"مسرحية "من الآخر
المجلة المسرحية المتخصصة بفنون المسرح
"مسرح مترو"، يوحي بأننا في بيروت الأمس، بيروت الترامواي والباعة، بيروت الذكريات لمن ترعرعوا في براءتها قبل الحرب والعولمة وشبكات الاتصال التي خلقت بين الناس علاقات سريعة، أوتوماتيكية بلغة "إنفورماتية"، باردة، خالية من العاطفة، مهمتها إيصال الرسالة بأحرف هجينة من ابجدية ضائعة بين الشرق والغرب.
"مسرح مترو" هو كبقعة أثرية يتلهف لاكتشافها مَن في نفسه اشتياق إلى فنون بيروت الشعبية. منذ افتتاحه في بناية السارولا، الحمراء، أصبح ملتقى حميماً لجيل نمّى ذكرياته في الحرب ورواسبها، فإذا لم تفتح أمامه بحار الاغتراب، ففي بيروت المدينة الحديثة، الناهضة بذكرياتها الأليمة على ركام دمارها، مضى يتكيّف في بناء ذاته. أفيكون "مسرح مترو" هو تلك الذاكرة الضائعة التي باتت تشهد مع كل عرض حشداً من العطاش إلى هوية المدينة المستعادة؟
المقاعد الحمراء الأمامية محجوزة. فعايدة صبرا الدينامية، الديناميتية، تعرف اين تحطّ كلمتها والحركة معها في تفجير القاعة. تدفقُ الشبان والشابات إلى مسرحها يوحي بأن هذا هو المكان الذي يتوق إليه شبابٌ يبحث عن تواصل صريح، حر، بينه وبين الممثل، ينجم عنه تعارف وتواطؤ، حين تضاء الخشبة الصغيرة على الحدث المسرحي. إذ يعلو تجاذب عفوي بين الهنا والهناك، وتعليق يسعّر نار الطبخة الجامعة مقاديرها الحسية، الفجة، الطريفة، من العلاقات الزوجية على مدى عمر، ويبثها انفعالا.
في الليلة الثالثة من بدء مسرحية "من الآخر"، مونولوغ حامل عناوين دسمة لامرأة تبوح عاليا بما يكدّر حياة النساء مع أزواجهن، تمزجهن هذه الشقية في امرأة "صولو" تدوزن تعابير جسدها المحتدمة دوما على إيقاع الأمواج الزوجية العاتية. لا ينافسها في هذه القضية القديمة قدم الزمن سوى ضميرها الواعي ارتكابها معايير خاطئة في حق الرجل، وارتكابه أخطاء فادحة في حق جلالة المرأة. عايدة صبرا، في "من الآخر"، هي كل النساء في واحدة. بطلة ماراتونية في تحويش تفاصيل صغيرة وكبيرة من بيوت الناس كلصّة تتجسس على حياتهم، وأكثر لصوصية ودقة في فهرسة تجاربها الأنثوية وإعدادها مسرحا أنسيكلوبيديا تعثر فيه كل امرأة عما سها عنها، من عبارات تجد فيها الجالسة في مقعدها ما يحرّك ذاكرتها. عبارة أو أكثر، واحيانا كل ما في نص المسرحية من بدايات حلوة: "بالزمانات يا بيي شو كنا نهيّص والسهرة كنا نختمها بالسكس. وبعدين بكم لمسة وبالآخر كل واحد بطرف من التخت...".
من حولها ممثلان شابان، ماريليز عاد وإيلي نجم، يتحركان كلاعبَي خفة بالأكسسوارات المعدة للحالات الطارئة، إنابة عن ضميرها، تارةً هما ملاكها المخفف من شكوكها ولومها، وطوراً شيطانها الذي يستثير غيرتها وحقدها. فالأكسسوارات من أقنعة ورموز، تساير مزاج الممثلة وتزيد من طرافة المعنى، ولا سيما حين تهرع ماريليز بالمرآة وتقربها من وجهها لتصالحها مع أنوثتها أو لتدعها تتفقد سلامة عقلها: "ختيارة... قال، ما شاف حالو كيف صار متل البندورة المكرنشة وكعب الأجر المفسّخ". قد نتساءل من أين تأتي عايدة صبرا بهذه المفردات المجازية التي ترصّع بها انتقالها من موضوع إلى آخر من دون أن ينقطع لحظة الخيط الماسك حياة زوجين من النهاية حتى البداية، والعكس أيضا حين تلفحها الذكريات في "فلاش باك" من الحنين. فعايدة صبرا يقظة في معايشتها واقعاً تكتب فصوله تحت سقف واحد، حذقة، تدور بأحاسيس المرأة كرقصة قدرية لا بد لجسدين أن يختبراها في الحب والملل. هنا تعي نظرية الخطّين الموازيين اللذين لا يلتقيان.
بارعة عايدة صبرا في تصويرها لا بالريشة، إنما بعدسة أحاسيسها الأنثوية، العلاقات بين المرأة والرجل، لا بصيغة أدبية بل كما تتداولها في ما بينها أو كما تسمعنا إياها تزأر من داخلها بعفوية امرأة عطشى إلى الحب والكلمة الحنونة أو بأقل منها شغفا: "كيفك".
مي منسي
النهار
0 التعليقات:
إرسال تعليق