلقّي فيه.
وبهذا المعنى، فإن النقد المسرحي لا ينحصر في تحليل النص أو أداء الممثلين، بل يتعدى ذلك إلى مقاربة شاملة للفضاء المسرحي، والإضاءة، والسينوغرافيا، والإيقاع العام، وطرائق التلقي. ووفقًا لما أشار إليه باتريس بافيس، فإن الناقد يشكّل همزة وصل بين العرض والجمهور، من خلال إعادة توجيه الوعي الجماهيري وتأطيره معرفيًا، لاسيما في سياقات قد يفتقر فيها المتلقي إلى الخلفية الثقافية أو الجمالية التي تمكّنه من التمييز بين ما هو جيد وما هو رديء. في هذا السياق، تتشكّل علاقة ثلاثية بين العرض والناقد والجمهور، علاقة تفاعلية لا تكتمل فيها التجربة الفنية إلا بمشاركة جميع الأطراف. فالمتلقي ليس فقط مستهلكًا للعمل الفني، بل شريك في تأويله وتقديره، إلا أن هذه الشراكة تظل مشروطة بدرجة من التوجيه أو التنوير التي يوفرها النقد الجمالي . والناقد هنا لا يفرض وصايته على المتلقي، بل يفتح أمامه إمكانيات متعددة للفهم والتذوق، ويحفّزه على تجاوز التلقي السلبي إلى المشاركة الواعية . وتزداد أهمية هذا الدور الوسيط في سياقات تتسم بالتعقيد الفني أو التجريب المسرحي، حيث تصبح القراءة المباشرة للعرض صعبة أو مربكة. في هذه الحالة، يظهر الناقد كجسر معرفي يربط بين الرؤية الإبداعية للفنان المسرحي ووعي الجمهور، عبر خطاب نقدي يتسم بالعمق والوضوح في نفس الوقت. وهنا يتجاوز النقد حدود التحليل إلى الفعل الثقافي، إذ يسهم في تشكيل الذائقة العامة وتوجيهها نحو معايير فنية وجمالية أكثر رصانة . في النهاية، فإن الناقد المسرحي، بوصفه وسيطًا جماليًا، لا يؤدي وظيفة ثانوية أو لاحقة للعرض، بل يشكّل جزءًا من بنية الفعل المسرحي ذاته. إنه يساهم في ترسيخ الوعي الفني داخل المجتمع، ويشارك في بناء حس نقدي جماعي يمكّن المسرح من أداء دوره الحضاري بوصفه مساحة حيوية للتفكير، والتأمل، والتغيير.
الفضاء المسرحي وتحولات التلقي
إن التفكير في الفضاء المسرحي بوصفه تجربة إدراكية متحولة يفتح أفقًا خصبًا لإعادة النظر في دور المتلقي، ووظيفة الناقد، ومفهوم العرض ذاته. وهو ما يعزز من الحاجة إلى نقد مسرحي معاصر يعايش التجربة ويعيد إنتاجها لغويًا وفكريًا، بعيدًا عن التعالي الذوقي أو السطحية الوصفية. فلم يعد الفضاء المسرحي يُختزل في كونه مجرد حيّز مادي يُقام فيه العرض، بل بات يُنظر إليه اليوم باعتباره بنية إدراكية حسّية تتولد في لحظة التفاعل بين الممثل والجمهور. هذه النظرة تتجاوز التصورات الكلاسيكية للمكان الثابت، لتعيد تعريف المسرح كحدث إدراكي مفتوح، يُعاد خلقه وتشكيله في كل مرة يُعرض فيها العمل، بحسب عناصر الإضاءة والحركة والصوت والأداء. وهنا يصبح الفضاء المسرحي حدثًا يتجاوز الجدران والديكور، ويتجسد في التفاعل الدينامي بين الجسد المسرحي والوعي البصري والسمعي للمتفرج.
وفي هذا السياق، تشير ليزا ماري باولر في كتابها Phenomenology of Theatrical Space إلى أن الفضاء المسرحي لا يوجد كمعطى جاهز، بل يتولد من تفاعل الجسد الحي مع الضوء والحركة والزمن. الفضاء المسرحي – بحسب باولر – "ليس مكانًا، بل تجربة"، إنه ناتج عن فعل الأداء نفسه، حيث تتكون المعاني من خلال التلقي الحسي المباشر. (وبذلك، يتغيّر مركز الثقل من تصميم المشهد إلى تجربة المشاهدة، ومن البناء الثابت إلى الإدراك المتحوّل .
تفرض هذه النظرة تحوّلًا جوهريًا في فهم عملية التلقي المسرحي، إذ لم يعد المتلقي مجرد مشاهد سلبي يتلقى المعنى، بل أصبح عنصرًا فعّالًا في إنتاج الدلالة. اذ يتفاعل مع العرض بجسده وذاكرته وحواسه، مما يجعل تجربة التلقي ذات طابع فردي وجمعي في وقت واحد . وهذا ما يُبرز أهمية الناقد المسرحي، ليس كحاكم ذوقي أو مفسّر خارجي، بل كوسيط إدراكي يعيد تنظيم التجربة الجمالية ويربطها بسياقاتها الفنية والثقافية.
ومن هذا المنظور، يُمارس الناقد نوعًا من الترجمة الحسية للمشهد المسرحي، إذ يلتقط كثافة اللحظة الأدائية، ويفكك العلاقة بين الممثل والفضاء، ويحلل كيف يؤثر ذلك في إدراك الجمهور. وبهذا يصبح النقد فعلًا تأويليًا متجددًا، لا يمكن اختزال دوره في الأحكام القيمية، بل يتسع ليصبح أداة لفهم التحولات الإدراكية التي يحدثها العرض المسرحي في وعي المتلقي. وهذه الوظيفة التأويلية للنقد تُعيد الاعتبار له كعملية جمالية قائمة على الخبرة والمعايشة، لا كمنصة للحكم أو الانطباع .
تزداد أهمية هذا الطرح في المسرح المعاصر، لاسيما مع الاتجاهات التي تدمج بين العوالم المادية والرقمية، وتعتمد على كسر الجدار الرابع وإشراك الجمهور في بنية العرض. هنا يغدو الفضاء المسرحي فضاءً متحركًا، هشًا، يعاد ترتيبه وتفكيكه باستمرار، وهو ما يستدعي نوعًا جديدًا من التلقي النقدي القائم على التأمل والتفاعل بدلاً من الفهم الخطّي أو التفسير التقليدي.
الناقد كفاعل ثقافي وبانٍ للذاكرة الجماعية
لا يقتصر دور الناقد المسرحي على تحليل العرض باعتباره حدثًا جماليًا لحظيًا، بل يتجاوز ذلك إلى ممارسة ثقافية أوسع تسهم في صياغة الوعي الجمعي وتثبيت معالم الذاكرة المسرحية داخل السياق الثقافي العام. فالنقد لا يُعد نشاطًا لاحقًا للفعل الفني، بل هو جزء من نسيج الحياة الثقافية، حيث يتحول الناقد إلى شاهدٍ ومؤرخ ومفسّر يُعيد ترتيب التجربة المسرحية في إطارها التاريخي والاجتماعي والجمالي. من هنا، تُستدعى وظيفة الناقد كمثقف عضوي (وفقًا لمفهوم أنطونيو جرامشي) يشارك في إنتاج الخطاب العام، لا كمُراقب محايد، بل كفاعل مشارك في تشكيل الرأي العام الثقافي .
ويشكل الناقد المسرحي وسيطًا تأويليًا بين العرض وجمهوره، لكنه أيضًا يحوّل العرض العابر إلى مادة مُؤرّخة قابلة للاستعادة، ما يجعل من كتابته فعلًا توثيقيًا ذا طابع تأويلي. فالنقد لا يوثق العرض فقط من خلال وصف عناصره، بل من خلال تفسيره وربطه بسياقات أوسع تتعلق بالهوية، والسياسة، والتاريخ، وهو ما يجعل من الكتابة النقدية نوعًا من الأرشفة الدينامية التي تحفظ الذاكرة الجماعية للعروض المسرحية .
يُسهم النقد المسرحي كذلك في خلق استمرارية ثقافية بين الأجيال، حيث تُصبح مراجعات النقاد وحواراتهم وشهاداتهم مصدراً أساسيًا لفهم تطور الذوق الجمالي، وتغير أشكال التعبير المسرحي، وتحولات علاقة المسرح بجمهوره. في هذا الإطار، تقول الدكتورة نهاد صليحة إن “الناقد لا يشهد فقط العرض، بل يشهد المرحلة كلها”، أي أنه يلتقط ملامح العصر من خلال الفن. كما يشير الدكتور حسن عطية إلى أن النقد ليس فقط أداة للتقويم، بل وثيقة ثقافية تحفظ لحظة المسرح وتُعيد إنتاجها في الذاكرة الجمعية، مما يجعله حلقة وصل معرفية بين الماضي والحاضر، ويُسهم في تشكيل ملامح مستقبل الفن المسرحي. ويضيف الدكتور راجي عبد الله , وهو ناقد عراقي أكاديمي له مؤلفات مهمة ، في سياق مشابه، أن "النقد هو سجل غير رسمي لتاريخ المسرح، يسجّل التفاصيل التي قد تُغفلها الوثائق الرسمية"، مشيرًا إلى أن ما يكتبه النقاد يحمل قيمة توثيقية وفكرية لا تقل عن أرشيف العروض نفسها. ويرى الدكتور محمد سمير الخطيب أن الناقد جزء من مؤسسة ثقافية، وله دور في صوغ وعي الجماعة، وأن وظيفته لا تقتصر على الحكم الفني على العرض، بل تشمل التوثيق والتحليل الاجتماعي والثقافي للظاهرة المسرحية، مما يجعله فاعلًا في قراءة التحولات الجمالية والسياقية معًا.
لا شك أن الناقد يلعب دورًا حيويًا في إعادة تفعيل الذاكرة المسرحية من خلال إعادة القراءة المستمرة لعروض الماضي، ومساءلة منجزها الفني والجمالي من زاوية الحاضر. فالنقد لا يحتفي فقط بالعروض الكبرى، بل قد يُعيد اكتشاف عروض مهمشة أو مرفوضة في زمنها، مما يتيح رؤى جديدة ويعيد رسم خريطة الذاكرة الثقافية بعيدًا عن الانتقائية أو الخطابات الرسمية .
ومن جهة أخرى، يُسهم النقد في حفظ التجربة المسرحية التي قد أن تتلاشى بسبب الطبيعة الزائلة لهذا الفن – باعتباره فن أداء - فالنقد امتداد للعرض على مستوى الوعي، حيث يُنقذ الأداء من الفناء الآني، ويمنحه بعدًا تأمليًا وتاريخيًا في نفس الوقت. إن الناقد، بهذه المهمة، لا يُعيد فقط تفسير ما حدث، بل يفتح آفاقًا جديدة لما يمكن أن يُقال عن العرض ولما قد يُعاد بناؤه لاحقًا في الذاكرة الثقافية الجماعية .
تحوّل النقد المسرحي في ظل الوسيط الرقمي وتغير أفق التلقي
شهد النقد المسرحي في العقود الأخيرة تحولًا بنيويًا عميقًا بفعل الوسائط الرقمية التي أعادت تشكيل طرائق التعبير، وأطر التلقي، وحدود التفاعل. فقد انتقل الخطاب النقدي من صفحاته التقليدية في الصحف والمجلات المتخصصة إلى فضاءات رقمية متعددة مثل المدونات، وقنوات "يوتيوب"، والبودكاست، ومنصات التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى انفجار غير مسبوق في حجم المحتوى وسرعة انتشاره. هذا التحول لم يقتصر على الوسيط فحسب، بل شمل أيضًا طبيعة الجمهور الذي لم يعد متلقيًا سلبيًا، بل أصبح شريكًا في صناعة المعنى، والتفاعل مع النقد، بل وأحيانًا في إنتاجه أيضًا .
لقد غير الوسيط الرقمي أفق التلقي جذريًا، حيث بات النقد يصل إلى جمهور عابر للحدود الجغرافية والثقافية، جمهور متنوع ومتفاعل لحظيًا، يعلّق ويشارك ويعيد نشر النصوص أو المقاطع، بما يمنح الخطاب النقدي بعدًا اجتماعيًا تفاعليًا غير مسبوق. لكن هذا الانفتاح أفضى إلى إشكاليات تتعلق بموثوقية المحتوى وعمقه، إذ ذابت الحدود بين النقد المتخصص والرأي الانطباعي السريع، وتداخلت أدوات التحليل مع عبارات الانفعال الذوقي أو المبالغات الجماهيرية .
في هذا السياق، لم يعد الناقد المسرحي مجرد كاتب محترف يعتمد على خلفية أكاديمية أو خبرة ميدانية، بل بات مطالبًا بتطوير كفاءات رقمية وسردية تتلاءم مع الوسيط الجديد. عليه أن يُتقن الكتابة المختزلة دون الإخلال بالمعنى، وأن يستخدم الوسائط المتعددة (كالصور والمقاطع التوضيحية) لشرح الأفكار المعقدة، وأن يكون حاضرًا على المنصات التي يرتادها الجمهور، دون أن يفقد صوته المعرفي المميز. إن النقد في البيئة الرقمية يتطلب من الناقد أن يتحول إلى "مؤدٍ رقمي" كما تصفه هيلين فريشووتر، حيث تصبح شخصية الناقد جزءًا من النص، وصوته جزءًا من السلطة التفسيرية التي يتم التفاعل معها علنًا.
ومع هذا، يمكن القول إن الوسيط الرقمي لم يضعف النقد المسرحي، بل أتاح له فرصًا لتوسيع أثره المجتمعي، وإعادة ربطه بممارسات الحياة الثقافية اليومية. فقد مكن هذا التحول من ظهور نقاد شباب وجماعات نقدية جديدة تتبنى لغات مختلفة وأساليب تحليل متجددة، تواكب التحولات التي يشهدها المسرح المعاصر من حيث الشكل والمضمون والجمهور كما أن التفاعل الرقمي أتاح مساحة لمساءلة سلطة النقد التقليدي، وفتح النقاش حول المعايير والقيم الجمالية من خلال منصات الحوار المفتوح. وهذا كله يستدعي بناء وعي نقدي رقمي، لا يستخدم الوسائط فقط، بل أيضًا يعيد النظر في الوظيفة الاجتماعية للناقد، وحدود الخطاب، ومسؤولية التأويل في فضاء يعج بالتعدد والتناقضات. فالتحدي الأساسي لا يكمن في وجود منصات جديدة، بل في القدرة على الحفاظ على جودة الخطاب النقدي، وعمقه، وتأثيره داخل بيئة سريعة، عابرة، ومفتوحة على الجميع.
أزمة المرجعية في النقد المسرحي المعاصر: بين الانطباعية والتحليل الجمالي
رغم أن التحولات التقنية والثقافية قد وفرت فرصًا جديدة لتوسيع نطاق التلقي وتحديث أدوات القراءة الجمالية، إلا أنها كشفت أيضًا عن أزمة مرجعية يعيشها النقد المسرحي المعاصر، تتجلى في غلبة الطابع الانطباعي على حساب المقاربة التحليلية المنهجية في بعض الكتابات النقدية التي تسعى غالبا الى ترويج العروض والاحتفاء بها . وقد أدى هذا إلى تعمية الحدود بين الرأي النقدي الرصين القائم على أسس جمالية نابعة العرض المسرحي والآراء الانطباعية الحماسية وربما المتحيزة أحيانا، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الناقد المهني والمشاهد الانطباعي . وغالبًا ما يغيب التحليل الدقيق للعناصر المسرحية لحساب تعبيرات انفعالية لا تقوم على أسس نقدية واضحة، مما يقلل من فاعلية النقد كخطاب معرفي .
وقد نبّهت إلى ذلك الناقدة هيلين فريشووتر، مؤكدة أن "ضعف المرجعية النظرية لدى بعض النقاد يجعلهم يخلطون بين الملاحظة العفوية والتحليل المنهجي". وتبرز هذه المفارقة بشكل لافت في بعض ممارسات النقد المسرحي المصري؛ حيث تتسم بعض المقالات النقدية بطابع انطباعي عاطفي يركّز على انبهار لحظي أو إعجاب فردي دون تحليل معمّق للبنية الدرامية أو الإخراجية، في مقابل نماذج تحليلية أكثر ندرة، تتميز بقراءة بنيوية للعناصر المسرحية وربطها بسياقاتها الاجتماعية والجمالية. فالانطباعية تميل إلى الذاتية والتقويم الذوقي، بينما التحليلية تعتمد على أدوات نقدية واضحة ومنهجيات تفسيرية تتيح بناء خطاب نقدي معرفي ومتماس .
خاتمة
يتبين من هذا المسار التحليلي الموجز أن وظيفة الناقد المسرحي المعاصر لم تعد مقتصرة على مجرد وصف العرض أو إصدار الأحكام التقويمية، كما كان سائدًا في أنماط النقد التقليدي، بل غدت وظيفة مركبة تتقاطع فيها المعرفة الجمالية والثقافية والرقمية.
ففي ظل تحولات العرض المسرحي من كونه عرضًا مغلقًا على الخشبة إلى تجربة متعددة الوسائط واللغات، وفي ظل تغير طبيعة الفضاء المسرحي بوصفه حيزًا إدراكيًا متحركًا، واتساع أفق التلقي ليشمل جمهورًا رقميًا متفاعلاً، أصبح الناقد مطالبًا بأن يُجدد أدواته باستمرار.
فلم يعد كافيًا أن يمتلك الناقد ذائقة فنية أو ثقافة أدبية فقط، بل أصبح من الضروري أن يكون ملمًّا بآليات التلقي في الوسيط الرقمي، وقادرًا على تفكيك التجربة المسرحية بوصفها خطابًا بصريًا وتفاعليًا، لا فقط نصًّا أو أداءً.
هذا يضع على عاتقه مسؤولية مزدوجة: من جهة قراءة العرض في سياقه الجمالي والاجتماعي، ومن جهة أخرى مخاطبة جمهور متنوع ومتعدد المرجعيات.
ومن ثم، فإن فاعلية الناقد اليوم تقاس بمدى قدرته على التكيّف مع هذه التحولات، وعلى إنتاج خطاب نقدي يُسهم في تشكيل الوعي المسرحي المعاصر، لا مجرد التعليق عليه.
----------------------------
المراجع التي اشتمل عليها المقال
(1) يوسف ادريس " فصول في المسرح والنقد " دار الشروق 1986
(2) Pavis, Patrice. Analyzing Performance: Theater, Dance, and Film University of Michigan Press, 2003
(3) صليحة، نهاد. المسرح بين الواقع والحلم. الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2004 ," المسرح بين الفكر والفن " الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002.
(4) Esslin, Martin. The Field of Drama: How the Signs of Drama Create Meaning on Stage and Screen. Methuen, 1987
(5) Bowler, Lisa Mary , Theater architecture as Embodied Space , 2012
(6) Fischer-Lichte, Erika. The Transformative Power of Performance: A New Aesthetics. Routledge, 2008
(7) Lehmann, Hans-Thies, Postdramatic theater, Routledge2006
(8) Freshwater, Helen. Theatre & Audience. Palgrave Macmillan, 2009
(9) Jenkins, Henry. Convergence Culture: Where Old and New Media Collide. NYU Press,
(10) إسماعيل عبد الله، كلمة الأمانة العامة في الدورة العاشرة لمهرجان المسرح العربي، تونس 2018، منشورة على موقع الهيئة العربية للمسرح.
(11) يوسف الحمدان، مقالات في المسرح والخشبة والحياة، دار مسعى، البحرين، 2015
(12) يقطين، سعيد. من النص إلى النص المترابط: مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005.
المراجع التي اشتمل عليها المقال
إدريس، يوسف. فصول في المسرح والنقد. دار الشروق، 1986
Pavis, Patrice. Analyzing Performance: Theater, Dance, and Film University of Michigan Press, 2003
صليحة، نهاد. المسرح بين الواقع والحلم. الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2004
نهاد صليحة " المسرح بين الفكر والفن " الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002
عطية، حسن. النقد المسرحي العربي: رؤى وتحولات. الهيئة العربية للمسرح، 2013.
Esslin, Martin. The Field of Drama: How the Signs of Drama Create Meaning on Stage and Screen. Methuen, 1987.
Esslin, Martin. The Field of Drama: How the Signs of Drama Create Meaning on Stage and Screen. Methuen, 1987
Fischer-Lichte, Erika. The Transformative Power of Performance: A New Aesthetics. Routledge, 2008
Postdramatic Theatre. Routledge, 2006 Lehmann, Hans-Thies. 6
Freshwater, Helen. Theatre & Audience. Palgrave Macmillan, 2009
Jenkins, Henry. Convergence Culture: Where Old and New Media Collide. NYU Press,
نبذة عن :أحمد عبد الفتاح
الاسم : احمد عبد الفتاح عبد الرحمن
( تخرج في كلية التجارة جامعة عين شمس عام 1980) مترجم تليفون : 01123227709 البريد الاليكتروني : bigsecret1954@gmail.com أولا- الكتب لغات خشبة المسرح : مقالات في سيميولوجيا المسرح تأليف ( باتريس بافيس ) ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة التجريبي عام 1992 . مسرح الشارع : الأداء التمثيلي خارج المسارح تأليف ( الان ماكدونالد – ستيفن ستيكلي – فيليب هورتون) الهيئة العامة للكتاب 1999 . خمس مسرحات نو حديثة تأليف ( يوكيو ميشيما ) الهيئة العامة لقصور الثقافة 2003 ملك الغرفة المظلمة تأليف (رابندرنات طاغور) الهيئة العامة لقصور الثقافة 2009 الدراما بين التشكل والعرض المسرحي تأليف مايكل فاندين هيفل المركز القومي للترجمة 2014 6 – نظرية الدراما وتحليلها تأليف مانفريد فيستر الثقافة الجماهيرية 2020 7- مسرح السايبورج تأليف جينفر باركر ستاربك مطبوعات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي – الدورة 29 2022 8- نظرية الدراماتورجيا جانيك زاتوكوفسكي 2023 مطبوعات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الدورة 30 9- فن المسرح جيمس هاملتون 2023 مطبوعات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الدورة 30 10 - نظرية الأداء ريتشارد شيكنر 2024 مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الدورة 31 11- التمثيل المتجسد ريك كيمب 2024 مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الدورة 31








0 التعليقات:
إرسال تعليق