حين ترفل اللغة جمالاً في مسرحيتي.. «الجثة المطـوّقة» و «الآباء يزدادون ضراوة»
مدونة مجلة الفنون المسرحية
محض مصادفة جعلتني التقي بكل ذلك الفيض من كلمات الوجد التي أغرقتني في بحر لجي من الافتتان الساحر باللغة وصفاء مفرداتها حباً وولهاً بأبطال قصصها العاديين.. جعلتهم مسرحيتا «الجثة المطوقة» و(الأجداد يزدادون ضراوة) لكاتب ياسين يسطعون نجوماً على خشبة المسرح التي تم تفصيلها بعناية على ورق سيناريو الكاتب الذي فاق وصفه الواقع سحراً وجمالاً. إن جمال اللغة في المسرحيتين زادتها الدكتورة ملكة أبيض بمقدمتها وترجمتها بهاءً, فنقلت النصوص المكتوبة باللغة الفرنسية إلى العربية بحرفية عالية وهي ترى في كاتب ياسين أشد كتّاب الجزائر عمقاً وأصالة, وأشدهم ارتباطاً بالماضي, فهو يقف عنده كما يقف المسافر في زورق تائه تتقاذفه الرياح والأمواج, وإنه ينصت للرياح التي تهب على الجزائر يحكي عن مواطنيه المتخاذلين, عمن أفقدتهم الصدمة صوابهم فجرفتهم إلى لجة الانحلال, عن الخونة والجواسيس يتحدث عن الوحش الفرنسي الضاري المنشب مخالبه في جسده, وينتقل من رياح الشر إلى نسمات الخلاص وكل ذلك بلغة بالغة الروعة واقعية إلى أبعد الحدود, رمزية حتى الإغراق وسفرية حتى لتفتت الأفئدة.
إن أبطال روايات كاتب ياسين ومسرحيتيه هم شباب ينتمون إلى قبيلة من البدو الرحل تقطن أحد جبال الأوراس قرب مدينة قسنطينة لها مضاربها ومزارها وكان الحكام الذين يفرضون سيطرتهم على الجزائر يهابونها فيضعون حامية من الجنود بالقرب منها خوفاً على سلامتهم وحذا الفرنسيون حذوهم ثم ما لبثوا أن قرروا محق القبيلة التي استفاقت يوماً على ضربة تجد نفسها من دون رئيس يلم شعثها ووجدت مسجدها أنقاضاً ومضاربها أطلالاً دارسة.
إن رموز كاتب ياسين (الأخضر, مصطفى) تتردد في كل مؤلفاته تقريباً لأن موضوعه هو الجزائر التي تصارع في سبيل الحياة والقوى المتصارعة عليها وسر رموزه في السيماء والألوان التي يضيفها عليها وفي الكلمات التي يجريها على لسانها, وفي الإطار الذي يحركها داخله وفي المواقف التي يجعلها تتخذها, واللغز يتوضح في الانفعالات التي يضرمها في صدورها والعلاقات التي يربط بها الرمز بالآخر وإذا بالقارئ يأنس في النهاية لهذه الشخصيات ويألفها ويكشف سر المؤلف.
- كتب المسرحيتين بالفرنسية, على الرغم من أن كاتب ياسين هو من أبرز الكتاب الجزائريين في هذا العصر وهو واحد ممن أفقدتهم السنوات الطويلة المظلمة على أمتنا العربية لغتهم الأم, ولاسيما أن الجزائر خضعت عقوداً طويلة لنير الاستعمار الفرنسي الذي حاول جاهداً طمس هوية الجزائريين بإحلال الثقافة واللغة الفرنسية منشأ جيل أفقدته تلك المرحلة قدرته على النطق بلغته فأصبح يرطن العربية كغريب حتى ليكاد يجهل حديث آبائه وأمهاته اللواتي كمن يلذن بالصمت حيناً وبالنواح أحياناً أخرى على أبنائهن و أزواجهن, ولاسيما في أتون المحرقة التي ذهبت بمليون شهيد من فلذات أكبادهن, ومن منهن لا يتذكر يوم الثامن من أيار عام 1945 الذي قتل فيه الفرنسيون 45 ألف متظاهر في يوم واحد وكانت غاية الفرنسيين في تلك المجازر تطهيراً عرقياً وإسكاتاً للشعلة المتقدة في النفوس, وهو ما عبرت عنه شخوص المسرحيتين الذين يتوقون إلى إنقاذ أنفسهم وبلادهم من التمزق والضياع اللذين أوجدهما المستعمرون, ولذلك نجد أسئلة تتردد على شفاههم سرعان ما يجدون لها جواباً ومفادها من نحن؟ وما هو موقفنا من آبائنا؟
وما موقفنا من المتخاذلين.؟ وما أمتنا؟
- مسرحيتان جديرتان بالقراءة وبتذوق طعم حلاوة اللغة في واقع مرّ لم يفقد الشخوص المتجسدة الأبطال المسرحيين صوابهم حتى وهم يتجرعون مرارة الموت وقساوته.
اسماعيل عبد الحي
0 التعليقات:
إرسال تعليق