مناقشة رسالة الدكتوراه الموسمة "اشتغال العلامة ثقافيا في العرض المسرحي " للباحث احمد شرجي
مدونة مجلة الفنون المسرحية
تم في مناقشة رسالة الدكتوراه الموسومة "اشتغال العلامة ثقافيا في العرض المسرحي " في الثاني من شهر أكتوبر 2014 ، بقاعة الندوات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه، تقدم بها الباحث أحمد شريجي سدخان الزايدي في موضوع «اشتغال العلامة ثقافيا في العرض المسرحي». وتألفت لجنة المناقشة من الأساتذة: الدكتورة نورة لغزاري (رئيسة ومقررة)، والدكتورة نوال بنبراهيم(عضوة)، الدكتور سعيد كريمي (عضوا)، وأشرف عل إنجاز هذه الدراسة: الدكتور أحمد الغازي والدكتور سعيد الناجي. وبعد مناقشة علمية ناهزت أربع ساعات منح الباحث درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع تنويه اللجنة والتوصية بالطبع.
تحاول هذه الدراسة التي أعدها الباحث أحمد شرجي الاجابة عن التساؤلات التالية: هل يتشكل العرض وفق الثقافة التي أنتج داخلها، أم تبعا لثقافة النص؟. وفي حال انتقال العرض المسرحي إلى سياق مغاير، هل يستطيع المتلقي قراءة العلامات اللغوية والبصرية للعرض بقصديتها الإرسالية؟. وما هو تأثير ثقافة الممثل الأصلية على العرض؟. وهل يمكننا أن نتحدث عن سيميولوجيا العرض المسرحي في المسرح الحديث؟ أم أن السميولوجيا ذات خصوصية أدبية؟. وهل تخضع العلامة المسرحية لمبدأ الاعتباطية اللغوية؟ أم لاتفاق صناع العرض المسرحي؟. وهل يخضع العرض المسرحي ثقافيا للنص أم للعرض؟ وماذا عن ثقافة الممثلين، خاصة حين يتعلق الأمر بفريق مسرحي متعدد الثقافات؟. وهل يمكن تطبيق النظام الألسني (اللغوي) على العرض المسرحي؟، وهل استطاع المنهج السيميولوجي مسرحياً التوصل لآليات اشتغالية قارة، بعيدا عن تصورات اللسانيين؟.
وتنفتح هذه الدراسة على ثقافتين، هما: الثقافة الأوربية الهولاندية، والثقافة العربية(العراق والكويت)، من خلال نصين: الأول عراقي وهو (في أعالي الحب) للمؤلف فلاح شاكر، وقد تُرجم إلى الهولندية وقدمه المخرج Egon Van Enk كما قدم في العراق من إخراج فاضل خليل. ونص عالمي وهو (رتشارد الثالث) للإنجليزي وليام شكسبير، وقدمه في الكويت والمنطقة العربية وفي العديد من العواصم الأوربية المخرج الكويتي سليمان البسام، أما في هولندا فقدمه المخرج Mathijs Rümke.
لقد حرص الباحث في هذه الدراسة النقدية على تجاوز منحى تكرار المواقف وتلخيص مضمون الآراء. وفي هذا السياق استحدث مفاهيم ومصطلحات أسعفته في فتح مغاليق الدراسة من قبيل: نص العرض الجنين، ونص المتفرج الجنين، والعلامات الترحيلية، والعلامات الجيلية بغية الوقوف عند ماهية العلامة وثقافتها داخل العرض المسرحي. فهذا البحث خطوة بحثية في سيميولوجيا العرض المسرحي بدل سيميولوجيا المسرح التي تصطبغ بطابع عام لا يأخذ بعين الاعتبار إشكالية الخطاب المسرحي وخصوصية العرض. ولأن علامات العرض المسرحي ترتبط بالسياق الثقافي، فقد اختار الباحث نماذج منتقاة قُدمت في الثقافة العربية والهولندية. ولعلها أول دراسة تتناول العرض المسرحي الهولندي في الجامعة المغربية والعربية.
وجاءت الدراسة على الشكل التالي:
- مقدمة: كشف فيها الباحث الأسباب التي دعت إلى اختيار الموضوع والمنهج المتبع في الدراسة.
- الفصل الأول: “الثقافة من المفهوم الى النص”. وفيه حدد مفهوم الثقافة، ومحدداتها، وخصائصها من جهة. وعلاقة الثقافة بالبنيوية استنادا إلى رؤى كلود ليفي سترواس Claude Lévi-Strauss، ورولان بارت Roland Barthes مع التشديد على زمن العلامة وثقافتها وبيئتها من جهة ثانية. كما ركز اهتمامه في سيميوطيقيا الثقافة على مدرسة موسكو تارتوMoscow Tartu School والمدرسة الإيطالية.
- الفصل الثاني: ” نظريات السيميولوجيا”. وفيه وقف وقفة متأنية وفاحصة عند مفهوم العلامة عند فرديناند دي سوسير، وتشارلز سوندرس بورس، والمدارس اللغوية وخاصة: مدرسة موسكو، ومدرسة براغ اللغوية، والمدرسة الأمريكية اللغوية، ومدرسة كوبنهاكن اللغوية، ومدرسة باريس السيميائية.
- الفصل الثالث: “السيميولوجيا والعرض المسرحي”، وحاول فيه دراسة العلامة في المسرح، والنص الجنين، ونص العرض الجنين، ونص المتفرج الجنين، كما حرص على دراسة أنظمة علامات النص.
- الفصل الرابع: اتخذ طابعا تطبيقيا وعنونه بـ: “مسرحية في اعالي الحب: اشتغال العلامة بين ثقافتين (العراقية والهولاندية)”. وفيه كشف عن ثقافة العرض المسرحي العراقي (في أعالي الحب) وما تضمنته علاماته من دلالات، وما لحقه من تغير استوجبته عملية انتقاله الى سياق ثقافي مغاير، وهو السياق الغربي الهولندي تحديدا.
- الفصل الخامس: “مسرحية رتشارد الثالث بين ثقافتين”. وفيه تناول بالدراسة والتحليل نصا عالميا قُدم في الثقافة العربية الكويت والثقافة الغربية هولندا. فبعد أن أبرز ثقافة النص وعلاماته، انتقل إلى دراسة ثقافة العرض المسرحي الكويتي: “رتشارد الثالث: مأساة عربية”. ثم العرض المسرحي الهولندي “رتشارد الثالث”، بغية الوقوف عند مختلف التحولات التي تعرفها العلامة المسرحية في ترحالها من جهة، والكشف عن دلالتها الاجتماعية والثقافية من جهة ثانية.
وختم الباحث الدراسة بأهم الاستنتاجات التي توصل إليها. إضافة إلى ملحق خاص بصور النماذج المنتقاة في هذه الدراسة، بهدف توضيح مراحل تطور العرض وعلاماته، فضلا عن ملحق للأغاني المستخدمة في العرض الهولندي(رتشارد الثالث) بلغتها الإنجليزية، والتعريف بكيفية صنع العلامة الجيلية من خلال شرح مقتضب وصور توضيحية.
ونوجز أهم الاستنتاجات والخلاصات التي ترتبت عن هذه الدراسة القيمة فيما يلي:
- ينتمي العرض المسرحي إلى ثقافته البيئية والاجتماعية، من خلال القصدية الدلالية التي تضطلع بها علاماته الدرامية. وهي في مجملها علامات أيقونية، تكتسب معناها من خلال تداولها اليومي داخل المجتمع الذي تنتمي إليها. فالزي الاجتماعي والعلامات السمعية مثل: الأغاني، ودعاء القبر، والآذان، وتلاوة القرآن، والموال، إلخ، علامات أيقونية، تقرأ بقصديتها الاشتغالية داخل ثقافتها المنتجة، ويصعب قراءتها في ثقافة أخرى بالقصدية ذاتها.
- رغم أن العرض المسرحي عابر للثقافات، انطلاقا من انفتاح علاماته على أكثر من ثقافة مما يمنحه سمة الكونية، فإن العلامات المسرحية لا تكتسب معناها ولا تؤدي وظيفتها الاشتغالية إلا إذا أدرجت في سياق ثقافي محدد. فالعناصر المسرحية، تحمل خصوصية ثقافية محلية، وذات وظيفة اجتماعية، وتؤدي وظيفة قصدية في العرض المسرحي، بغية ترسيخ البعد الثقافي للعرض المسرحي. فالبذلة العسكرية في العرض العراقي (في أعالي الحب)، والسراويل الاسكتلندية القصيرة في العرض الهولندي (رتشارد الثالث)، والكوفية والعقال في العرض الكويتي (رتشارد الثالث: مأساة عربية)، كلها علامات أضفت على العروض المسرحية خصوصية ثقافية.
- ¬ وبما أن للنص الدرامي صفة اجتماعية على غرار اللغة، فإنه يسعى إلى عزل التعارضات الموسومة وغير الموسومة، أي: ترميز العلامات اللغوية والبصرية ضمن سياق محدد مسبقاً. وبالتالي فالنص الدرامي، يتسم بالثبات، مقابل اتصاف العرض المسرحي بالتغير. فقد خضع النص الدرامي العراقي (في أعالي الحب) والإنجليزي (رتشارد الثالث) إلى قراءة جديدة، عبر بناء عرض مسرحي نهج سياسية الهدم والبناء، حتى يتناسب العرض مع ثقافة الجمهور المستهدف. ويبدأ الاشتغال السيميولوجي لحظة عرض العرض المسرحي على الجمهور المستهدف الذي يحاول تفكيك الشفرات والعلامات التي أنتجتها العملية البنائية.
- ¬تشكل العادات، والسلوك، واللغة، مثلثا ثقافيا مجتمعيا. ويضم كل عنصر من هذه العناصر أنساقا متعددة، وعلامات، وإشارات، ورموزا ترسخت نتيجة الممارسة والتداول اليوميين. وليس بالضرورة أن تحمل هذه العلامات هوية ثقافية موحدة، إذ تتسم بطابعها التعددي، كما في العراق مثلا، حيث ثقافة إقليم كردستان، والثقافة الأمازيغية في المغرب… كما أن الوحدة اللغوية لا تعني الاتفاق الثقافي على مستوى العادات والتقاليد والسلوك، والعلامات الاجتماعية، إذ نلفي اختلافات على مستوى الملفوظ ووظيفة المفردة بين البلدان العربية -مثلا¬. فاللباس العربي (العقال والكوفية…) داخل منطقة الخليج، يمثل علامة ثقافية قائمة بذاتها، وتحيل من دون جهد تأويلي إلى مرجعية ثقافية معينة، والشيء ذاته بالنسبة للهجة. بيد أن اللباس العربي يمثل أيضا علامة تمايز طبقي واجتماعي بين الشخصيات العامة والأميرية، فاللباس الأميري يختلف من حيث الشكل الخارجي عن غيره.
- يعمل صناع العرض على ترسيخ البعد الثقافي داخل أنظمة العرض اللغوية والبصرية والسمعية، ما دام العرض يستهدف جمهورا ينتمي إلى الثقافة نفسها. ولذلك فإن العملية الاشتغالية في العرض المسرحي تعتمد ثنائية الهدم والبناء، والتركيب والاستبدال لكي تتوافق مع قصدية التوظيف. وتتحقق القراءة الجديدة للنص الدرامي، بوساطة ¬ النص الجنين ¬ونص العرض الجنين.
- ينتمي النص الدرامي إلى مرجعية ثقافية زمنية وتاريخية من خلال الحدث. فقد تضمن نص فلاح شاكر علامات ثقافية اجتماعية وعقائدية يصعب تفكيك شفراتها من قبل جمهور لا ينتمي إلى الثقافة العراقية، إذ يشير العرض إلى واقع الحرب العراقية الإيرانية. ولذلك رمزت المرأة داخل النص إلى المجتمع العراقي برمته: الأم، والحبيبة، والأخت، والزوجة. وكذلك الأمر بالنسبة لنص رتشارد الثالث. فهو يرتبط بمرجعية إنجليزية تاريخياً، وزمنيا، وثقافيا، ويتعلق الأمر بتاريخ بريطانيا وحروبها من أجل السيطرة على الأراضي الفرنسية. ومن ثم صراع الأسر على عرش إنكلترا. وبما أن الحدثين في نصي شاكر وشكسبير يرتبطان بمرجعية ثقافية محددة زمنيا وتاريخيا، ويحملان خصوصية ثقافية، فقد وجب أن يخضعا إلى عملية اشتغال جديدة قوامها الهدم والبناء، والتركيب والاستبدال، لكي يتساوقا مع الزمن الآني، وهو زمن العرض. فكلمة “الشهيد” لا تحمل بعدا رمزا ودينيا داخل الثقافة الهولندية، وكذلك علامة نذر المرأة وتعليقها للثوب أملا في عودة الغياب. ولهذا خضعت هذه العلامات لتغيير قصدي في العرض الهولندي، وتحول الجني بكل مرجعيته الرمزية داخل نص فلاح شاكر إلى شخصية أنثوية(جنية)، وفق ثقافة المجتمع الهولندي الذي يسوغ العلاقة المثلية ويتقبلها.
- ¬ ينتمي العرض المسرحي إلى بنيته الثقافية والاجتماعية من خلال منظومته اللغوية والبصرية والسمعية. ولذلك يحمل ملفوظ العرض لهجة محلية وبيئية كي تتوافق مع السياق الثقافي وقصديته. فالملفوظ يفرض مرجعية العلامات المرئية والسمعية، من أجل تحقيق التوافق بين عناصر العرض وثقافة العرض كما في العرض الكويتي “رتشارد الثالث: مأساة عربية”، والعرض العراقي والهولندي “في أعالي الحب/ الجني”، لأن العرض يستهدف جمهور ينتمي إلى ثقافته الأصلية في المقام الأول. ولذلك فحين ينتقل العرض إلى ثقافة أخرى لا تتحدث لغته، يصعب تفكيك شفراتها وعلاماتها الثقافية والعقائدية والبيئية. وعندها تتم المراهنة على وعي الجمهور لوضع مقاربات مرجعية للعلامات، قد لا تتفق مع قصديتها الإرسالية. كما في العرض الكويتي الذي أطاح بمجمل علامات النص الشكسبيري، واستبدلها بعلامات ثقافية واجتماعية تتساوق مع ثقافاته الخاصة، رغم أنه حافظ على أسماء الشخصيات وعنوان النص.
- ¬لا تملك العلامة ميزتها الكونية، ليس لعدم وجود نظام قار يحدد ذلك، بل لصيرورتها الاشتغالية ووظيفتها المجتمعية، كما في التلاحم الجسدي بين الرجال داخل الثقافة الواحدة، و تقبيل الرجال بعضهم بعضا، إذ تحيل هذه العلامات على المثلية داخل الكثير من المجتمعات الأوربية. لكن هذه العلامات نفسها تشير داخل المجتمعات العربية والإسلامية إلى الألفة ومتانة العلاقة. وعندها يفسر المتفرج الهولندي العلامات والإشارات التي يصدرها الجسد وفق ثقافاته بعيدا عن قصديتها ووظيفتها. والشيء ذاته في العرض الهولندي (الجني) الذي يتناول موضوعا اجتماعيا، هو العلاقات المثلية، فلن يؤول المتفرج العربي قصدية الإشارات الجسدية داخل العرض وفق قصدية صناع العرض، بل وفق ثقافته الخاصة، لأنه لا يعي لغة العرض ولا يفهم دلالات الملفوظ، وسيتعامل مع علامات العرض لوضع مقاربات ثقافية وفق مرجعيته الثقافي.
د. هشام بلهاشمي
0 التعليقات:
إرسال تعليق