أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الخميس، 24 مايو 2018

المسرح السياسي عند بريشت *

مجلة الفنون المسرحية 

المسرح السياسي عند بريشت *


وضاء قحطان حميد


كان للواقعية الجديدة أثر على المسرح الملحمي من خلال ملامحها السياسية (( كانت التعبيرية في ألمانيا المتمثلة ب(فرانك ديكند)و(جورج بوشنر)الأثر الواضح على (بريشت)فقد شكلت ثورة على الإشكال والقوالب التقليدية إذ فتحت مسرحية (موت دانتون) ل(بوشنر)الطريق أمام (بريشت ) وكذلك تأثرب(بيسكاتور) لتلمس نظريته حول المسرح الملحمي كما تأثر(بريشت)ب(ادجر*)الذي فتح الطريق امام بريشت للمسرح ،وتأثر(بريشت) ب(رامبو)و(بودلير) شعراء وكتاب الرمزية اللذان شكلا قطبا جاذبية إضافة إلى ميله لشاعر عاش في القرن الخامس عشر هو (فرانسوافيون*))(1).
وقد حاز( بريشت ) على جائزة كلايست في الأدب عن مسرحية (طبول في الليل ) واعتمد في كتابة النص على العنصر السردي والحكائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بريشت *(1898_1956): كاتب ومخرج مسرحي ألماني ،وضع نظرية المسرح الملحمي ،وأسس فرقة برلين المسرحية
كتب مسرحيات تعليمية عديدة، هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأستقر فيها لفترة طويلة  بعد أن جاب عددا من دول 
أوروبا بسبب عدائه للنازية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية 0عاد إلى برلين عام 1948وأعطي مسرحاً خاصاً به من قبل 
الدولة0كتب للمسرح ما يقارب من ثلاثين مسرحية ابرزها(أوبرا القروش الثلاث)و(الاستثناء والقاعدة)و(غاليلو غاليليه)
و(الام شجاعة )و(الانسان الطيب من ستزوان)و(دائرة الطباشير القوقازية)و(أيام الكومون في باريس)،وكتب عددا من 
القصائد لكن غالبيتها لم ينشر0
ادجرالن بو*(1809_1894)شاعر وقاص امريكي درس بجامعة فرجينيا وفصل منها بسبب ادمانه الخمر 0عمل محررا في
عدة مجلات فنشر اشعاراً وكتب قصصاً وحاز على شهرة واسعة0وقد أهتم بالاسلوب أكثر من المضمون ،وأعتنق مذهب الفن 
للفن 0ومن أشهر قصائده :الغراب ،اما قصصه فقد جمعها تحت عنوان:قصص الخيال الجامح0مجدي سيد عبد العزيز،ص045
فرانسوافيون*1431م هو شاعر وشخصية لا تنسى في الادب الفرنسي في القرن الخامس عشر، وقد كذب وسرق وقتل
ومن أهم قصائده العهد الكبير _ الانلشيد _مرثية الجميلة صانعة الخوذات 0
(1)فردريك أوين،بريتولد بريشت: حياته فنه وعصره ،ترجمة: إبراهيم العريس،(بيروت: دار ابن خلدون،1981)،ص094


وعند (بريشت ) يقاس العمل بمدى إنتاجه في حل المشكلات الاجتماعية و السياسية ويقوم مذهب (بريشت)على فكرة أن المشاهد هو العنصر الأهم في تكوين العمل المسرحي ومن أجله تكتب المسرحية فيقول :
((لا أطالب أن تخلد أعمالي ، ولكن أحب أن تهضم جميعها وتنقل وتستعمل والخالد هو المنتج ))(1) 0
وله مقولة يصف حالة الإحباط والظلم الاجتماعي والقهر السياسي ودعوته الى أن 
يسود العدل وتعم الراحة وينتهي قلق البشرية ،فيقول :
((إنني مؤلف مسرحي
إني أعرض ما قد رأيته في أسواق الناس
رأيت كيف يشري الناس ويباعون
هذا ما رأيته أنا المؤلف المسرحي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عبد الفناح قلعجي ،المسرح الحديث ، (دمشق : منشورات اتحاد الكتاب العرب ،2012)،ص064

كيف يلج الواحد منهم غرفة الآخر بناءاً على خطط سابقة
أو بهراوات من المطاط ، أو بالنقود
كيف يقفون وينتظرون في الشوارع
كيف يعد كل منهم الأحابيل للآخر ))(1).
وله مقولة تبين واقعية (بريشت)في العمل المسرحي ومدى حبه للمسرح والعاملين
في المسرح ، فيقول : 
((أرفعوا ستار مسرحي 
لا تخفوا خشبة مسرحي وراء ستار
دعوا المشاهد وهو مضطجع في مقعده يرى الاستعدادات النشطة 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 (2)المصدر نفسه ،ص063


التي تجري من أجله ببراعة ودهاء!
دعوه يرى قمراً من صفيح يتدلى من أعلى بأسلاك رفيعة0
أو سقفاً يحمله العمال 
إلى خشبة المسرح
لا تدعوه يرى أكثر مما ينبغي ،
ولكن دعوه يرى أكثر مما ينبغي ،
ولكن دعوه يرى شيئاً ،
وحتى يدرك إننا لسنا سحرة بل مجرد عمال يا أصدقاء ))(1).
ويقول (بريشت) يشجع مهندس الإضاءة للقيام بأعماله على أتم وجه فيقول :
(( أعطنا المزيد من الضوء يا مهندس الإضاءة !
لأنه كيف يتسنى لنا نحن كتاب المسرح وممثليه أن نقدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)شفيق مقار ، دراسات في الأدب الأوروبي المعاصر ،(بغداد:مطبعة الأديب البغدادية،1972)،ص0155

رؤيتنا للعالم في العتمة والظلال ؟
إن ضوء الغسق الخابي يجعل النوم يتسلل إلى الجفون ،
ونحن في حاجة إلى يقظة مشاهدينا ، بل تحفزهم لمراقبتنا ، وحتى إذا ما أصروا
على أن يحملوا فليحملوا في ضوءٍ غامر ))(1).
ويجد الباحث ان ( بريشت ) لم يكن مؤلفاً أو كاتباً مسرحياً أو مجدداً أو منظراً وصاحب نظرية المسرح الملحمي بل انه شاعر كبير وهذه بعض النماذج من 
أشعاره0يقول( بريشت): في مسرحية الاستثناء والقاعدة :
(( نحن نناشدكم على الدوام ألا تقولوا :
((هذا أمر طبيعي))
ففي زمن يسوده الاضطراب ، وتسيل فيه الدماء ويدين بالفوضى :
ويقوم العسف والطغيان فيه مقام القانون ، 
وتفقد الإنسانية إنسانيتها ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)المصدر نفسه ،ص0154
لا ينبغي لكم أن تقولوا :
((هذا أمر طبيعي ))
حتى لا يستعصي شيء على التغيير والتبديل ))(1)0
ومن أشعاره :
أريد أن أمضي مع من أحب كم سيكلفني ذلك لا أريد أن أحسب هل هو خيرٌ لي
لا أريد أن أعرف هل يحبني لا أريد أن أعرف فقط أن أمضي مع من أحب0
وصية الصباح والمساء ***
أخبرني حبيبي انه يحتاجني ومن أجل ذلك أنا أرعى نفسي جيداً أرقب خطواتي 
أين تذهب وأخاف أن تسقط علي قطرة من مطر فتقتلني.
أبعث لي ورقة ***
ابعث لي بورقة شجرة من الغابة التي تبعد عن بيتك نصف ساعة أو أكثر أذهب 
إذن وسوف تكون قوياً وسوف أشكرك لأجل تلك الورقة الجميلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)بريشت ، ترجمة : عبد الغفار مكاوي ، مجلة المسرح  ، القاهرة ، فبراير ، 01964

لم أحبك أكثر ***
أختاه لم أحبك أكثر مما أحببتك تلك الليلة حين سرت بعيداً عنك وابتلعتني الغابة الزرقاء _ الغابة الزرقاء وفوقها نجوم الغرب الشاحبة 00لقد تركتك بلا شيء وإلا بصحبة الطيور الكبيرة وصرخاتها الجائعة في ظلمة سماء الليلة .
بدأ بريشت  حياته المسرحية بتأثره بالمسرح التعبيري فكتب ثلاث مسرحيات تعبيرية هي (بعل _طبول في الليل_القائل نعم والقائل لا ) ومسرحية (طبول في لليل تنبأ بواقعية سياسية وهي ((تتحدث عن مأساة جندي عائد من الحرب يعجز عن الانصهار في مجتمعه مرة ثانية ))(1).
وبريشت  حاله حال زميله بيسكاتور كان يحمل أفكاراً سياسية وهي أفكار ماركسية وكان مثل صديقه في البداية مرحباً بالحرب لكنه وصل الى نتيجة أصبح مثل زميله بيسكاتور مناهضاً للحرب حتى انه أختلف مع قادة الفكر الماركسي وأحزابه شأنه شأن زميله بيسكاتور (( وفي عام 1926بدأ بريشت  يدرس الماركسية في معهد برلين العمالي ))(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)د0سامي عبد الحميد ، مصدر سابق ، ص0180
(2)المصدر نفسه ،ص0180


ومن الجدير بالذكر إن (مارتن أسلن) يقول عن اعتناق (بريشت )للماركسية ((إن  بريشت الذي كان يعتنق الماركسية بحماس شديد كان شديد النقد لنظرية الحزب  وكان يعارض المذهب الرسمي للواقعية الاشتراكية... ))(1).
وفي عام 1926يكتشف بريشت  لأول مرة اسم المسرح الملحمي ، وفي عام 1928 يهجر بريشت  البناء الدرامي الأرسطي ويدخل في مرحلة بحث تقوم على فلسفة أخلاقية مستوحاة من الفكر السياسي الماركسي ، وقمة هذه المسرحيات التعليمية مسرحية (الاستثناء والقاعدة ).
والمسرح الملحمي أراده بريشت حسب (برناردورت) في كتابه (قراءة بريشت) ((هدف بريشت أن يشترك الجمهور في صراع يدور داخل مكان مغلق ولا ينتهي إلى رضى عام ، وإنما هدفه أن يبين كيف يظهر الصراع في حقيقة تبرزه من كافة الجوانب ))(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عبد الفتاح قلعه جي ، مصدر سابق ،ص066
(2)برنار دورت ، قراءة بريشت  ، ترجمة : جورج الصائغ ،(دمشق : منشورات وزارة الثقافة ،1997)،ص070

كان بريشت يكتب مسرحيات سياسية متأثرة بالفكر الماركسي وهذا ما يؤكده الكاتب (بيتي نانسه فيبر) صاحب كتاب (بريتولد بريشت النظرية السياسية والممارسة الأدبية )(( كان بريشت كاتباً سياسياً على الأقل الأعمال بعد عام 1927 ومن الممكن الإعجاب بروعة سهولة لغته ولينها دون الإقرار بمعتقداته ومقاصده السياسية لكن من المستحيل فهم مسرحياته دون معرفة شكل تأثير الفكر الماركسي الذي أستمده من دراسته ومن تأثير أصدقاءه أمثال كارل كورش ))(1).
المسرح الملحمي يمزج الموسيقى بالغناء والرقص والأسكتشات الفكاهية والتعليق النقدي اللاذع على الواقع الاجتماعي والسياسي وهو مسرح يحقق المتعة ويثير الفكر يجدد عيون المتفرج فيدفعه للتفكير لأنه يرى المألوف غريباً .
إن كتاب ((الاورجانون الصغير ) هو نظرية (بريتولد بريشت )في المسرح الملحمي))(2)0

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (1)بيتر نانسه فيبر وهيوبرت هالين ، برتولد بريشت النظرية السياسية والممارسة الأدبية ،ترجمة: كامل يوسف حسين ،ط1،
(بغداد : وزارة الثقافة والأعلام ،1986)،ص031
(2)برتولد بريشت ، الاورجانون الصغير ، ترجمة : فاروق عبد الوهاب ،(الشارقة : هلا للنشر والتوزيع ،د0ت )ص08


وان نظرية المسرح الملحمي التي جاء بها بريشت  تحمل أفكاراً وأيديلوجيات تختلف عن ما جاء به سابقوه من مؤلفين وحتى ناقض (أرسطو)وسمى مسرحه بالمسرح الدرامي أو الأرسطي وهذا ما يؤكده (بيتي نانسه فيبر)في كتابه (برتولد بريشت النظرية السياسية والممارسة الأدبية )(( إن ممارسة بريشت  لتحطيم الايديولوجيا والفكر التدخلي تعد تطبيقاً لمبدأ كورش الخاص بنقد الايديولوجيا والعمل الفكري ، وهكذا نظر كل من (كورش*) وبريشت إلى العمل الفكري وكذلك النظرية الجمالية بوصفهما لحظات في الممارسة الثورية جنباً إلى جنب مع العمل الاقتصادي والسياسي ))(1).
إن الملحمية في مسرح (بريشت ) كان يحب أن يسميها جدلية نسبة الى (هيجل*) الفيلسوف الألماني صاحب نظرية الجدل وكانت داخل هذه الملحمية فيها صفة التغريب والتغريب حسب بريشت  تخليص الحادثة من كل ما هو بديهي أو مألوف وإثارة الدهشة والفضول على الحادثة نفسها ووضع المتناقضات امام بعض للوصول
الى حالة من الوعي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كارل كورش * (1886_ 1961) هو منظر ماركسي الماني انظم الى الحزب الشيوعي الالماني وشارك في الاحداث الثورية
في المانيا أوائل العشرينات وكان وزير العدل في الحكومة الاقليمية في ثورينغن عام 1923، وبعد هزيمة الثورة الالمانية 
عكف على دراسة أسباب الهزيمة ، وأصدر عام 1923كتاب (الماركسية والفلسفة )الذي يعد خروجاً عن الفلسفة الماركسية 0
 (2)بيتي نانسه فيبر ، المصدر نفسه ، ص050
هيجل *نشأ من أسرة ترجع إلى أصول نمساوية ، ولد سنة  1770م وتناول فكره الفلسفي فلسفة التاريخ وتاريخ الفلسفة 
وفلسفة الدين وعلم الجمال ، ويتألف مذهبه الفلسفي من ثلاثة معاني رئيسة(الفكرة ،الطبيعة ،الروح ).



والتغريب كما يرى (عبد الفتاح قلعة جي ) في كتابه (المسرح الحديث) هو (( الخروج من البديهية إلى التاريخية وأن يكون المتفرج معطل التفكير مستلباً وفي أقصى درجات التوتر النفسي وفي أقصى درجات اليقظة والمراقبة وإبداء الرأي وما هو على الخشبة ظاهرة اجتماعية تتطلب من المتفرج إرادة التنبه والتفكير لوعيها ودراستها ، ان مهمة المسرح تنحصر في احضار الظاهرة الاجتماعية أو السياسية إلى خشبة المسرح ونزع البديهي منها وإثارة الاندهاش والفضول حولها بغية فهمها ومساعدة المتفرج على اتخاذ موقف ثوري منها ، ومن الخطأ عد التغريب مسألة شكلية ، انه وسيلة لتعميق الوعي وتنشيط مواقف الجمهور الثورية تجاه العالم ، وتطبيق التغريب ليس مقتصراً على السائد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي إنما على الأشخاص والمواقف أيضاً، فالتغريب يتحقق في أسلوب الأداء التمثيلي وفي النص المكتوب وفي عناصر التنفيذ الأخرى))(1).
وكان بريشت مستلهماً مصادره من المسرح الشرقي ولاسيما المسرح الصيني والياباني ،  وتأثر بريشت  بمسرح النو الياباني وقد أعجبته المسرحيات اليابانية لأنها تقدم في حيز خالٍ من المناظر المسرحية وأداء الممثل فيها مؤسلباً ووجهه خال من أي تعبير وقطع الديكور قليلة ولها دلالات مباشرة وهذه المسرحيات تتميز بالبساطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)عبد الفتاح قلعة جي ، مصدر سابق ، من ص 73_ص74.


وترى (د.نهاد صليحة) في كتابها (المسرح بين الفن والفكر) في معرض حديثها عن نظرية (بريشت ) (( إن نظرية بريشت  الماركسية قامت على مبدأ هدم الايديولوجيا السائدة  والدعوة لايديولوجيا جديدة ، وأصرت أن يشارك المتفرج ايجابياً في العرض لإيقاظه نحو الفعل الثوري بهدف التغيير ، وأستن بريشت  مجموعة من القواعد الفنية في العرض من( ديكور وأسلوب تمثيل وشكل درامي ) هدفها هدم الإيهام والتعاطف الأرسطي وإثارة وعي المتفرج لتغيير واقعه تغيرا جذرياً شاملاً ، فكان فيلسوفاً للمسرح خلق نظرية فكرية متكاملة تغطي أوجه العرض سواء من ناحية النص أو التمثيل أو الديكور أو الأغاني والموسيقى ، وأفرز مسرحه الملحمي فروعاً كثيرة ً مثل المسرح الفقير في أمريكا اللاتينية والمسرح الوثائقي في أوروبا والمسرح البديل في انكلترا وأمريكا ))(1).
إن بريشت  استخدم نهج جديد في مسرحياته الملحمية للوصول إلى الصياغات المسرحية الملحمية وهذا ما يؤكده (سعد أردش ) في كتابه (المخرج في المسرح المعاصر) بأن     

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)د0نهاد صليحة ، المسرح بين الفن والفكر ،(بغداد : القاهرة ،مشروع النشر المشترك ،1985)،ص94_ص095

  ((بريشت ربط المسرح بالقضايا السياسية والاقتصادية وجعل  بريشت  يراعي في مسرحياته الملحمية بتغذيتها بالشعر وهذا ما نسميه المصالحة بين العلم والفن في الصياغة المسرحية الملحمية))(1).
وفي عام 1947في الولايات المتحدة تبدأ مرحلة النضج السياسي الحقيقي فيكتب مسرحياته الملحمية الطويلة دائرة الطباشير القوقازية والأم شجاعة والأم عن قصة ل(مكسيم غوركي) ومغامرات الجندي البطل شفايك في الحرب العالمية الثانية ومسرحية أنتيجونا عن (سوفوكليس) والقديسة جو ل(شو ).
ويرى (سعد أردش ) في كتابه (المخرج في المسرح المعاصر )أن هناك  اختلاف بين هدف بيسكاتور وهدف بريشت ((فهدف بيسكاتور ايقاظ النبض السياسي عند الجماهير بينما  بريشت  يثور الجماهير من خلال تعليمها وتوعيتها وكشف الحقائق المستفادة من  الواقع ومن التاريخ لا بقصد الخروج بحكمة من هذه الحقائق بل بقصد استفزازها للثورة على الواقع المفروض والتصدي عملياً لتغيير هذا الواقع ))(2).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)سعد أردش ، مصدر سابق ، ص0209
(2)المصدر نفسه ، ص0211


ويجد د(0سامي عبد الحميد )في كتابة (ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين ) أن هناك ((أختلافاً بين بيسكاتور وبريشت  1_ كان بيسكاتور يبتغي تاريخية لموضوعاته وجعل
أعماله معاصرة مثلاً (عاصفة على غوتلاند ) فليس هناك فرق بين صياد من القرون  الوسطى وثائر روسي حديث وهذا على خلاف مع بريشت.
2_ أراد بيسكاتور أن يشمل المتفرجين عاطفياً ، بينما بريشت  أبعدهم عن العاطفة.
3_ كان  بيسكاتور يستخدم الوسائط والمسطحات الهندسية والصور المنعكسة بينما مسرح  بريشت أبسط من مسرح  بيسكاتور 0
4_ مسرح بيسكاتور مسرح مخرج بينما مسرح  بريشت  مسرح مؤلف مسرحي))(1).
ويجد الباحث إن الملحمية التي استخدمها بريشت  في مسرحياته وفي نظريته (المسرح الملحمي ) تعود في أصولها الى الملاحم في بلاد اليونان والشرق القديم أي إلى ملحمة  الإلياذة والأوديسة عند اليونان وملحمة الخلود عند جلجامش أو حرب بولوف الضروس مع التنين في ملحمة بولوف أو ملحمة المهابهاراتا والرامايانا الهنديتين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)د0سامي عبد الحميد ، مصدر سابق ، ص178_ص0179

آمن  بريشت  بأن الإنسان ضحية القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية وهذا ما أكده (شكيب خوري ) في كتابه ( الكتابة وآلية التحليل ) (( ان مسرح بريشت  يبتعد فيه المتفرج عن العناصر التخديرية والإيهام والتعاطف ، وان الإنسان العادي ضحية القوى السياسية0 
والمدنية والعسكرية والطغيان الاقتصادي ومنذ عام 1949عندما عاد من المنفى كرس أعماله لمسرح سياسي تعليمي وكان المسرح الملحمي بديل عقلاني عن سحر المسرح القديم الذي خدر المشاهد ، وأراد مسرحياته شحنة _ تحريض _ أمل _ دواء تطهر الإنسان العادي من سموم المسارح التي تجنبت ولقرون محاسبة الفساد وسلطان الطغيان ، وكانت عروضه دعوات تحريض على الأوضاع اللاإنسانية وفضح الظلم ويدعو المشاهد إلى مناقشة أوضاعه واتخاذ القرار لينتقل من حالة سلبية إلى طاقة ايجابية فاعلة ومغيرة على الصعيدين السياسي والاجتماعي ))(1).



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شكيب خوري ، الكتابة وآلية التحليل  ، ط1 ، (بيروت : بيسان للنشر والتوزيع ، 2008)، ص214،ص215،ص0217

1 _ مسرحية الأم  1930 
إن السمات العلمية فقد توضحت في أجلى صورها في مسرحية ( الام ) المقتبسة عن رواية لـ (غوركي ) ، وهي مسرحية تعليمية أعدها عن قصة ل (مكسيم غوركي) بطولة زوجته (هيلينا فايكل ).
2 _ مسرحية دائرة الطباشير القوقازية     1933
((المسرحية في خمسة فصول عنوان الأول الطفل النبيل والثاني الفرار إلى الجبال الشمال والثالث في جبال الشمال والرابع حكاية القاضي والخامس دائرة الطباشير وهذه التقسيمات تخدم الهدف الأساسي للراوي لتوصيل مسألة أساسية التي طرحها ( بريشت ) على مستويين الأول في امتلاك الأرض على وفق المبدأ القائل ( الأرض لمن يزرعها ) والثاني (الأمومة لمن يرعاها ويؤدي واجبها من غير رابطة دم ) فطالب القاضي أن ترسم دائرة من الطباشير ويوضع الطفل في المنتصف والوالدتين تقومان بسحب الطفل والتي تجرها إليها هي الأم  فحكم القاضي (ازداك ) لصالح الخادمة ( جروشا ) التي تبنت الطفل ورعته بينما أمه الحقيقية هربت أثناء حصول الثورة وقتل زوجها في إحدى المدن ، وتبدأ المسرحية بنزاع 
فلاحين حول الحقل فيفصل في هذا الأمر لزارعي الحقل لأنهم الأكفأ على صعيد الإنتاج ، 
وهنا تظهر ايديولوجيا الماركسية ل  بريشت  من خلال الصراع الاجتماعي للعامل الاقتصادي ونظام الملكية الذي تبناه بريشت  ما بين حضانة الطفل وصراع الفلاحين على الأرض 0وتتضمن المسرحية قسمين : الأول هروب الخادمة (جروشا) من الجنود والثاني وصول (ازداك ) إلى منصب القضاء وأحكامه التي لا تتطابق مع القانون إن بريشت  تهيمن عليه فكرة الحرب وأدب الحرب التي هي أحد أركان  المسرح السياسي وهذه الفكرة أي فكرة الحرب بسبب دراسته للطب والخدمة في المستشفيات العسكرية خلال الحرب.
وشخصية (جروشا ) تبين حق الأم في تبني الطفل من أجل بناء مجتمع سليم وهي تلاقي لانتقاد من زوجة أخيها في طلبها بأن تترك الطفل وهي متمسكة فيه لحد النهاية))(1)   المسرحية فيها تقنية المسرح داخل مسرح التي ترجع أصولها إلى الكاتب الايطالي(( لويجي بيراندللو ) الذي أستخدمها كثيراً في مسرحياته مثل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن 
مؤلف ) و ( الليلة نرتجل ) و (كل شيخ له طريقة ) وهذه التقنية أي المسرح داخل مسرح ترجع إلى مسرحية ( هاملت ) ل (شكسبير ) و( كالديرون ) في مسرحية (الحياة حلم )) (1).
وفي (دائرة الطباشير القوقازية ) حيث يقوم أحد أعضاء الجمعيات التعاونية الزراعية بتمثيل قصة الملكة التي فقدت ابنها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر : بريشت ، مسرحية : دائرة الطباشير القوقازية  ، ترجمة : عبد الرحمن بدوي ،( القاهرة : الدار القومية للطباعة والنشر،
سلسلة روائع المسرح العالمي ، 1965)0

3_   مسرحية الاستثناء والقاعدة     1934
إن مسرحية (القرار) و( الاستثناء والقاعدة ) هما عملين تدريبيين مدرسيين يحملان عناصر أساسية من المسرح الدعائي التحريضي.
إن الشخصية الرئيسة في مسرحيته التعليمية والسياسية هي شخصية التاجر القاتل والمسرحية هذه قبل النازية لفضح السياسات الرجعية والتنبيه من خطر مجيء الفاشية والحديث عن الصراعات الطبقية وأن الفكر الاشتراكي هو الحل .
التاجر هو (كارل لونجمان ) يذهبان هو والحمال في رحلة والحمال يعطش فيشرب 
الماء من الجرة وإذا يتخيل التاجر بأن الحمال يحمل حجراً لقتله فيمسك بالمسدس ويقتل الحمال ويرديه وترفع قضية للمحكمة وترفع زوجة الحمال دعوة قضائية فيبرر التاجر بأنه فعل ذلك دفاعاً عن النفس ، إن النظام له قوة قانون وهذه هي القاعدة القوية التي تدير كل اللعبة والاستثناء الذي تبتكره أنت على قاعدتهم تكون أنت خاسر لا محالة ، هذا هو المنطق التعليمي التحريضي الذي يوضح أن الحمال هو الشعب الألماني الخاضع للطبقات التي تتحكم به أما التاجر هو النموذج للنازي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) ماري الياس ود0حنان القصاب ، المعجم المسرحي ، ط2 ،(بيروت : مكتبة لبنان :2006) ، ص0346

4 _ مسرحية حياة غاليلي   1934
الشخصية الرئيسة هو (غاليلي ) هو مؤسس الفيزياء الحديثة كعالم ويتخاذل أمام محاكم التفتيش ، لكنه يتابع عمله للتخلص من قوة الدكتاتورية وهو ينوي الوصول إلى الحقيقة وترويجها ، وفي المسرحية أدرك ( بريشت ) مدى خطر العلم إذا أستمر بمعزل عن التطور الاجتماعي. وهذه المسرحية منع عرضها في أمريكا ويقرر ترك أمريكا بسبب هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات التي ينتقد فيها سياسياً واجتماعياً الأوضاع التي تعيشها تلك الدولة.
كان بريشت يقصد من هذه المسرحية الاشارة الى ((طغيان وديكتاتورية هتلر وما كان يستخدمه من عداء ووحشية وقتل ضد العلماء والادباء حيث كان يستخدم سياسة القتل مع أي أحد حتى لو كان بختاف معه بالرأي أو القول))(1) 0

5 _    الأم شجاعة وأولادها أو الأم كورج وأبناؤها   1939
وهي مسرحية ملحمية سياسية ، فيها شخصية الأم مع أولادها الثلاثة( ايليف) الأكبر و(جورج )الطيب وابنتها (كاترينا )الخرساء ولها عربة تبيع بها الغذاء على الجنود يموت الحصان فيجر الأولاد العربة وتنصح أبنائها الثلاثة فتنصح (ايليف ) أن يبتعد عن القسوة وتنصح 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنيحيى علي عزاوي، فن المسرح والانسان الحديث،(بغداد:دارميزوبوتاميا،2014)،ص079
(جورج) أن يبتعد عن الطيبة وتنصح (كاترينا ) أن لا تكون حنونة ف( ايليف) ينظم إلى الجيش ويتهم بالخيانة ويعدم و(جورج) يسرق صندوق المال فيعدم أما ( كاترينا ) تستمر في قرع الطبول ويلقى عليها قذيفة وتقتل أما الأم تبقى تبيع الغذاء وهي غير مهتمة بما يجري لها ولأولادها ، فأن الشجاعة في نظرها في الاستمرار بالزراعة والبناء وإنجاب الأطفال في زمن 
الحرب وهذه المسرحية تنتمي إلى أدب الحرب وهي جزء من المسرح السياسي.
وفي النهاية من المسرحيات السياسية التي تنتمي إلى أدب الحرب0
6 _    مغامرات الجندي شفايك في الحرب العالمية الثانية عام  1942
وهي تحكي قصة جندي عائد من الحرب يعجز عن الانصهار في مجتمعه ويرى زملاءه قد انخرطوا في المجتمع ومارسوا حياتهم الطبيعية .
إن بريشت استفاد من المسرح الياباني والصيني والهندي والملهاة اليونانية واستخدام العنصر السردي الحكائي وتطوير تقنيات العرض في الديكور والإضاءة والموسيقى فطالب أن يكون الديكور شكلياً وبسيطاً والإضاءة قوية وواضحة للمشاهد وفرقة الموسيقى تظهر أمام الجمهور وهدم الجدار الرابع أن يجري تبديل المشاهد أمام الجمهور.

إذا كان المسرح السياسي عند كل من  بيسكاتور  وبريشت  يعد استجابة تلقائية من رجل المسرح لأحداث ما بين الحربين وبوجه خاص للأحداث التي مهدت الطريق للحرب العالمية الثانية الفاشية الايطالية والنازية الألمانية فقد تجاوز مسرح  بريشت هذا الهدف واستشراف التناقضات الأساسية بين رأس المال والإنسان ويحتضن قضية الاستعمار بالمعنى الواسع قديمه وحديثه ))(1).
إن السياسة لدى (بريشت ) مكاناً شاغراً ومشهداً فارغاً يتم فيه التبادل الاقتصادي الايديولوجي (( إن السياسة التي يشير إليها  بريشت على أنها مكان القرار تظل لديه مكاناً شاغراً ، إن السياسة تبدو لديه بصورة أكثر جذرية على أنها أمر غير مفكر فيه ومجرد مكان للتناقض ومشهد فارغ يتم فيه التبادل الاقتصادي والايديولوجي والعلم والأخلاق والمحبة الفردية والعدالة الطبقية ))(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سعد أردش ، مصدر سابق ، ص0218
(2)جاك رانسير، سياسة الادب ، ترجمة : سهيل أبو فخر ،(دمشق : وزارة الثقافة ،2011)،من ص124_ص0125

إن سبب الانهيار المسرح السياسي عند  بيسكاتور و بريشت والعالم عموماً يرجع لأسباب سياسية ، حيث ازدياد الوعي السياسي قد اصطدم بتنامي الرجعية السياسية في ألمانيا ، ومن ثمة أزمة في ميدان علم الجمال .
اضطر بريشت  عام 1933 إلى مغادرة ألمانيا بسبب ورود أسمه في اللائحة السوداء التي وضعها النازيون فغادر إلى الدنمارك إلى عام 1939ثم إلى السويد إلى عام 1940ثم إلى 
فلندة حتى عام 1941ثم إلى الاتحاد السوفيتي والى الولايات المتحدة الأمريكية في كاليفورنيا في مرحلة المنفى ناضل ضد الفاشية الهتلرية مستخدماً المسرح والسينما والإذاعة والصحافة ومنابر الخطابة في عام 1947غادر الولايات المتحدة الأمريكية عبر سويسرا إلى برلين وأسس فرقة (مسرح البرلينر انسامبل )عام 01949
ويبقى بريشت  واحداً من كبار كتاب المسرح ومنظريه في القرن العشرين بل حتى في تاريخ المسرح ككل.أما المسرح في أمريكا فقد تأثر بطبيعة الحال بالمسرح السياسي وذلك نظراً لوجود أهم وأكبر أثنين من زعامات المسرح السياسي في العالم ألا وهم (أيرفن بيسكاتور)و (بريتولد بريشت ).

الأربعاء، 23 مايو 2018

مسرحي عربي تحدى البنية الظلامية وسبق نظريات بريخت

مجلة الفنون المسرحية


مسرحي عربي تحدى البنية الظلامية وسبق نظريات بريخت

عواد علي - العرب


رحلة استثنائية لرائد المسرح العربي أبي خليل القباني إلى شيكاغو، فهو أول مسرحي أبهر الغرب قبل أن يحاربه البعض من السلفيين بسبب مسرحية بعينها.

أول جمهور لأول مسرح عربي
يتتبع الباحث والروائي تيسير خلف في كتابه "من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893"، رحلة فرقة الرائد المسرحي السوري أبي خليل القباني إلى شيكاغو لتقديم 8 مسرحيات قصيرة في “معرض شيكاغو الكولومبي” عام 1893، هي: الدراما الكردية، الدراما القلمونية، المروءة والوفاء، عرس دمشقي، عنتر بن شداد، هارون الرشيد، العروس التركية، والابن الضال.

كانت فرقة القباني تتألف من 58 ممثلا وعازفا وراقصا، أغلبهم شبان وشابات من بيروت، وجبل لبنان، ودمشق، وبيت لحم، والقدس، والناصرة، والسامرية، وحلب، والقسطنطينية، وإزمير، إلى جانب بعض الغجر من بلاد النهرين، وبعض البدو من الصحراء، لم يكونوا يمتلكون خبرة مسرحية سابقة، دربهم القباني شهورا عديدة في بيروت حتى أثمر التدريب نتائج مبهرة، استحقت ثناء كبريات الصحف الأميركية، فكتبت عنهم مقالات مطولة، وصل بعضها إلى مقارنة ممثلات الفرقة وراقصاتها بأشهر الممثلات والراقصات العالميات في ذلك الوقت. وفي المقابل، كان ثمّة تقييم آخر اتسم بسلبية مفرطة، يعود أصلها إلى الأوهام العميقة المترسّخة عن الشرق منذ الحروب الصليبية.

تجربة رائدة
يشير تيسير خلف إلى أن هذه التجربة، على أهميتها الاستثنائية، بقيت مجهولة في الأدبيات العربية، ولولا الصحافة الأميركية لما عرفنا عنها شيئا، وجلّ ما سمعناه أخبار مشوشة ومضطربة وغير دقيقة سطرها البعض من الكتّاب السوريين في منتصف القرن العشرين، مدفوعين بعواطفهم الجيّاشة‍، من دون توثيق أو معرفة بطبيعة هذه المشاركة وحيثياتها وظروفها ومآلاتها.

هذه التجربة المسرحية الاستثنائية بقيت مجهولة في الأدبيات العربية، ولولا الصحافة الأميركية لما عرفنا عنها شيئا


يدوّن تيسير خلف، بناءَ على الكتابات المنشورة في الصحافة الأميركية، مجموعة حقائق، لم نكن نعرفها عن مسرح أبي خليل القباني، تتعلق بالاحترافية العالية، والإبهار البصري، وتقنيات التمثيل والأداء، وعلاقة الخشبة بالصالة، وتوظيف الموسيقى دراميا، منها أن الذين كتبوا عن مسرحيته “عنتر بن شداد” تحدثوا عن مخاطبة الممثل للجمهور مباشرة في بعض المواقف، ولعل هذا يسبق تنظيرات الألماني برتولت بريخت حول كسر الجدار الرابع بين الجمهور والخشبة، بنصف قرن تقريبا.

 وهو استنتاج في غاية الأهمية، حسب رأيي، يؤكد ما ذهب إليه باحثون كثيرون من أن أبرز مصادر بريخت في كسر حالة الإيهام، التي تستحوذ على عقل المتفرج في المسرح، ليجعله واعيا ومشاركا في الفعل الدرامي، هو المسرح الشرقي. وتؤكد جميع المقالات التي كتبت حول أعمال الفرقة، حسب خلف، على فكرة الإبهار البصري متعدد المستويات.

هذا ما يتعلّق برحلة القباني، أما عن شخصية القباني نفسه، فيقول خلف، في تقديمه للرحلة، إنه أسس مسرحه في خان الجمرك على قواعد متينة، فأقبل الناس عليه، وملأ صيته الآفاق.

رحلة فريدة من نوعها
رحلة فريدة من نوعها
 ومن خلال قراءتي لبعض المراجع وجدت أن القباني أفاد كثيرا من مشاهدة العروض المسرحية التي كانت تقدمها فرقة مسرحية فرنسية في مدرسة “اللعازارية” بدمشق، حيث أخذ عنها فكرة عن المسرح والتمثيل وبعض التقنيات الفنية التي ساعدته في البدء بنشاطه المسرحي، في البيوت أولا، ثم في الخانات، ثم في مسرحه (أو مرسحه بلغة ذلك الزمان) الذي أقامه عام 1874 بتشجيع من الوالي العثماني صبحي باشا، لأهداف ثقافية وسياسية، تباينت آراء الكتاب الذين كتبوا سيرة القباني في تحليلها.

هذا المكان كان أول دار للمسرح في دمشق قدم فيها القباني بعض مسرحياته، قبل أن يحاربه البعض من السلفيين بسبب مسرحية بعينها، فقرر الانسحاب.

غير أن فئة منهم اعترضت عليه مجددا بدواع شتى، كما يقول خلف، وحاولت إيقافه عن طريق الوالي فلم تنجح، فانتدبت إلى القسطنطينية وفدا منها سعى لدى رجال السلطان إلى إيقاف القباني عن التمثيل في ولاية سوريا، وعن طريق الحيلة والدهاء نجح الوفد في مهمته، فشد القباني الرحال، مضطرا، إلى مصر عام 1884 طمعا بفسحة من الحرية.

مؤامرات على الفن
لقد حدثت ردّة الفعل الظلامية، التي واجهت تجربة القباني المسرحية، على الرغم من أن إقبال الشعب على مشاهدة مسرحياته كان يفوق الوصف، كما يقول حسني كنعان، ولذلك أحرز شهرة فائقة، متخطية سورية إلى البلدان المجاورة، بل بلغ افتتان الناس بمسرحياته، وخلبها لعقولهم “أن صار الفقير منهم الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول يبيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها، وكان لشدة الازدحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح، ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد الرواية”.

وقد فضح سعدالله ونوس في مقال له بعنوان “لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني” ما تعرّض له القباني وتجربته المسرحية الرائدة من مؤامرة رجعية دبرها البعض من السلفيين الدمشقيين ضده، فأدّت إلى منعه من التمثيل وغلق مسرحه بقرار من السلطان العثماني عبدالحميد، وإثارة الدهماء عليه من سواد الشام باسم الدين والحفاظ على الفضيلة.

أعمال أبي خليل القباني بشيكاغو لاقت ثناء كبيرا كما لاقت تقييما آخر سلبيا، يعود إلى الأوهام المترسخة عن الشرق


دفعت هذه المؤامرة القباني إلى مغادرة بلده صوب مصر ليواصل فيها نشاطه المسرحي سنوات عديدة، لكن مؤامرة قذرة بدأتها جريدة الزمان القاهرية ضده عام 1885، أرغمته أواسط عام 1886 على مغادرة مصر، والبحث عن أي حلول ممكنة في ولاية سوريا، وبالتحديد في مدينة بيروت، كما يذكر خلف.

ثم عاد مرة أخرى إلى القاهرة عام 1889 رفقة فريقه المسرحي الضخم، وفي جعبته عروض مسرحية جديدة رفعت سقف المنافسة في أرض الكنانة. إلا أنه واجه هذه المرة مصاعب كبيرة، فقد احترق مسرحه، وتشتتت فرقته في حادثة لم تكشف أي من الوثائق عن أسبابها، ويغلب الظن أنها من تدبير عناصر رجعية أيضا أرّقها انتقال “بدعته” من الشام إلى مصر، ونجاحه المتواصل في نشرها.

ويبدو أن الظروف قد تغيّرت في مصر آنذاك، فلم يجد من يعوّضه عن خسارته، ويدعمه مرة أخرى، ويفتح له أبواب مسرحه كما حدث في المرة الأولى حينما جاء مهاجرا، فعاد إلى سوريا، التي دفن فيها أحلامه، ليجد أن الحال في دمشق قد تبدّلت، ومات من مات من عشاق مسرحه، وهلك من هلك من مناوئيه، فلزم بيته معتزلاَ لا يقوى على العمل.

لقد بذل تيسير خلف جهدا بحثيا كبيرا في الحصول على الوثائق التي اعتمدها في صناعة هذه الرحلة الفريدة من نوعها في أدب الرحلة العربي، وهي وثائق عثمانية وأخبار ومقالات من الصحف الأميركية، إضافة إلى وثائق من أرشيف الخارجية الأميركية، ومعرض “شيكاغو الكولومبي” من معلومات وصور ألحقها بالكتاب، الذي استحق، عن جدارة، نيل جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2017 2018-. وصدر الكتاب مؤخرا عن المركز العربي للأدب الجغرافي (ارتياد الآفاق) في دولة الأمارات العربية المتحدة، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

سبع شخصيات عربية تعيش رهاب الإرهاب في محطة ميترو

مجلة الفنون المسرحية

سبع شخصيات عربية تعيش رهاب الإرهاب في محطة ميترو

العرب :


المسرحية العراقية "بوابة 7" تفضح وقائع عملية إرهابية بقسوة لغوية وجسدية ونفسية، وإدانة شديدة للأفكار السلفية والرجعية والراديكالية.
في العرض المسرحي العراقي “بوابة 7” الذي كتبت نصه عواطف نعيم، وأخرجه سنان العزاوي، يحمل سبعة أشخاص أيديولوجيات مختلفة، وهم المنتمون إلى بلدان عديدة: عراقيان، مغربي، تونسي، فرنسية، سورية ومصري يلتقون في محطة مترو في بقعة ما من العالم، وتشير وسائل الإعلام المجسدة على شاشة خلفية (داتا شو) إلى وجود إرهابي يحمل حزاما ناسفا في البوابة رقم 7، الأمر الذي يبعث الهلع في نفوس هؤلاء الأشخاص، ويدفعهم إلى الشك والتساؤل عمّن يكون هذا الإرهابي.

ومن هنا يشرعون في فضح الوقائع بقسوة لغوية وجسدية ونفسية، وإدانة شديدة للأفكار السلفية والرجعية والراديكالية، كل من منطلق فهمه وأيديولوجيته، فالرسامة الفرنسية (أدت دورها آشتي حديد) ترى أن جميع العرب إرهابون، وتستعيد برسمها صورة للنبي محمد، على نحو كاريكاتيري، حادثة المجلة الفرنسية “شارلي إيبدو” التي نشرت رسوما كاريكاتيرية له، لكن المصري الإخواني (ياسر قاسم) يعتبرها مذنبة، ويلطخ بيده الحمراء رسمها الكاريكاتيري، وهو يردّد آيةً من سورة الكوثر “إن شانئك هو الأبتر”.

أما هي فتصرخ بلغتها الفرنسية، وتدين تخريب رسمها، لأنه من وجهة نظرها مجرد عمل فني لا يملك محمولا سياسيا، ولا يستوجب كل هذا الانفعال والغضب، لكن المخرج لم يترجم حوارها إلى العربية، وإنما أورد معناه الأشخاص الآخرون بردودهم على الفرنسية، وكذلك من خلال بعض التلميحات المكتوبة التي هي من ضمن الفعل المسرحي.

 وقد كتب أحد النقاد المسرحيين عن ذلك، مشيرا إلى الهيمنة اللغوية “الكولونيالية” التي كشف عنها العراقيان بلهجتهما الدارجة، حيث خبأت وراءها أسرارا ومواربات فضحت الابن الداعشي (وسام عدنان) الذي ارتكب جريمة قتل شباب “سبايكر” وشقيقه من مجندي الجيش السابق، والأب (نظير جواد) الذي هرّب ولده إلى منطقة نائية، إلاّ أنه لم يستطع أن يخلصه من رائحته النتنة التي بقيت لصيقة به، ويطلب الابن ماء لينظف نتانته العصية على المحو بفعل القتل، في استعارة ذكية لدلالة الرائحة في حوار الليدي مكبث، لينتهي منتحرا على مرأى من الأب.

وكشف عرض “بوابة 7” الذي قدّم مؤخرا على مسرح الرافدين في بغداد عن مضمرات وأسرار جميع شخوصه، فالإخواني المصري يحاول أن يتستر بصلاته وتلاوته لمقاطع من القرآن مُمجدا “ثورته” المسروقة، حسب زعمه، ولائما العلمانيين والليبراليين على وأدهم لتلك الثورة “الشرعية”.

والعلماني التونسي (علاء قحطان) يفضح تيار الإسلام السياسي الذي سرق الثورة في بلاده، والمرأة السورية القادمة من الرقة (إسراء العبيدي) تعرّي بجرأة مغتصبيها الدواعش، واستباحة جسدها وإنسانيتها تحت مسمى “جهاد النكاح”.

أما المغربي، مهرب السلاح (حيدر خالد)، فقد كان “داينمو” العرض، ورابطا بين أحداثه، وكأنه استعاضة عن الجوقة الغنائية الإغريقية، بأداء ذي نفحة صوفية تحتفي بفكرة التصالح بين العلماني والديني/السلفي، إنه المعادل الموضوعي للمكبوت والنقيض معا، يقدّم “الدف” للإخواني، ويدعو المرأة السورية المجروحة للرقص على جمر أوجاعها.

وارتهنت جمالية العرض باللعب في الفضاء الافتراضي، المشكّل من سينوغرافيا تعبيرية، عبر بنى مشهدية تكرارية، مراقبة من قوة علوية، وشخص متستر يتصل بالهاتف الأرضي بالمحطة تارة ليزيد من حالة الخوف، ويقذف حقيبة التنصت تارة أخرى.

وجميع الأشخاص في ذلك الفضاء يتنصت بعضهم على بعض، وأسرارهم تفضحها كاميرا المراقبة، بينما تدير اللعبة الروح العلوية الملتبسة، وتنهي العرض بنهاية دائرية، دون ستارة، واستغاثات من قاطرة مهجورة تنفتح على المجهول.

الواقع والعبث في العرض المسرحي "دراما"

بطل عرض مسرحية "يا حريمة": قدمتها لروح صديقي الشهيد

الثلاثاء، 22 مايو 2018

مسرحية فلانه خطاب الانوثة المعوم والمضمر المحايث

مجلة الفنون المسرحية

                        مسرحية فلانه … خطاب الانوثة المعوم        

                                           والمضمر المحايث             

 د.يوسف رشيد                  



تأليف _ هوشنك وزيري

اخراج _حاتم عوده

مكان العرض _ منتدى المسرح / بغداد



من فضاء تداولي للموروث عن (السلطة الذكورية) ورواشحها الاجتماعية التي ظلت دهراً تحكم العلاقات الانسانية بقيمها ومبادئها وتحتفي بحضور (الذكر) على حساب (الانثى )وتمجد ذلك الفارس الذي ينجب ذكراً. اجتهد كل من مؤلف ومخرج مسرحية (فلانه) في التقاط حدود وابعاد لسنن متوقعه  في تلقي هذا الموضوع وفي هذه المرحلة من حياتنا بالذات, جاعلين من المحنة فضاءاً ل(الذكر) نفسه مثلما هي محنة ( الانثى ) وواضعين المرأة امام (الذكر) بأزمته (السايكودراميه) التي تمثلت بحياة معطلة ومغرقة بابعاد هذا العجز وتردداته وانعكاساته في مجتمع العرض , كبؤرة ثانويةً ارتقت بمضمراتها وحدودها لترفع يافطات احتجاج امام هذا العالم الذكوري المستبد وعبر التصدي بالنموذج المجاور لاشكالية الانطفاء الفحولي والوقائع الاخرى المترتبة عليه.

يندرج الخطاب الجمالي في مسرحية (فلانه) بخطاب ( سوسيو ثقافي) مستبطن اي ان ثمة تخارجات فكرية بين انساقه وتشكلاتها وبين فاعلية اليومي في الحياة , وهي مابين الغياب القصدي احيانا ,وما بين الحضور الخجل ,في ظبط دلالي لم يعطي نفسه في الوهلة الاولى الى فضاءات التاويل اذ بقي في حدود وظاهرية الازمة الانسانية التي تستدعي استجلاء بواطنها بالتحليل المتاني لوقائع مترامية الابعاد .

فالعتبة الاولى للنص كما تشير الدراسات هي العنوان : لذا فأن (فلانه) تدلنا على (اللاسم محدد) او مشخصن لتدور حوله الاحداث ,وهكذا فأنها جميع الشخوص معومة , و(فلانه)هي كل انثى , هذا يعني ان التعويم كان غاية بذاته وقد عمقته الصورة الاولى لدليل العرض  , احذيه واقدام نسائية مبهمه لا اجساد لها ولا شخوص تعرف لهم اسماء, فهذا التعويم ينطبق على جميع الشخوص ومجريات العرض ومفرداته التي عمد اليها المخرج, فالمكان معوم يلفه الدخان واللاهوية واضحه ,ومساقط ضوء ثابتة, رسمت بتعالقها مع الدخان لوحات سريالية كأنها ذاكرة مشوشة ,او صورة لحياة مبهمة ومعومة هي الاخرى , حيث اكد المخرج حضورها بأن حاول ان يؤنسنها  في شخوص افتراضية, تعامل معها خلال العرض الذي وصفه المخرج في كلمته (فلانه … انها عذابات اناثنا في عالمنا الذكوري بامتياز ) بقصدية التـأكيد على عمومية الازمة النسوية وقهرها الازلي بما لا يمكن الا ان يكون سببا لمنجز ينتمي الى الانساق الثقافية القابلة للمعالجة جماليا وفكريا , فكان قوام ذلك , الايغال في تعميق فكرة العمومي اللامحدد ,وفي تعميق ثنائيات التضاد في مقابل ..( ذكر _ انثى) وتعارضاتها (رجولة _ نكوص) في مقابل ( انوثه _ خذلان ) (رقة انثى _ قهر واستلاب ) … وكلها تفضي الى الخذلان وغياب الامل ليعبر عنه وبتشتيت العلاقة بين الموجودات  , وتوظيف مفردات هي الاخرى معومه في (اللامكان) (طبل _ سجادات صلاة) صلوات تتشطى قبلتها في تعددية اتجاهتها _ وشخوص لا علاقة لا احد بأحد حتى في توجهاتهم .(مايكروفونات) وكل يبث وجعه الداخلي بصوت الداخل كفعل اشهاري قصدي, اذ وضع المخرج مفرداته وتعامل معها بقصدية واعية من شأنها ان تثير شهية المتلقي في السياحة عبر محمولات هذا الخطاب الجمالي وبالتالي اعادة رصفها انتاجيا ,بمعنى ربما مغاير, ولكنه اكيد ينسجم مع معطيات لفرضية مجاورة او مغايرة تتشكل من خلالها (سنن) اخرى توظف ذات المعطيات هي (سنن المضمر )

فبرغم جريان العرض بألاتجاه (السايكودرامي) في محنة (الانثى) المحاصرة بين اضطهاد القيود الاجتماعية والاعراف الضاغطة وامتهانها ,لانها غير ولادة للذكر, وبين محنة (الذكر) ,وعجزه الجنسي وما تركه فيه من اثار نفسية وعدوانية جراء ما واجهه من حروب وضغوط يومية وفقر وعوامل بايولوجية اخرى , فكان هناك ثمة هوامش تغذي وتتغذى على المعطيات الدلالية التي افضى اليها العرض بحيث تشكلت في نسق تستشعره رغم انه مضمر, الا انه ظل بأعتباره نسقا ثقافيا مرجئاً , تبدو تمثلاته في ملامح حياتنا اليومية وما يمر به الانسان في مجتمعاتنا اليوم من نكوص وغياب للامل والانكسار والخذلان ,في ظل تبادل الادوار والعتمة التي تلف افق حياتنا  , وربما هذا النسق لم يكن هامشا وحسب, انما هو مركز مرجأ يظل عالقا في ذاكرة المتلقي منتظراً ما ستؤول اليه الاحداث باعتبار ان كل هامش هو مركز مؤجل ويصبح مركزا اذا ما اتيحت له الظروف المواتية .

فاحداث العرض تمسكت بالحدود الملمحية لمسرح محرض ,وظل من دونما تصريح, اذ ظل هلاميا متوجسا في التصدي بحدود العلاقة بين الانوثة المقهورة والعالم الذكوري المخذول وهو في اسوء صور ( الذكر ) بانهياره وتخليه عن بطولاته السالفة , وهذه الطبقة من العرض هي ايضاً  تدعو للتاويل, ولا ادعي ان هذه المشكلة لا تستحق ان تاخذ الصدارة في المستوى القرائي الاول ,ولكن رغم وقوعها في طبقات العرض الظاهرة الا انها لا تنطوي على البعد الدلالي الاعمق في اللاوعي الجمعي لقربها من سطح الواقع على حد (كاسيرر), في حين تنبئ البنية العميقة للعرض بعمق مستبطن يكمن فيها هو ذلك الذي يتجلى للقراءة التاويلية عن الهم الانساني الجمعي, اذا ما تم الحفر في طبقات هذا الخطاب  نصاً وعرضاً, ليفصح عن محمولات اكثر عمقا مما ظهر في النسق المشار اليه وضوحا والذي اذا ما حاولنا ارجاءه مؤقتا لرشحت في افق التوقع فكرة عمومية مجاورةً بكامل انضباطها الدلالي ويمكن للمؤول ان يشم رائحة اضمارها , فالخذلان وغياب الامل الذي تمر به حياتنا, هو ذلك العقم الاكبر والتراجع الذي اصاب فحولة الاقدام على التغيير والارتقاء بالحياة مع ما يواجهه الانسان من ضغوطات اجتماعية وسياسية واشكال الاستلاب والعقم السياسي الذي يظغط بتضاعيفه على انسانية الانسان ويجردها من قدراتها التوليدية,  كما النهاية التى  ختم بها العرض احداثه ,اذ  رغم كل الادعية والصلوات ,والسعي الحثيث لم تسعفه لا غيبيات , ولا حتى اعمال السحره , انه الموت والاضمحلال على قيد الوجود.

مقاربة العرض

جاء فتح الستار في بداية العرض بمثابة كشف عن هذا العالم السري المضمر والمغيب بدخان الهواجس وسياط الوجع النفسي الذي تمخضت عنه تلك الهمهمات التي تريد ان تتشكل في عبارة هي الواقع, عبر توظيف (المايكورفونات) كفعل قصدي في مقابل سرانية الازمة والاحساس بها ,والشعور بالانتكاس الذي لم تستطع الشخوص الافصاح عنه الا بكلمات مجتزئة لم تتضح ابعادها الا مع سريان العرض , حيث ينتظم البث العلامي في انساق تتراوح بين ايقونية المعلن وسرية المخفي _ الداخلي , ليفضي العرض عند المتلقي الى ثنائية كبرى , هي ثنائية العرض بواقعيته المرمزه وبين الواقع بوقائعه الموجعه ثم يغلق الستار على تلك الوقائع دون ان تفضي هذه الثنائية الى الاعلان عن تعارضها واحتجاجها اذا ما افترضنا ان مجرد فكرة الانتحار هي محظ احتجاج بائس وبات تقليديا لو نظرنا اليه على انه قرار ارادة انسانية مهزومة على الرغم ان فكرة الانتحار من جانب اخر, كانت يوما ما اشعالاً لفتيل متغيرات كبرى في حياة بعض الشعوب .

مقاربة التمثيل والاخراج

لان المخرج (عوده) كان على اتصال بالنظم الفكرية والدلالية لنص (هوشنك) فقد ابدى انحيازا واضحا لمعطيات النص مشتغلا عليها بتمفصلات وبملاحقة حركية وبصرية لتغطية فضاءات النص بالمعالجة البصرية و الايقاعية التي يمكن ان تضمن سلامة وصول روح العرض للمتلقي , لذا فهو يضع اعتبارا للنظم العلامية بتداوليتها وبدلالاتها وبتركيبيتها لتحقيق اكبر قدر من فضاءات النص , بوصفه ملفوظا يحقق تمثلات الفكر

لذا فقد انفتح خطاب التمثيل باتجاه نمط ينسجم وطبيعة هذه الازمة ( السوسيوثقافيه) و (السايكودراميه) في ان معا , بالاشتغال على الاحساس وعلى البصري في التعبير المدعم بالمسموع . وهذه فضلا عن انها مهمات اخراجية الا انها استدعت معالجات شخصية من الممثل لبناء الفضاءات الداخلية, كي تحقق تناغما بين الجو النفسي للعرض وبين الطبيعة الادائية للمثل , وهذا يستدعى طبعا استثمار عامل الخبرة في الاداء , لذا فقد جاء اختيار الممثلين موفقا من حيث تمتعهم بالخبرة وقدرتهم على تبني حالاتهم الادائية بمطواعية وباحساس جواني صادق , بما يتلائم وطبيعة العرض ومعالجته , وهكذا جاء اختياره (الاء نجم ) (البنت) التي عودتنا على تلقائية احساسها الداخلي , و (بشرى اسماعيل) التي اكتسبت بحضورها الخبروي الدائم مساحة راسخة في التعبير وهي تستند الى ارث من النجاحات في ادوارها التي كللتها بهذا العرض بدور (الام) كما استفاد المخرج من حضور وظل (باسل شبيب) بدور (الاب) الذي بدى منتمياً ومتسقاً مع ملامح الشخصية وصوتها واحساسها , بوصفها شخصية محورية , ونشيد بدور (عمر ضياء الدين ) لحضوره الصامت وهو ميزةً تحتسب له , فضلا عن توظيفه لخبرته الموسيقية في المساهمة بضبط ايقاع الاحداث التي جعل منها (حاتم عوده) نغمة مؤتلفة بالبساطة والارسال . واخيرا هناك المشاركة الطيبة  ل(نريمان القيسي ) في حضور تناوبت فيه مع الشخصيات الاخرى بشكل فاعل في تبادل الادوار , والمساعدة في ابراز تضاعيف الازمة الاشكالية التي عرضها النص بجهود فريق محترف من ممثلين وتقنيين حيث ينفرد المصمم المميز في عروض المسرح العراقي (علي السوداني) في خلق اضاءة تساوقت مع العرض وقدمت اجواء الازمة الروحية من الداخل والجو النفسي لعموم العرض بمساقط ضوئية عميقة الدلالات فيما شكلته من لوحة جمالية … واخيرا شكرا (هوشنك) مؤلفا لانك وضعت بايدينا نصا مجتمعيا واقعيا في بنيته غني بمحمولاته … وشكرا (حاتم عوده) مخرجا لكل نواياك الجمالية والفكرية في هذا العرض .

مسرحية " البوابة رقم 7 "

مجلة الفنون المسرحية


مسرحية خريف و التجريب بالواقع

مجلة الفنون المسرحية

مسرحية خريف و التجريب بالواقع

ظفار المفرجي 

مسرحية " خريف " إعداد و إخراج صميم حسب الله عن مسرحية ( رقابة مشددة ) للكاتب الفرنسي ( جان جينيه ) و مسرحية ( سرداب ) للكاتب العراقي ( حيدر جمعه ) 
تمثيل : يحيى إبراهيم
حيدر جمعه
هشام جواد
بهاء خيون
سينوغرافيا علي محمود السوداني 
عرضت المسرحية في بغداد على منتدى المسرح يوم السبت الموافق 27 / 8 / 2016
و عرضت على فضاء كاتدرائية ميديا تيك مكتبة يحيى بن عودة في مدينة وهران الجزائرية ضمن مهرجان المسرح العربي التاسع يوم الأربعاء 18 / 1 / 2017 
عرضت في مدينة مانهايم الألمانية في يوم الأحد المصادف 29 / 4 / 2018 
أهمية الموضوع
الاسم خريف هو أخر الفصول المناخية و هو النهاية في الميثولوجيا العراقية ، و رغم ان وصول الزمن الى الخريف يحمل بعض التشاؤم ، إلاإن دوران الزمن يفرض وجود الأمل في الربيع القادم ، الانبعاث و إن كان ليس في المنظور القريب ، و على هذا يعد خريف حقبة في الزمن تموت فيها أشياء و تنتظر ولادة أخرى ، و عليه فأن النص يشير الى خريف شيء ما ، و ولادة أخر مختلف و لكن قد يكون أسوأ ، و هكذا على المتلقي أن يتأمل و يقرأ قرأته الخاصة و يعرف ما الذي سيأتي ، كل بطريقته .
يبتدئ العرض بعد نهاية الحدث الرئيس فيه ، و هذا يعني أن الحدث هو فعل ماض ، و نص العرض فعل بزمن أخرأكثر قربا للحاضر ، زمن يقدم الأدلة لمواصلة التفكير و هو زمن الحدث في العرض  ، و هما زمنين مختلفين تماما ، ناهيك عن زمن التلقي و هو فعل أني فوري بفعل المواجهة ما بين المتلقي و الملقي و هو الأهم كما اعتقد لأننا نطلق الأحكام فيه و ينتمي إليه  زمن هذا المقال  . و الحدث المقصود هو فعل القتل و سلسلة الجرائم إبان فترة الطائفية في العراق  سيئة الصيت . و إن لم يشر نص العرض إلى ذلك صراحة ، كما ان نص المؤلف الذي حصلت عليه لا زال يحتفظ بأسماء شخصيات النصوص الأصلية لـ ( جان جينية ) ( )  و ( حيدر جمعة ) ( ) ذاتها .
و الاختلاف ما بين الأزمان يسمح لنا بالنظر إلى المشكلة  و تقييمها .. فالزمن الأول ( فترة الطائفية ) توقفت فيها الحياة و انحسرت ما بين الساعة التاسعة صباحا و الواحدة ظهرا ما يكفي لعمل فعل محدد واحد و العودة إلى المنزل ( المخبأ ) ، و هو زمن استباحت فيه القوات العسكرية المتنوعة الشوارع  ، القوات المحتلة ، جيوش لأكثر من عشرين دولة و ميليشيات و شركات أمنية و حمايات و أطراف أخرى و مع هذا حدثت تلك الأحداث ، و رغم وجود هذا العدد من القوات المدججة بالسلاح ، فأن الجثث كانت تترك في الشوارع و قرب المزابل و في المناطق المهجورة و اختفى فيها عدد كبير من الناس و إلى الأبد .  ما يسمح لنا في الزمنين التاليين من التساؤل ، هل يعرف القتلة كيف غيروا الإنسان العراقي و إلى الأبد ؟ و هل يعرفون حجم الفتنة التي زرعوها في وطنهم ، هم الأدوات حتما لأطراف خارجية ؟ هل هم نادمون ؟ هل عادت الحياة بعد تلك الأحداث و كأن شيئا لم يكن ؟ و هل هم على استعداد للتغيير في حال تم إجراء تغيير ؟ هل هم حجر عثرة في طريق إصلاح الحياة ؟ هل هم أصحاب قضية حقيقية لتستحق كل هذا الخراب ؟ و هل المشاركة في أفعالهم فعلا او بالتفرج و السكوت أو الهرب يصنع الحياة . ؟  و العرض المسرحي خريف  لا يقدم و لا يثير هذه الأسئلة كلها  إنما يدعونا للتأمل في الموضوع و تلك الأسئلة سنمر بها حتما بعد نهاية العرض ، و العرض  باختياره هذا الموضوع يغاير المعتاد ( و المعتاد هو الابتعاد عن المواضيع العالقة التي تثير الخلاف ) فكيف بواحد من اصعبها ؟ ،  و الموضوع في الحقيقة محرج ، يثير الالتباس و الريبة لدى البعض ، و بهذا فهو موضوع مسكوت عنه . لأن كثير  ممن شارك في الخلاف الطائفي او عانى منه  لا زالوا على قيد الحياة . و لازال كل ما حدث عالقا في مخيلته و ذاكرته يعيقه على مواصلة الحياة ، او تحوله نفسه الى عائق للحياة . 
المعالجة 
يحدث القتل في الواقع لا في عالم الخيال ، و القسوة تشعر بها متى شعرت بعالم الواقع لأنه عالم مادي لا تنفعك فيه إلا حواسك المعروفة ، لذا فأن من لا يجيدون استخدام حواسهم أو تحمل قسوة العالم الواقعي تراهم يلجئون الى عوالم أخرى ( الواقع الافتراضي ، الألعاب الالكترونية و ما إلى ذلك ، المخدرات ، المشروبات الكحولية ، الجنس ) و كلها عوالم هروب و خدر تصنع حاجزا بين من يتمتع بها و الواقع . لذا فمن الأفضل البحث عن الأجوبة في عالم الواقع في محيط الأسئلة  نفسه أو جانب منه ، و إن تبحث عن الردود الأكثر واقعية بصفتها الأكثر منطقية في الواقع نفسه  ، كما إن الفعل نفسه حدث في الواقع بصفته حدث تاريخي ، يعني حتمية تناوله بأسلوب واقعي أو تحت ضغط التجريب بالواقع ، مثل الأساليب الملحمية أو التسجيلية . 
و الواقع المحمل بكل تلك الأحداث الدامية هو واقع قاسي ، اسود ، كابوسي بسبب نتائجه التي يعاني منها العراق حتى اليوم ، و بالعودة إلى القصص التي أشيعت إبان فترة القتل الطائفي ، نجد إن الكثير منها حقيقي لأنه مسند ، و لكن الكثير منها أيضا غير حقيقي صاغه الخيال لسببين إن العقل البشري عقل يجنح إلى تهويل الأشياء و الثاني تقصد الأطراف المتحاربة تهويل صورتها بصفتها قاسية و قوية . 
و لم يبق أمام من يتصدى لهذه الفكرة في المسرح الا أن يختار اخف الصور التي تعالج هذه الفترة الدموية بسبب من صعوبة تصوير عمليات القتل بالصيغة الواردة من تلك الفترة و عدم رغبة المعد الخوض فيها . 
إلا إن الواقع يحتوي على جوانب أخرى تثير الالتباس هي ذاتها الجوانب سبب الخلاف مثل ( الدين و السياسة و الطائفية و المناطقية و اللهجة و أشياء أخرى )  فكان مهما ان يبتعد النص عن كل هذا ، و هو الأمر الذي اختاره المعد ، فلم يجنح النص لهذه الأسباب إلى الوثائقية أو الملحمية لأنه سيتجرد من الفعل الواقعي المعتاد و يضطر للتعليق على الأحداث من خارجها ، او إبداء رأيه في إحدى وثائقها ، و هو الأمر الذي يعني اشتراكه ضمنا في الفعل موضوع الجدل و لو بالوقوف على الحياد . و لم يتبق أمام النص إلا دفع المتلقي للبحث و التأمل  في الأسباب و النتائج النفسية الموجبة للإنسان القاتل و أسبابه و تبعات أفعاله مع إضافات إيهامية تمنح الحدث المصداقية و القوة الفنية مثل البيئة و المنظر و المكان ( مكان العرض ) رغم انه أشير إلى اختيار مكان العرض ( المنتدى ) ارتبط بضعف الإنتاج ، الأمر الذي يبرر الاختزال في المنظر و عناصر العرض .
إن إطلاق الأسئلة من قبيل كيف يمكن للقاتل الطائفي أن يقتل ضحاياه ؟ هي أسئلة يصعب الإجابة عليها لسببين إن فعل القتل لحظة القتل لا يتعلق بالطائفية بل بالقتل نفسه ، أي انه يشبه أي قاتل ، و الدليل إن كل من يثير أعصابه ساعة القتل المتأججة يمكن أن يقتل لأن القاتل ساعتها يرغب بالقتل ليشفي خلل نفسي داخله ، و ربما عقلي . 
أما التفكير بالمقتول على انه من طائفة أخرى فأنه يأتي بعد القتل ليبرر بها حاجته للقتل ، و عادة لا يختار القاتل ضحاياه بل يختارها له آخرون و هم قتلة و إن لم يقتلوا بأيديهم . و هم عمليا فقدو إنسانيتهم منذ زمن و تحولوا إلى حيوانات مفترسة لا يمكنك إقناعها ساعة القتل بالتخلي عن الافتراس ، لأنه إن لم يفترس سيموت ، أي تحولت الجريمة إلى مسألة بقاء . 
أي يبقى اقتراف الجريمة ناجم عن خلل نفسي داخلي ، أو ضغط خارجي يولد خلل داخلي ، و هي كلها مشاكل مسبقة في ذات القاتل يوفر لها بيئة من المبررات ليمارس القتل ، إن فعل القتل ( الجريمة ) تعني إيقاف إمكانية حل المشكلة النفسية و استعصاءها على الحل ، لأن جريمة القتل هي فعل قطيعة مع الحياة الطبيعية . إذن القاتل مريض قطع صلته بالحياة تماما و هو غير قادر على إصلاح هذه العلاقة لأن الآخرين ، كل الآخرين بمن فيهم أحباءه سيتحولون إلى طرائد في لحظات معينة يمكن قتلهم في أي لحظة متى أراد . 
و هكذا نجد إن الفصل بين مشاعر الإنسان المتشابهة حتى بين القتلة و خصوصية الموضوع الطائفي هو أمر ممكن و يغني الموضوع عند الأعداد للعمل و خصوصا الجانب الواقعي لأن استحضار الصور المتعلقة بالقتل و بقاء القاتل و المختطف في مكان واحد يمنح المعد مساحة من الحرية لافتراض أحداث ليس بالضرورة إنها حدثت لكنها تحدث في حوادث مشابهة ليس بالضرورة إنها طائفية ، ثم إضافة الحوار المتعلق بالطائفية .
و عليه فأن وجود القتلة هو حاجز أمام حل الموضوع الشائك لأنهم سيقفون بجانب الموت الذي يجيدونه ، لا إلى جانب الطرائد ( الأحياء منا ) و هكذا لم يعد لقضيتهم الأصلية معنى و لم تعد المبادئ التي من اجلها انضموا إلى الطائفة التي تدعو للدين أي معنى ، بينما سيقاتلون من اجل الاحتفاظ بالمكانة التي حققها لهم الخوف ، خوف الآخرين من الموت و الاحترام الزائف الذين حققوه ، و سيصبحون عبئا على أنصارهم الذين لا يجيدون القتل  .
و هذا التوجه يفرض خلق مساحة من الجدل و المواقف البينية بين شخصيات مريضة نفسيا ، مواقف يومية واقعية و حوارات تثير رأي القاتل في الجريمة التي اقترفها ، و لأن الحوار الصريح بدوره مؤلم و مثير للالتباس فأصبح من الضروري اختيار لغة ملغزة اختزالية نفسية قريبة من الشعر بقدر بقاءها واقعية ، ما يسمح بسبب هذه اللغة من خلق جو نفسي يصنع طقسا قاسيا مثيرا للتأمل و التفكير بالأمر برمته ، دون مواجهة مشكلة يتطلب حلها من قبل المتلقي . لأنها لم تحل في الواقع أصلا ، و أي حل سيقدم بهذه الطريقة سيثير جدلا بحجم دموية المشكلة . فكان هذا النص . 

إجراءات العرض
يتضح منذ البداية إبقاء و إضافة كل ما من شأنه أن يؤكد المنهج الواقعي التقليدي ابتداء من التمثيل و الحوار إلى المنظر و الحركة داخل المنظر بالإضافة إلى تجريد العرض من الزوائد ، لدعم التوجه الواقعي .
و زمن العرض ممتد و متجه مع مسير الزمن اليومي  المعتاد  و لم يتضمن أي عودة بالزمن ( فلاش باك ) فعلا إلا عبر الحوارات ، كما اقتطع الزمن مرة واحدة ما بين مشهد الخروج من الحمام و لكنه ظل متجها مع حركة الساعة ، كما إن الزمن عائم سري يعزز الإحساس بالغموض لأنه غير معلوم ان كان فجرا أو ليلا نهارا او مساءا . 
و المكان هو منطقة غير واضحة ما بين اللامكان و مكان العيش و السجن التي هي بملامح شرقية ، و بسبب وسائل الإيهام بالقسوة تحول المكان إلى قبو تعذيب سري
و من الواضح إن المخرج سعى منذ البداية لتصفية الأثاث و المكونات الزائدة مبقيا و معتمدا على الحدث المصنوع بأجساد الممثلين في فراغ زمني بيني عادة ما يحدث في الحياة ،  فاستعاض عن الأثاث بكراسي صغيرة شخصية يحملها الممثل معه أين ما حل ، بالأضافة الى دلالتها التي تشير الى استخدامها المزدوج ما بين عصى تساعد على المشي و كرسي للجلوس جاهز للفتح في اي مكان في الشارع و هي في الحالتين تساعد العاجز على التواصل مع الحياة ، و هم بهذا عجزة لا يمكنهم التواصل مع الحياة الا عبر طرق محددة عبر وسائل مساعدة ،  كما أضافت الإضاءة الليلية و انعكاسها الواقعي إيهاما ساعد واقعية التلقي مع المعمار الذي كان حجة العرض في انتمائه الطرازي للعراق و لم يقدم العرض أي دليل أخر على الطراز .  
و حول الحركة في الفراغ الزمني المشار إليه و  التي تحدث عادة في عالم الواقع يقوم خيال المخرج  بوظيفة ارشاده و  حواسه إلى الحدث فيوظف الممثلين أجسادهم ليتخيلوا أيضا و يبنوا الفرضيات على نص المخرج الذي أعاد بناءه انطلاقا من نصه المعد ، و من تلك الأفكار  : - 
1- كيف يتحرك الإنسان تحت ضغط فقدان الحواس ،  لو تم توثيق يديه و رجليه و عينيه ؟ خصوصا إذا تعرض إلى تعذيب و كان عقله يجهل مكان وجود الجسد و مع من يتواجد و لماذا ؟ كل شيء مجهول حتى الشعور بالمساحة و الزمن ؟
2- الأداء وسط إرسال دائم للشعور بعدم الثقة من الأخر منطقة حزام من الخوف و التحدي و حضور القسوة الجسدية و الإيحاء بالأقوى و الأضعف 
3- نقل كامل للصورة الآنية التي يتواجد فيها القتلة و رضوخ الأضعف و سيطرة الأقوى و ميل الجميع لإظهار الجانب الحيواني فيهم لبث الرعب في بعضهم عالم بوهيمي يخلو من الإنسانية تقريبا 
4- الإيهام بالقسوة مثل  خوف الشخصيات من الغرفة المتروكة  تجعل المتلقي يفكر في ماهية الغرفة و ما الذي تحتويه ، و لماذا تثير الرعب ، هل هي غرفة تعذيب عادي ، كهرباء ، قلع أظافر مثلا ، أم إنها غرفة للقتل غير الرحيم ؟؟ و مع إننا لا نرى كل ذلك فأن هناك قسوة في تركنا نتخيله . و الأمر ذاته ينطوي على الالتصاق بالحائط و الابتعاد عن القتلة الذين لا ينتبهون لوجود الضحايا و لكن متى ما انتبهوا ربما اشتهوا القتل ، و هكذا يتحاشى الضحية الموت بالصدفة ، و هي قسوة ، و إثارة حواس المتلقي بأصوات تتعلق بالقسوة مثل صوت الحديد و اصطدامه بالحائط ( السلسلة ) 
5- التجريب بالواقع عن طريق تقديم مشاهد تمثيلية بدون حوار و بطريقة طقسية ، و التركيز على اللمسة المحاذية للتمثيل مثل  لحظات الصمت في العرض التي تترافق معها الحركة ، و المشاهد المتوالية في البداية الطويلة بدون حوار ، إذ تمر أكثر من 15 دقيقة من العرض و الشخصيات لم تنطق ، بالإضافة إلى صورة الخروج من الحمام الطويل نسبيا ، ونقل  الإحساس بالراحة بعد الحمام و البخار الحار الذي يصطدم بالأرض الباردة خارج الحمام وعند تحولها الى طقس فأنها تتحول إلى  صورة غير معتادة  ، قدمت دلائل على دخول الأربعة إلى الحمام و ربما شذوذهم الجنسي ، حيث القوي يحكم الضعيف و الضعيف بالإضافة الى ممارسته دور الضعيف فأنه يقوم بالخدمة و دور التابع .. الخ ، و هو مشهد واقعي مكتمل نراه يحدث في سجون القتلة بالإضافة الى جماليته الآنية ، بطء الحركة وسط الدخان و الإضاءة الخلفية و الموسيقى المساندة  . 
كما يحتوي العرض على كسرين للأسلوب في نص العرض ، كسر فيهما المخرج أسلوبه الواقعي هما : - 
1- كسر السينوغراف الواقعية بالإضاءة التعبيرية التي وافق عليها المخرج بالإضافة إلى نافورة الدم التعبيرية التي مستمرة في ضخ الدم أسفل البناء
2- كسر ملحمي عن طريق حوار الممثل ( يحيى إبراهيم ) ( )  عندما خاطب المتلقين بشكل مباشر ( انتم ترسمون طريق الجحيم ، هل تعرفون ما هي اكبر خطاياكم ، إنكم ساكتين صامتين لم تتفوهوا بحرف ) 
و ينتهي العرض على نافورة الدم المستمرة و تلك إشارة تعبيرية رمزية لاستمرارها في الزمن بعد العرض 
التمثيل 
هناك مستويين من الشخصيات يقسم شخصيات العرض الأربعة بالتساوي هما : - 
1- شخصيات القتلة : و هي شخصيات غير سوية فالأول هرم يفقد ذاكرته و تصعب عليه القراءة  لأن الضحية الثانية تعودت إن تقرأ له رسائله الخاصة ، و هو  يضرب نفسه بطريقة شاذة كمريض نفسي بالحائط  ( مازوشي ) ( ) كما إن لديه عقلية حيوانية تتضح عندما يغضب لأنه يضرب قدميه بالأرض كثور يستعد للهجوم . و يعاني الثاني من العمى و من تهويمات ( شيزوفرينية ) ( ) تراه يبعد شيئا دائما من فضاء رأسه ربما رائحة عفنة أو قطرات دم 
2- شخصيات اضعف ( مختطفين ) و يبدو إنهم أكثر إنسانية من القتلة ، بسبب تعاملهم كأسوياء مع بعضهم و ميولهم الخفية للبحث عن الحرية و طريقة تحرير احدهم لنفسه بأن ينزل يده أسفل جسده كله ثم يخرجها من الأمام ليفتحها .
و قد وفر التمثيل بوصفه الأداة الرئيسية في العرض و المثالية للحدث الواقعي ، الإيهام بالقسوة عبر : - 
1- البوليسية  ، الدفع و الضرب و السحب بالقوة يصاحبه أنين و سعال و تأوهات 
2- استمرار السعال بعد خروج القتلة بمساندة الإضاءة الخافتة و طرازيه المكان القديمة كلها وفرت الإحساس بالوسخ و عدم نظافة المكان 
3- طريقة رمي الأجساد واحدا فوق الأخر 
4- اكتشاف إن الشخصيات بلا حواس سوى حاسة الشم التي تعطيك رموز للأشياء ، أي إن الصورة غير مكتملة لديهم لأن العينين و اليدين و القدمين موثقة ( مشدودة إلى بعضها )، و يعني ذلك التمثيل في ظل نقص الحواس ، و تلك عملية صعبة أدائية تؤدي إلى التركيز على الممثل و كيف سيتصرف ، كما لو كان في سيرك يتحرك على حبل ، و ان كان سينجح أم لا ، و هو على كل حال لن يتصرف على طبيعته بسبب هذا النقص ، ما ينتج مشهدا غير مألوف و مثير لأنه غير مألوف . و هي عملية قاسية لأنها تريك إنسانا تحت الضغط ، إنسان سوي يفقد حواسه ، أي انه ليس إنسانا فاقدا للحواس تدرب على فقدان حاسة ما  لزمن طويل 
5- تصوير عملية لا تكتمل لحرق إنسان بسكاره بعد صب وقود عليه و يتوقف القاتل عند سماعه الأذان ، في إشارة إلى تدينه و خوفه من الله ، و في الوقت الذي يعد فيه قتل النفس حرام فكيف بقتل الأخر ، إن الإشارة هنا ، إلى إن الله هو سبب إنقاذهم لا سبب موتهم . أي رغم إن القتل باسم الدين فأن حضور الدين أنقذهم من الموت ، و تلك مفارقة حقيقية .
6- الحوار يشير إلى الأحداث الدموية التي لم يتم الكشف عنها و قتل الناس في الخفاء و الجثث المجهولة التي لم تكن مجهولة قبل قتلها ، إنهم يصيدون ضحاياهم مثلما يصيد المفترس ضحيته . 
لم يكن يبدو إن القاتل في العرض قد قرر مسبقا قتل الضحية ، إلا في إشارات التهديد الآنية بسبب حوار أو تصرف تتصرفه الضحية فيهددها القاتل بالعقاب ، أي لم يشر العرض إلى إن القتلة  هنا و ضحاياهم من طائفتين متشاحنتين و لم يشر أي إشارة إلى أسباب وجودهم معا ، حتى إن الضحية يعترف بأنه شارك في الحرب الطائفية على لسان الممثل ( يحيى إبراهيم ) " كنا و لا زلنا نتخفى في الطرقات لكنكم لا تريدون النظر إلينا " ، و هو الأمر الذي يؤدي الى التباس في الفهم . بسبب قلة الأدلة على وجود الخلاف الطائفي .
و يتضح تمتع الممثلين بهدوء داخلي أو التزامهم بملاحظة الهدوء و البطء في الحركة ، ليتم التركيز على الفعل و الحدث بدل التركيز على أجساد الممثلين السريعة 
و الحوار في العرض مكثف اختزالي مركز المعنى مثل : - 
1- ريح فقط لن يفعل شيء = لا تخاف من ان يقتلك
2- عندما أتحدث عن جرائمي فأنني اعرف عن أي فزع أتحدث = بدل الحديث عن حوادث القتل التي اقترفها 
3- العمى ينتشر في كل مكان = لا احد يرى الحقيقة 
4- خمسون عاما مضت و هو لا يبالي بنا و لا يتذكر ( في إشارة إلى نوع واحد من القتلة القدماء الذين يمارسون القتل منذ سنين ) و يرد هو خمسون عاما و أنت تحاول إثارة الفتنة ( ويدل هذا على إن القاتل الثاني من فئة أخرى ) و لا يشير حوارا أخر إلى الخلاف الطائفي أو يوضح الاختلاف
و قد لاحظت الممثل  ) حيدر جمعة(    في عرضيين مسرحيين خلال الفترة الماضية ( تقاسيم على نغم الحياة ) و ( خريف ) و اكتشفت قدرته على عزل الشخصية و إعادة بناءها كما لو إخراجها ( لا ادري إن كان يجهد هو في بناءها أم يختارها على هذه الشاكلة ) لأن الشخصيتين مركبتين و تعاني من مشاكل نفسية ، لكنه يؤدي بتنظيم و برود ، و كأنه عازم على السيطرة ، و يتضح من أسلوب أداءه انه تدرب مليا على الشخصية و لكنه يختار أسلوبا مغايرا ذاك هو السيطرة المحسوبة . 
و يمتلك ) هشامجواد ) ( )  هدوءا يؤهله للحضور و بالمشاركة الحاضرة ، رغم إن الشخصية التي أداها كان حجمها اصغر ، و يبقى ( يحيى ابراهيم )  و ( بهاء خيون ) ( )  قادرين على المطاولة ، بهاء الذي تطور في الفترات الأخيرة على مستويات التحكم بالصوت و الحضور ، كما ان ( يحيى ابراهيم ) المتمكن أصلا من الشخصيات التي بها جهد جسدي 
المخرج 
إن من أهم مميزات المخرج ( د . صميم حسب الله ) ( ) هو قدرته على خلق فراغات في زمن نص المؤلف و يصنع فيه صورة مسرحية استنادا على فرضية من الحركة الواقعية غير المتوقعة ما يسمح بتحقيق جملة من الإشارات المسرحية بأسلوب سينمائي و يعد هذا من أساليب التجريب في الواقع ، و قد اتضحت هذه الخاصية جليا في مسرحيته ( جليد ) كما اذكر ( استخدم دراجة و فقاعات ) و كلها إشارات واقعية ، و تميز بهذا في ( خريف ) أيضا عبر الصراع الصامت الطويل بين الضحايا في البداية و مشهد ( نقص الحواس ) و مشهد ( الحمام ) ، كونها مشاهد لا وجود لها في النص الأصلي . و على الرغم من انه يعد نصوصه للعرض بشكل مباشر ما يعني إن الصور المسرحية المشار إليها قد لا تكون مركبة بل مكتوبة منذ البداية على نص العرض بوصفه النسخة الوحيدة من النص ، و لكن عدم وجود الصورة في نسخة النص النهائية يؤدي إلى استنتاج تركيبها اعتمادا على التخيل اللاحق أثناء تنفيذ عملية الإخراج . و رغم انه مقل في الإخراجإلاإن تجربتيه الأهم ( جليد ) و ( خريف ) مثل فيهما العراق في مهرجانات مسرحية متنوعة ، و هو يتميز بحسن قيادته لمجموعة من الشباب تتغير مع التجارب المسرحية المتواصلة . 
الأستنتاجات
1- يفضل استخدام اسلوب تجريبي واقعي  مع الأحداث التاريخية او التي تشير اليها مثل ( زوايا النظر و التكوين الواقعي غير التقليدية ، الحدث السينمائي المتداخل ، الحدث الملحمي ، الحدث الوثائقي ، تقديم و تأخير الزمن ،  الخ ) .
2- يمكن استخلاص صور مسرحية صامتة واقعية او خيالية اعتمادا على الأستنتاج ايضا ( من خارج النص ) ، مثل التساؤل حول اوجه التشابه بين شخصيات و احداث و تكوينات متشابهة ، ثم اضافة عناصر ايهام موحدة مع النص . 
3- ان لغة التخاطب داخل العرض يحدد مستوى الواقعية في العرض انطلاقا من ( الشعبي الدارج الى الوسطية البيضاء الى الملغزة الشعرية البسيطة الى المتعالية الشعرية ) و كل واحدة معيار زماني مضاف للعرض كالتكوين و تصميم الأشياء و اسلوب التأليف و الأخراج و يؤدي هذا الى تلقي مختلف ينجح حسب نسبة توافقه مع العرض 
4- يمكن تحقيق الأيهام بالقسوة عبر استفزاز الحواس اي بالصوت ( احتكاك الحديد بالحائط ، اصوات السكاكين ) و بالرائحة ( الروائح الخانقة او الكريهة ) او بالنظر الى ( حركات خطيرة قد تنتج الما او بقعة دم على قماش ابيض او الأيهام بالتعذيب ) و الأخبار المباشر بالحوار . 
5- يستخدم المخرج ( د . صميم حسب الله ) الأضافات على  نص المؤلف بأضافة  صورة مسرحية تعتمد النظر الى الواقع بطريقة غير مألوفة ما يسمح بتحقيق جملة من الإشارات المسرحية بأسلوب سينمائي و يعد هذا من أساليب التجريب في الواقع  . 


الاثنين، 21 مايو 2018

قراءة عابرة للمسرحية الأمازيغية «أودْم كْ تِسِّيتْ = «الوجه في المرآة» للمبدع المسرحي محمد حنصال

مجلة الفنون المسرحية
الصورة جانب من مسرحية "ورنيد أكيدرنيغ" وتعني بالعربية "زدني لأزيدك" لفرقة المسرح الجهوي لباتنة

قراءة  للمسرحية الأمازيغية «أودْم كْ تِسِّيتْ = «الوجه في المرآة» للمبدع المسرحي محمد حنصال

 لحسن ملواني ـ المغرب

كانت المسرحية ولا تزال من الفنون الأدبية والإبداعية الشائقة، فهي زيادة على إمتاعها للجمهور فن من خلاله نقدم رؤانا نحو الواقع ونحو الإنسان توصيفا ونقدا. فهي في الأخير وعاء إبداعي لتجسيد طموحاتنا والتعبير عن أفراحنا وأتراحنا.
ولقد حظي جمهور قلعة مكونة بالتفرج على مسرحية أمازيغية ممتعة، ويتعلق الأمر بمسرحية «أودم ك تسيت» التي قام بتشخيصها المبدع محمد حنصال.
صاحب مسرحيات رائعة - حسب نقاد - ومنها مسرحية «داها» وهي من تأليفه وتشخيصه وإخراج الوردي التهامي بوشعيب، ومسرحية «يدير ياضنين» وهي من تأليفه وتشخيصه، وإخراج عمر بديوي.
والمسرحية التي نحن بصدد تقديم قراءة عابرة لها من تشخيصه وتأليفه أيضا، وقد أمتع الجمهور المتذوق لهذا الفن الممتع الجميل والمعبر عن مكامن النفس والمجتمع.
المسرحية تحت عنوان « الوجه في المرآة « وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء 29 نونبر 2011م بدار الثقافة قلعة مكونة.
موضوع وفنية المسرحية:
المسرحية متشعبة التيمات ولكنها في ذات الوقت متوحدة المنظور والمسار نحو نهاية تجعل المتفرج يقف على كثير من الجوانب المتعلقة بالذاكرة والتاريخ وقضايا اجتماعية كثيرة تحتاج إلى إعادة النظر استحضارا ومعالجة. وقد اتخذ فضاء المُعتقل البؤرة الفضائية التي انطلقت منها الأفعال والأحداث التي تعكس تأزم البطل في علاقته بذاته والفضاء المحتضن له، وبذلك سيعيش أزمة الاغتراب ويحاول الاختراق للحاجز المعرقل بغية الاتصال بعالمه الحميمي المرسوخ في ذاكرته والذي يأبى أن يصير من المنسي والمطموس، لذا يلجأ إلى مخيلته وسيلة تعيده إلى العالم الذي حرم من الاستمرار في العيش فيه بكل الدفء والحميمية التي فُطِرَ عليها كيانه...
في المسرحية سيعود ليعيش فترات عبر المتخيل في الوقت الذي سيجد نفسه مقيدا في ذات المكان الذي كان وما يزال معقله الأول والأخير.
اخترق أحداث المسرحية لجوء الممثل إلى المرآة/ الصورة كملاذ يستبطن ذكريات وأحداث تعششت في الذاكرة... فقد لجأ إلى الصورة بغية التواصل مع أمه التي يبدو أنها وعدته بأن تنسج له زربية لتُزوجه فتاة يهواها، الأمر الذي سيفتح المجال أمامه كي يعبر بعبارات شعرية عما يكنه من احترام وإجلال إزاء هذه الأم التي ترمز إلى كثير من المعطيات والقضايا التي لها علاقة بوجوده وكيانه...
وحينما سيعود إلى صورتها تتحول إلى مرآة سيرى فيها وجها بملامح غريبة مخيفة، إنه وجهه الذي تغير بفعل الاغتراب في عمق الُمعتقل سنوات، وبعد ذلك سيبدو متصالحا مع ما آل إليه وجهه لينخرط في استرجاعات لذكريات ووقائع متشابكة ستجعله يتساءل مرات عن قضايا تؤجج ذاته المُنهكة، ومنها هويته، آماله، تاريخه، تاريخ بلدته...
ولقد أبدى الممثل في كل نسيج المسرحية حالته النفسية المعرقلة بالعقاب والوعيد المعيق لتحقيق المأمول.
في المسرحية:
ـ انتقاد للواقع.
ـ وضع اليد على المفارقات الفاضحة.
- محاولة تجاوز الصادم نحو المبتغى.
- السخرية من الذات.
- السخرية من الواقع.
- انتقاد الوضع انتقادا يجلب إليه العقاب دوما.
- توجيهات للتأمل في الأخطاء قصد تصحيحها «لا بأس أن نرى أنفسنا في المرايا».
- تشخيصات هازلة وأخرى جادة.
- الارتباط بواقعين: واقع كائن وواقع مأمول مركون في الذاكرة.
بهذه السمات وغيرها تدخل المسرحية في إطار ما يسمى بالكوميديا السوداء التي تعتمد على انتقاد الواقع انتقادا كاريكاتوريا يجمع بين الفكاهي والتراجيدي حوارا وحركات وكلما من شأنه أن يوصل رسائل تحمل التنديد أكثر مما تحمل الترفيه وإثارة الضحك فحسب... إنها الكوميديا المستفزة للمشاعر والداعية إلى إعادة التفكير في الظروف المعيشة وذلك بتقديمها عارية خارج الأستار والأحجبة.
وقد قدم محمد حنصال مسرحيته باحترافية متميزة، ساعده في ذلك حسن موضعة مؤثثات الفضاء واستغلالها استغلال انتفاعيا وفنيا ضمن المقصدية التي يوجه إليها مسار أحداث المسرحية وهذه المؤثثات بعضها رامز وبعضها استعمل كأداة استيحائية لأحداث تم استحضارها مع التعبير عبرها عن رؤى واقعية وأخرى مأمولة، وبعضها استخدم استخداما مباشرا ومنها الدف والآلة الموسيقية « الكنبري» وبعضها رامز إلى التراث الأمازيغي مجسدا في مجسم تعلوه بعض الملابس المعروفة في الأعراس والحفلات الأمازيغية. وبهذه الصفة شكل فضاء أحداث المسرحية فضاء لأيقونات تحمل خلفيات ثقافية وإنسانية لها عمق في التراث ووجدان الإنسان الأمازيغي..
المؤثرات الصوتية طعمت لغة السيناريو، وتمخض عن ذلك إبداع لوحات وأحداث مؤثرة وعميقة الإيحاء والإلفات إلى بؤس حياة البطل، فهي مؤثرات متجانسة في اتجاه احتضان الحدث ومنحه الشحنة التأثيرية المأمولة، فالضوء الأحمر وغيره متوحدا مع أصوات يجسد بعضها الطلقات وبعضها وقع السياط على الظهور وبعضها الهدوء «القصير» المؤقت، يعطي للحدث إطاره الكامل والمناسب. أما الزمن في المسرحية فهو غير محدد، فالبطل يعيش الماضي في الحاضر ويعيش الحاضر في الماضي، وحتى أغفاءاته القصيرة لا تؤشر على أي زمن (الليل مثلا حيث الخلود إلى النوم) وإنما نعتبر زمن المسرحية هو كل الزمن المحيط بالبطل من الطفولة حتى حاضره حيث صار كهلا فقد كل شيء إلا ما رسخ في ذاكرته.
أما المؤثرات الصوتية فقد أضفى أكثرها طابعا تراجيديا على الجو العام للمسرحية: أصوات السوط على الأجساد، صرخات وتأوهات...
علاوة على الموسيقى الأمازيغية مرفقة بأغنيات قصيرة لها علاقة بمعاناة البطل كممثل لطبقة معينة.
المسرحية تميزت بسيناريو منح للغة تألقا رامزا ومباشرا في نفس الآن. فقد اتخذ فيها الحوار والخطاب طابعا هو في مجمله أقرب إلى الشعر منه إلى الكلام العادي المبتذل. أما بناء المسرحية فقد جاء دائريا بدأ بالمعاناة وانتهى بالشكوى، بدأ بالخروج من المعتقل عبر الخيال ليجد نفسه داخل المعتقل وجودا واقعيا، وبذلك يموت حلم البطل قبل أن يبدأ.
الإنارة مستحسنة حولت بعض المشاهد في المسرحيات إلى لوحات تشكيلية معبرة تدل على الانحراق العابر لجسد الممثل، وننوه إلى حسن التخلص من لقطة إلى أخرى، تخلص يتقاطع فيه كل من فعل الإنارة والخطاب والقسمات المظهرة للحزن أو للفرح وفق مقتضى السيناريو المعتمد.
وتبقى مسرحية «أودْم كْ تسِّيتْ» = «الوجه في المرآة» عملا إبداعيا يستحق التشيع والاقتداء، فهو عمل توفرت فيه كل العناصر الدرامية بامتياز: حبكة مناسبة، أحداث متصلة بشكل دائري فرضه موضوعها ونظرة مؤلفها، تشخيص احترافي يؤشر على خبرة التقمص والأداء للمطلوب، فكرة مبتكرة إبداعيا وموضُوعا...كل ذلك ساهم في جعل المسرحية تقدم ملمحا إبداعيا يعزز الإضافات المسرحية المغربية الجادة.
لقد تمكن المثل محمد حنصال بخبرته وقدراته المتميزة من أن يضع الجمهور أما الواقع بصورة فنية فيها إيحاءات تجعلك تعيد التفكير في الحاضر والآتي وفي التاريخ وغير ذلك. وبهذا، فمسرحيته مسرحية تستحق التشجيع فنيا وجماليا وأداء.
إن تجربة محمد حنصال في مسرحيته تجربة فريدة تستدعي التأمل في التراث الأمازيغي الذي يعج بتيمات وموضوعات صالحة لتركيب أعمال مسرحية درامية تشكل قيمة إضافية إبداعيا وجماليا إلى التراث الأدبي الإنساني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
مسرحية «أودْم كْ تِسِّيتْ» = «الوجه في المرآة»
تأليف وتشخيص محمد حنصال، إخراج: جلول أعرج.
حصلت على جوائز قيمة في مهرجانات وطنية ودولية.

الأحد، 20 مايو 2018

تأسيس مهرجان "رم" للمسرح الأردني

التصور الدرامي

مجلة الفنون المسرحية






التصور الدرامي

لم يعايش الكثير من المسرحيين الشباب الممارسين اليوم ذلك الجدل الثقافي الذي عرفته الساحة المسرحية في العقود الأولى من حياة المسرح المغربي/ العربي والذي نجمله في كتابات كل من توفيق الحكيم في " قالبنا المسرحي " ، يوسف إدريس في " نحو مسرح عربي " وعبد الكريم برشيد في بياناته وكتابه " حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي".                                                                                         فالحكيم حاول الإجابة على السؤال العريض الطويل : " هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي وأن نستحدث لنا قالبا وشكلا مسرحيا مستخرجا من داخل أرضنا وباطن تراثنا ؟ " ويوسف إدريس شرح في كتابه مفهومه للشكل المسرحي الذي يطالب به كبديل للقالب التقليدي. أما عبد الكريم برشيد فقد حاول في بياناته تجاوز ما كتبه الحكيم ويوسف إدريس وعلى الراعي ... وكذا تعرية الزيف الذي كانت تغرق فيه جل المسرحيات العربية وخاصة ما اتصل منها بمفهوم الهزيمة.                                                          نعم ، لقد حدث انعطاف ملفت للنظر في مسار الإبداع العربي وفي البنية الذهنية والثقافية العربية نتيجة نكسة حزيران بتحولاتها وإحباطاتها وشعور المثقف العربي بهشاشة الواقع السياسي. هذا التحول شحن المسرح العربي بدفعة جديدة ودفعة أمل قوية جعلته يصاب بالشرخ نفسه الذي أصاب الممارسة الثقافية.                                                     فالعربي في مسرحية مرتجلة 11 شتنبر يجسد شخصية عايشت هذه الأحداث ، شخصية توقف الزمن لديها في حقبة أواخر الستينات وبداية السبعينات وظل يجتر كلما تمخضت عنه نقاشات هذه الفترة. فهل هو حال كل المسرحيين الذين عايشوا هذه الفترة ولم يروا أمانيهم تتحقق؟ أم أن نكسة 11 شتنبر 2001 سوف يكون لها نفس انعكاس حزيران 1967 على المسرحيين الشباب؟... سؤال نطرحه من خلال هذه التجربة المسرحية كما نحاول من خلالها إبراز آمال وطموحات وإيمان الأجيال من المسرحيين الشباب بمستقبل المسرح المغربي/ العربي والذي تعكسها شخصية المعطي.                                                         أما شخصية راضية فتمثل الطرف الثالث والأهم في العملية الإبداعية ألا وهو الجمهور الذي لا زال يفتقد إلى ثقافة مسرحية تجعله يجنح إلى السلبية والإعراض عن المسرح الجاد والإقبال على كلما يدغدغ عواطفه وأحاسيسه... إلى أن أصبح للتفاهة قوالب ومدارس وأعلام... 

ملخص مسرحية
مرتجلة 11 شتنبر

هذه المسرحية تؤرخ لفترة من الزمان المسرحي المغربي/ العربي ، زمن المخاض الذي عايشته الحركة المسرحية في محاولة تأسيس وتأصيل مسرح مغربي/ عربي. ورغم اختلاف وتباين الآراء فلقد ظل الخطاب يدور حول هوس التأسيس وإشكالية التنظير والممارسة ومحاول القطيعة مع الغرب أو الأخذ الواعي والفاهم لما هو إيجابي لديه حتى يصبح المسرح حاضرا كفعالية اجتماعية في التاريخ المغربي / العربي.                      جاءت هذه المسرحية لكي تبرز نوع النقاش الذي استمر لما يناهز ثلاثة عقود دون أن يفضي إلى أي نتيجة . ولكنه خلف وراءه ضحايا مجتمعية تختلف حسب المكان والزمان... فهذا العربي شخصية توقف الزمان لديها في اللحظة ذاتها جراء تعرضها لهزة نفسية وعصبية نتيجة اللحظات العصيبة التي قضاها في دهاليز التعذيب والاستنطاق عند الأميريكان في معتقل جوانتنامو بعد أحداث 11 شتنبر2001 كنموذج للمثقف المغربي / العربي ...                                                                                    العربي هاو للمسرح ، يذهب للولايات المتحدة الأمريكية لتعميق معرفته بالفن المسرحي. تسوقه الأقدار إلى مركز التجارة العالمية في اللحظة والساعة التي يتم فيها الاعتداء على العمارتين التوأم ...                                                                                يتم العثور على العربي بين الأنقاض ، ولكونه كان يهدي بلغة الضاد في حال غيبوبته ، يتم تصنيفه ضمن المشتبه فيهم ، وبالتالي إخضاعه إلى أبشع أنواع المسائلة والتحري لدرجة يفقد فيها السيطرة على أعصابه والتحكم في ملكاته الفكرية والعقلية تفضي إلى تحجر فكري. فتتوقف ذاكرته عند مرحلة سالفة. مرحلة ما قبل ذهابه إلى الولايات المتحدة الأمريكية بزمن. زمان المخاض المسرحي المغربي / العربي...   


الورقة التقنية

عنوان المسرحية : مرتجلة 11 شتنبر
تأليف وإخراج   : محمد خشلة
الإدارة التقنية    : عبد العثيق الكيناني 
السينوغرافيا     : يونس سلوان
الملابس         : رشيدة الهلالي 
الماكياج         : نعيمة الهلالي 
المحافظة العامة : فوزية سامري
المتابعة الإعلامية : محمد أمين 
تشخيص
فاطمة الزهراء الفيلالي
محسن الشركي
محمد العويسي
مدة العرض : 100 دقيقة




تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption