قراءة معاصرة (مجلة المسرح الحسيني) بين السمو بروحانية النص الحداثوي... وتقليدية الطرح
مدونة مجلة الفنون المسرحية
سياق قراءة أي مجلة يبدأ المتلقي المتذوق في التصفح السريع أو قراءة عناوين من خلال الفهرست ..للبحث عن غايته التذوقية كي يمتع بصيرته وينور عقليته بالجديد الذي تطرحه المجلة من أسماء متخصصة في تصنيفها الأدبي والثقافي،ولكن حين أمسكت بيدي العدد الخامس من مجلة (المسرح الحسيني ) التي تصدر عن شعبة النشر / وحدة المسرح الحسيني في العتبة الحسينية المقدسة، وهي مجلة تعنى بالشأن المسرحي بشكل عام، والمسرح الحسيني بشكل خاص، والذي تزامن صدورها مع الأيام الأولى لمحرم الحرام لتثبيت هويتها في الثقافة العامة بفكر سيد الشهداء(عليه السلام) وتقريبها بشكل معاصر لذهنية المثقف الجاهل الذي يقف عند الباب علم الأئمة الأطهار..ويبحر في إشكالية الحق والباطل،لذلك ظهر الكثير من التنويريين للمنهجية أهل البيت عليهم السلام لتثبيت عقيدتهم وترسيخها وتجديدها،فعلى مر الأزمان يظهر رجال المدمنون على السير في قافلة العشق الحسيني يتفكرون،ويتساءلون، ماذا أراد الحسين (عليه السلام) في تضحيته الكبرى في واقعة ألطف؟ (المجلة) استذكرت بحرارة تلك المصيبة التي أبكت أملاك السماوات والأرض...بأقلام الحسينية ساهمت وشاركت، ومنحت المجلة متانة وعمق في المعلومة الحسينية بكافة أوجهها العلمية والبحثية والتحقيقية بصورة المسرح ، وهي تقدم للثقافة العربية والعراقية ما أنتجته الأزمان عبر خلود شخصية الحسين (عليه السلام) لتكون وباستمرار، تلك الفاجعة الأليمة بمثابة ثورة ضد كل طغيان العالم على مدار الأزمان،فلم تكن على ورق بارد مخزون على رفوف التاريخ، وإنما هي ثورة يحرق حروفها الورق ليجدد قيمها السماوية كل ما مرّت ذكراها.
شيخ كتاب المسرح الكربلائي
فكانت الافتتاحية التي كتبها رئيس تحريرها الأستاذ الباحث الحسيني رضا الخفاجي حملت عنوان (محمد علي الخفاجي في ذمة الخلود) هي بمثابة رد جميل لابن كربلاء الذي كتب (ثانية يجئ الحسين) وهي النكهة الحسينية في طقوسها، لكونها من القصائد الشعرية الحسينية الممسرحة بإسقاطاتها المسرحية بواقع حال العصر الذي تطوف به ألف معركة ضد الحسين (عليه السلام ) أمام ألاف من اليزيديين وأتباعهم...بنفس الوقت يستعرض (رضا الخفاجي ) أهم محطات الخفاجي الراحل الثقافية التي أشار بها إلى كربلائيته، وجذوره الثقافية فيها،ليقول.. بمقطع شعري من قصيدة قد قرأها في حفل تأبينه حيث ودعه صديقا وشقيقا ويأمل اللقاء به ثانيا حيث سيبقى حاضرا بين أدباء كربلاء بشكل خاص وأدباء العراق بشكل عام .
الموت حق والحياء عطاء والمانحون جميعهم أحياء
لم تكن الافتتاحية كل عطائه بل له صولة ثقافية متفتحة يحاول من خلالها تجديد في الفكر المسرحي الحسيني وتقديمه كنص ينتمي إلى الروحانية واضعا أسسا لذلك ويناشد كتاب النصوص المسرحية أن يحذو حذوه في خلق نص مسرحي من غياهب الروح المنتمية في جوهرها إلى ثورة بحجم ثورة الحسين بن علي (عليهما السلام ) هذا ما تم توضيحه في نص فلسفي في تصنيفه القرائي على مستوى البحث التاريخي بالصفحة (42) والذي سمي تحت عنوان (روحانية النص المسرحي الحسيني ) وهو نص ولنقل مقالة جديرة بالقراءة كما يطيب للآخرين تسميتها . شخصيا لم اقرأ للخفاجي شيئا إلا يسير ولكن حين اقتربت منه قرائيا عشقت كل حرف يكتبه إن كان شعرا أو مسرحا أو مقالة وكلما اقرأ اقترب منه أكثر ،رغم أن شكله لا يوحي لك انه كاتب لما يمتلك من حصافة متزنة وبساطة في التعامل وروح متسامحة وكياسة في تعامله مع الآخرين مذهلة في تواضعها وهو عملاق في أدواته الأدبية وتخصصه في ذات الحسين (عليه السلام) .. وقد أشار إلى هذا التواضع في كتابه (كربائيلو بيت الرب) حيث قال :الشعر أسمى من أن يستغل لتمجيد الطغاة !انه الروح في أسمى تألقها ،لذلك التصق الشعر بالحب والحب الإيمان والإيمان بالتجلي والتجلي بالقداسة ...لكم أن تحكموا على شخصية (رضا الخفاجي) وهو يكتب للثقافة العربية لكون (كربائيلو بيت الرب)من إصدارات بغداد عاصمة الثقافة العربية لإيصال فكره الحسيني بثقافة معاصرة تنتمي إلى لغة الأدب موجه إلى أدباء يجهلون من هو الإمام الحسين ( عليه السلام ) وما تحتويه ثورته من أفكار وتوجهات عقائدية،وما سر بقائها ؟، وما سر تناسلها باستمرار ؟ وما سر اتساعها فكرها عالميا؟ بعد أن كانت راية الحسين (عليه السلام) ترفع في كربلاء المقدسة فقط،ألآن ترفع في كل بقاع العالم بجدارة ولها هيبتها وروادها وعشاقها وشعراءها وكتابها وأدباؤها وباحثيها ومن يتلقون فهم الحسين عليه السلام بثقافة شمولية متصلة بتاريخ .
بذلك حاول (الخفاجي) من خلال روحانية النص المسرحي الحسيني وضع خطوات ضمنية وهي إرشادية،حاول أن يرشد بها كتاب النصوص المسرحية الحسينية وعلى كتابها أن يستوفوا شروطها كي يصلوا أو يقتربوا إلى الهدف العام للنص المسرحي الحسيني ومن هذه الشروط التي تطرق لها هي : الإيمان المطلق بما يكتب وعلى الكاتب أن يتقمص بحسية عالية أو يعيش الأجواء والطقوس الواجب توفرها في لحظة الكتابة، وهي تعد من روحانية النص لكي تكون مؤهلة في انتمائها،لتناول الفكر الحسيني في الأسباب والنتائج ومعالجة القضايا التي لها تماس مباشر بالفكر واستخلاص الدروس والعبر بالتأثيرات الفاعلة والايجابية بلغة عصرية،وهو ما يسعى إليه الخفاجي مع احترام الوثيقة التاريخية لربط الماضي بالحاضر بأسلوب انتقائي يخدم الرؤية الإبداعية ،هذا الباب الأول للدخول روح النص .أما الباب الثاني هو باب الإيمان المطلق بشخصية الحسين (عليه السلام) لكونه شخصية استثنائية مقدسة جمعت كل شرائط العصمة .الباب الثالث باب الإيمان بما نكتب ..أن نكون صادقين ونحن ننهل من فكر المدرسة الحسينية لان الإيمان والصدق هما الوسيلتان في سهولة الطريق إلى قلوب الآخرين ..بذلك يكون المسرح الحسيني جاهزا للانطلاقة وإبعاد كل ما هو لا ينتمي لمنطقته خاصة الطارئين على المسرح الحسيني .ولم يكتف بذلك بل خاطب من خلال طرحه الفضائيات التي تتبنى فكر آل البيت الأطهار،بل يدعوهم إلى جعل المسرح الحسيني من أوائل اهتماماتهم لكون المسرح مؤهل وقادر على تقديم الفكر الحسيني إلى العالم بأسلوب يحقق التواصل مع الشعوب وعلينا ان نجتهد في كيفية تسويقها لكي تكون مطلوبة ومؤثره دائما وبنفس الوقت تنير عقول الجاهلين ويعري النهج التكفيري المعادي للعقائد الأئمة عليهم السلام. هذا ما يدركه (رضا الخفاجي) لكونه معاصر ومجايل لكثير من الإحداث وعنده الثقة بأن الكثير من أبناء شعبنا أنفسهم لا يعرفون جوهر شخصية الحسين (عليه السلام) لذلك ينادي بخطاب أهمية وضرورة المسرح الحسيني ويعتبر وجود الفضائيات والانترنت والسينما والتلفزيون فرصة لنشر الفكر ألرسائلي والتوجيهي في فكر الحسين (عليه السلام ) ... مع كل هذه الجهود الحسينية يثبت رضا الخفاجي حسينيته المتشبعة بالحب الممزوج بالعشق الحسيني، وهو يتبرع للدولة وللمهتمين فيلم سينمائي روائي مكتوب عن سيد الشهداء وعلى القائمين الإخراج والإنتاج .
مسرحية سفير النور
ومن إبداعاته أيضا نص لمسرحية شعرية بعنوان ( سفير النور مسلم بن عقيل ) ص99 تجلى فيها وقدم قيم إنسانية سامية،ليضرب بها الشر المكنون في داخل الإنسان الطامع بما حوله والمتمني بالحياة المرفهة الممتلئة بالشهوة والسلطان والمال ليكتمل طغيانه ..طبعا المسرحية ذات زوايا لا تخلو من الدهشة في مضمون الحدث التاريخي المعروف والمسجل والمؤرخ في العديد من كتب التراث والدراسات العصرية ..حاول (رضا الخفاجي) إعطاء لمسة روحانية لنصه وهذا دأبه وغايته لكونه يدعي ككاتب وشاعر بأنه مبتكر (روحانية النص) أي النص الذي لا روح فيه يعد نصا تقليديا تنطوي أثاره بعرض واحد أو قراءة واحدة بينما النص الروحاني يمتلك زمام الروح فيجعل القارئ يلهث مع النص وهو يغور في أعماقه متحسسا كل أحداثه وكأنها أمامه بشكل واقعي يتألم مع النص ويفرح مع النص...وهذا ما عمل عليه (الخفاجي) في (سفير النور) كان الحدث أدراميا متصاعدا بلغة الشعر...فكلما تتقدم في قراءة النص تزداد انفعالا ويزداد الانفعال والتفاعل مع الأحداث حتى وصول مشهد القتل كانت الكلمات الشعرية تنطق ثلاث أصوات بكائية في شجونه أو هي تقرأ لحظة القتل المؤلم والبشع بصور شعرية حزينة ..وهي توعد الظالمين بسوء العاقبة مرددا :لم تكن في حساب الزمان سوى لحظة قائمة ...ويدخل الظلام فيبدأ المشهد الأخير بالظلام وكلام (طوعة):آه بن عقيل ...أدميت فم العصر بآيات البرهان ...فتقيا سم الأحداث ..كي يشعل فيها الإشجان ... هكذا تنتهي المسرحية بالظلام كما بدأها بالظلام وهذه مفارقة أو قصديه كتابية أشار الكاتب إليها قاصدا إن الحياة التي يملؤها الأئمة بالنور تنطفئ بمجرد قتلهم ..وبلا شك من بناء مسرحي متكامل عمل عليه بمهارة شيخ كتاب المسرح الكربلائي رضا الخفاجي.
إشارات مسرحية مهمة
وفي صفحة (5) مسرحية شهيد السلام للفنان والكاتب المسرحي عماد الصافي،وهي إشارات هامة لظهار نص يرتكز في حيثياته على الحسين (عليه السلام) كذلك هي أشبه بضوابط كرسها (الصافي) حول كتابة النصوص الحسينية وكيفية إظهار جوهرها من خلال العمل وهذا الجوهر هو الحسين (عليه السلام) كقضية،أي أن يكون الكل، والعكس صحيح..فيما أشار إلى عملية الإبداع التمثيلي للمسرح ويدعو إلى محاولة إشراك المتلقي (المشاهد) ضمنيا مع أحداث المسرحية ويعتقد بأنه أمر مهم جدا لكون المتلقي احد أطراف القضية الحسينية ... هذه هي مجمل ثيمة مقدمة مسرحيته (شهيد السلام) في قسميها وهما عبارة عن مجموعة من الأطفال ينقسمون إلى قسمين.. ماذا أراد أن يقول الصافي في مسرحية شهيد السلام ؟ ولماذا استخدم مجاميع الأطفال ليكونوا رواد لذلك نخوض في مخاض العمل الكتابي .
المسرحية هي عبارة عن قصائد شعرية متنوعة كتبت بلغة بليغة جدا وفيها التهويل والرعب من قبل صوت الكفر وقد سبق الصوت مجموعة من الأطفال الموزعة على اليمين واليسار ..القسم الأول بمثابة رواة المسرحية يقصون حكايتها ..أما القسم الثاني يعلنون القسم بالله أن يقولوا الحق..ومن ثم يدخل في حيثيات المسرحية التي نقلت جانب من جوانب معركة ألطف وزع الصافي أبطال مسرحيته بشكل يوحي إن ألطف قائم ولكن على شكل مجاميع معتمدا عل الصوت بالدرجة الأولى ..وما اختياره لمجاميع الأطفال إلا لخلق البراءة والصدق وإيحاء جميل مسرحيا بأن الأطفال لا يكذبون فلو تمكن مخرج ضليع في المسرح الحسيني أو مخرجا متمرسا في تصوير مشاهدها كفيلم أو تعد كمسلسل إذاعي والأخيرة أصلح لها في التوظيف الإخراجي ،لأخذت طريقها في الإبداع المرئي أو المسموع.إلى هنا الاكتمال في التوزيع ونستمر،ونتتبع خطوات عماد الصافي في سرد الحدث نجد المسرحية ذات طابع تاريخي معصرن بأحداثه..ولكن هناك ثغرات قد تضعف قيمة العمل كنص على الصافي أن يراعيها حين ارجز شعرا على لسان أبا الأحرار واقصد بالضعف ليس ببلاغة الشعر بل بعملية التضعيف الشخصي لشخص مثل الحسين (عليه السلام)، نحن أمام قضية فكرية يجب أن تطرح بتقريب واقعيتها وتحديث ما أنتجته من متغيرات في الوقت الراهن ..فأن كان لابد من استمرارية طرح أنموذجين احدهما للخير، وهي المجاميع التي تروي الحدث ،والأخر الشر وهو صوت الظلم ... على الصافي يلغي ظهور الحسين عليه السلام في بداية العرض ويكتفي بالمنشدين وبعض الأصوات لضرورة اكتمال صور واقعة ألطف كي يتحسسها المتلقي وينتظر بشغف الحدث القادم وهذا عنصر التشويق في المسرح... ويتم ظهور أبا الشهداء بعد صوت المجاميع الذين اعتبرهم أهل بيت النبوة الناطقين بنصرة الحسين (عليه السلام) ..وهذه جدلية العشق التي ينتمون إليها في قافلة العشق الحسيني ولم تكن جديدة في طرحها ولم تعاصر أحداثها أوجاع الحاضر ولم تنقل شيئا جديدا ..ولكنها كتبت بقلم فنان في أدواته المسرحية، فهي قابلة للتوظيف بمجالات عديدة .ولو توغلنا أكثر في قراءة أحداثها نقف عند ظهور النساء(ص14) وهن يحكين للجمهور بطولة أبا الفضل العباس (عليه السلام ) وهذا نص الكلام:
( قاتل قمر بني هاشم حتى ضعف عن القتال )... من قراءاتنا عبر التاريخ والمصادر والأحاديث وحتى الأحاديث المنبرية لم يمر عليّ إن العباس بن علي كان ضعيفا.. الكل تجمع على بسالته حتى ساعة استشهاده وهذه أيضا تحسب على كاتبنا وندعوه إلى رفعها أو معالجتها إن كان له قصديه أو غاية أو هي مطروحة كما هي في كتب التاريخ وسير الأئمة أو تعني بلاغة أخرى.تبان قوة مشاهد المسرحية بمصرع الحسين وهي تشرف على نهايتها يستدرك الكاتب إضافة عرض سينمائي أول عن قتال الحسين (عليه السلام ) ويختم بعرض أخر عن الإحداث الذي يعيشها العراق من قتل وتفجير وسبي وخطف وغيرها من عمليات الإجرام الأخرى.
الحر ...ضمير الحرية الخالد
أما في الصفحة (18) أيضا مسرحية بعنوان (الحر ضمير الحرية الخالد) للكاتب والقاص طالب عباس الظاهر .. النص يسحبك أن تقراه دون ملل وهو يبتعد عن الأسلوب النصوص المسرحية رغم توظيفه كمسرح إذاعي مسموع واعتقد هذا ما يفكر به (الظاهر) لكون شخصياته تتوزع بين صوت الحر والراوي وبينهما منولوج داخلي للحر...يبدأ الكاتب في مطلع نصه ...بتحدث الراوي عن تاريخ مرقد الحر ألرياحي .. وكأنه يصرخ بمعلوماته عبر الزمن ،وهي معلومات فياضة في طرحها لقلة الأشخاص الذين يعرفون خصوصية الحر وضريحه الشريف والكرامات التي جعلت أشخاصا يسعون إلى تشيد مرقده،وهذا من فضل الله حيث يسبب أسبابه لمن يريد أن يكونوا رموز طريقه الواحد.
لوتمعنا في عمق النص، نجد استخدام مصطلح الراوي في مخاض تجربة كتابة النص هو من باب التوظيف التاريخي المسند إلى أقوال وأحاديث وروايات وفعلا استخدمه الكاتب في مطلع نصه وكأنه خارج النص تماما ولكن يوحي لك ضمنيا مع النص لما لخصوصية العنوان والشخص المتمثل بالشهيد الحر ألرياحي احد شهداء واقعة ألطف الخالدة وهذه تعتمد على سعة خبرة الكاتب في تناول القضية التاريخية وقلبها عبر الأزمان لاستحداث أحداثها وفق الزمن الحالي وهذا ما كان يغرد به صوت الحر بلغة بليغة معاصرة لتظهر كينونة الحدث المتداول عبر أزمان متعددة وقراءته قراءة معاصرة التي ستقاد إلى أن تعطي لمن يقرأ تأملات قابلة للانتقال ،وتأملات مصدرة للوحي أي وحي على مستوى موهبتنا كقراء.
كل المتطلعين على التاريخ يؤكدون إن الوثائق التاريخية هي بمثابة ثوابت لحدث مكتوب بشواهد،ويأتي الباحث أو الأديب أو القارئ لتحريكها ظاهراتيا ،فالظاهراتية (الظاهراتي) يستطيع أو يملك الملكة بأن يوقظ بوعي الحدث التاريخي وبذلك يوقظ وعي المتلقي عند ألف حدث من الأحداث النائمة في بطون الكتب ليبهره.وهذا ما يفكر به الكاتب (طالب الظاهر) هو تجديد في صنع ظاهراتية التاريخ ليجعل عملية الوعي حاضرة.لذلك استخدم (الظاهر) الراوي في استنهاض التاريخ ليدخل في صراع بين الراوي وصوت الحر بمساجلات وظفها توظيفا بناء لتكوين مقارنات شخصية بين شخصية المتمثل بالحر وشخص الراوي الذي لا يشبه الراوي السارد لتاريخ مرقد وشخصية الحر.بل يختلف في طرحه تماما فهو يتساجل مع الحر بذات أهل البيت عليهم السلام (ويلك يا بن ألرياحي فمن تكون لتقرر بدلا عن ابن علي ،وهو حجة الله على عبادة....) بهذا التوظيف البليغ في اللغة يريد أن يصل أو يقول :إن بإمكان الإنسان أن يتحول إلى أي شيء أو يصير كل شيء ..من هنا ينطلق تاريخ شخص تناوله الفكر ليكون صيرورة إنسانية بعث بها الكاتب الحياة بنثيالات لغته وطرحه المتجدد في رؤى السيرة الذاتية التي تنقل لنا الماضي بصورة الحاضر وهذا ما حصل في تقريب شخصية الحر ألرياحي حاضرة ولكنها من صور الماضي المخلد.
ولكن هناك خطوط وضعها الكاتب بتأملات أخرى لا تنتمي لمنطقة التاريخ مستخدما هذه التأملات كظاهرة روحانية طبيعية جدا ،مفيدة جدا للاتزان الروحي والنفسي ...كما في المقطع (حرا خلق الإنسان ...ليواجه عبودية أهوائه ومطامعه وشهواته ،وحب الدنيا ..بلذة) ...فيجيبه صوت الحر(حرا جاء الإنسان ..كي يمضي حرا ....).
إذن (الظاهر) واع لجمال العالم وجمال التاريخ الذي يعيد إليه لحظة الحاضر بصورة الماضي ليحركها بوعي تاركا الروح تتداخل فيها لتثير شجن التعبير ونشعر ونتحسس في ذاتنا شيئا ما يسترخي ،وشيئا أخر يستيقظ.
الحر..ضمير الحرية الخالد..نص أعده بامتياز مسرحية إذاعية لما فيها من سجع نثري،يترأ للمتلقي وكأنه يقرأ شعرا ممسرحا ..تألق فيه الكاتب طالب عباس الظاهر إبداعيا لكونه خرج وترك التقليدي والمألوف في هذا النص وهو يرتقي به بلغة شعرية فياضة متفردة ..نصا متجدد لا يشبه نصا أخر ..فالكاتب المتجدد والحقيقي هو مزدوج اللغات ،وهو لا يخلط بين لغة التعبير واللغة الشاعرية ،وأي ترجمة لأحد هاتين اللغتين باللغة الأخرى هو عمل فقير ليس إلا .
تراتيل طالب الظاهر ... مرفوعة الى مقام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف
يعيد طالب عباس الظاهر رسم خطواته الإبداعية بنص مغاير جدا عما سبقه في ثيمة النص ولكن لم يخرج عن تساؤلاته الحياتية وحيرته في فضاء الكون كأنه يحمل ثقل الأرض على كتفيه،فيعيش هاجس الإنسانية التي تدمرها القرارات السياسية فتعكس سوء اعملها على الإنسان بصورة مباشرة فيكون ضحية الأطماع والجهل والتخلف السلطوي..اعتقد كتب نص(ترتيل) بانفعال داخلي وصرخة مدوية باتجاه السماء وهو يعقد الآمال إلى شخصية الحجة المنقذ الوحيد لهذه الإنسانية المنكوبة والمغلوبة على أمرها فيقول(يا عدل العدل ،وجمال الحق المحجوب ،يا مزهق روح الباطل...إنا نشكوك ما ألم بنا في عين الله)...لينتقل إلى وصف حالة الدمار والحرمان بسرد وصفي يثير دهشت المتلقي،لما جمعه الظاهر من صور متعددة من الانهيار الإنساني جسدا وروحا ..ويكرر قوله إنا نشكوه(إنا نشكوك) ما ألم بنا في عين الله،يبث الظاهر ألم شكواه في الحاضر الغائب فهو يذكر أحداثا قد سجلها التاريخ بحبر من عرق الخجل على أوراق العار والفشل وهي فاجعة كربلاء حين ذبح الحسين عليه السلام وعائلته لتبقى مصيبة عالقة في أذهان جميع البشر على مر الزمان فيقول (عاد التاريخ قبح سواته فقامت ثانية كربلاء الجرح)...وعلى رغم كل هذا الأسى يحلم بصبح قادم وموعد قريب فيمحق بعدله سراب الطغيان ..وهذه هي بعض أحلامه وشكواه يرسلها الى من يناجيه في هذه السطور الإبداعية الراقية،يعتبرها هي جزء من دوره كانسان وهذه هي رسالته التي من اجلها هو يكتب واعتقد إن الدين والعلم والفلسفة والفن والأدب قد أبلوا جميعا بلاء صادقا في توعية الإنسان... الترتيل طبعا ليس مسرحا وإنما نص إبداعي مكثف في إنسانيته يرتقي أن يكتب كأنشودة ممسرحة ..او يلقى كشعر لذا يكون نصا ثريا في كل مجالاته الفنية.
على حافة النص للدكتور علي مجيد البديري
نص مسرحي اختزل زاوية من زوايا أصحاب الركب العشقي في نينوى وهذه الزاوية كتب عنها الكثير وتناولتها الأقلام الحسينية في وفاء أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وهم يضعون أرواحهم فداء للحسين عليه السلام ...ركز د.علي مجيد البديري لشخصية زهير بن القين وزوجته دلهم بنت عمر وأخوها سعيد بن عمر ..في ثلاث مشاهد متصلة للمتلقي وهو ينظر بعين الكاتب لشخصيات تاريخية مخلدة ذاكرا التفاصيل الصغيرة التي قد لا تثير شيئا في عرضها ولكنها من مكملات العرض كخروج الطعام من صندوق تحيطه بضعة صرر وحولها يتم الحوارات..رغم سابقة فتح ستارة المسرح الذي يصحبها صوت الإمام الحسين عليه السلام :أما بعد فان من لحق بي استشهد...إلى أخر الحديث.وهكذا يكون الولوج إلى داخل فضاء العمل المسرحي كتابيا ...لو تمعنا في مطلع الاستهلال نجده محيرا وركيكا نوعا ما ..أي بداية النص المسرحي تقليدية لا يثير أية دهشة ...ولكن دراية الكاتب واضحة في لعبة كتابة النص المسرحي حيث تمكن من نقلك مباشرة إلى حالة تمنح النص إمكانية الطرح السليم على بث خطاب ألعقائدي ألولائي وخلق علاقة بين النص ككيان إبداعي مستقل ،فطرح الكاتب شخصية الصحابي زهير أدراميا بين ترك القتال والاستجابة وأخيرا يخوض زهير بن اليقين الحرب ويستشهد ..بهذه الحوارات أراد النص أن يصل من هم خيرة الحسين عليه السلام وخاصته لا أكثر بحبكة وصياغة مسرحية ..فيما ينتقل إلى المشهد الثالث نجد تغيرا كاملا في الأدوات والطرح وكأنها مسرحية جديدة وهي بذات الاستهلال الذي بدأ الكاتب يسرد مسرحيته في مشهدها الأول...ولكن بطل المشهد هو عبيد الله بن الحر الجعفي وقد أغنى الكاتب هذا المشهد بالمعلومة التاريخية وقد وظفها توظيفا مسرحيا معاصرا..يصل النص الى ذروته ببروز صوت زهير بن يقين (يرجز) ويحارب ومن ثم يظهر عبيد الله الجعفي أيضا يرجز بصوت حزين وهنا يضيف سنغرافيا بشرية تحمل أعلاما مكتوبا عليها لبيك يا حسين وهي علامات دلا لية انهم ممن يسيرون باتجاه الحسين عليه السلام وينتهي النص بالإنشاد وبنفس الصور البشرية ويسدل الستار.
فيما كتب يعقوب يوسف جبر الرفاعي ص (37) قراءة توظيفية لبكائية في النصوص الحسينية وقد أطلق عليها (البكائية في النص الحسيني)وأثرها عام على الإنسان موضحا بأنها تراجيديا التطهير النفسي معولا على ما جاء به بهذا الخصوص أرسطو.معطيا خصوصية التأثر الذهني الذي يحمله النص الحسيني في التلقي رابطها بسر خلود بعض المسرحيات العالمية لكونها تتقبل القراءة بصور متعددة ..وقد عزف على الحداثة بالنص وبنفس الوقت يشابها بصور القران الكريم لكونه يحمل هذه الخاصية.وقد استوفى عرض أداء الممثل برؤية حداثوية تكلم عنها بأسلوب عصري يمكن أن ندل به على معنيين في الشكل العام لعملية الأدائية للممثل وقد لا مسناها في القراءة والمعنى الأخر التصنع الواعي الذي يمارسه الكثير من الكتاب ويعبر عن وجهة نظر السائدة باتجاه العالم المعاصر.
رؤية بشكل عام حول مجلة المسرح الحسيني
إن المميزات التي وجدناه في كل ما جاء من كتابات ونصوص مسرحية وقراءات هي ميزات فردية تنسجم مع سياق المجلة في اختيار وحدة مواضيعها يدل على التخصص والبحث عن الارتقاء بالمسرح الحسيني ليواكب العالمية وهذا ما قراناه في أعمال المجلة بشكل عام باستثناء بحث دلالات اللون بين القران الكريم والفكر المعاصر . ومادام كل عمل يعد عالما مغلقا خاصا يمتاز بأسلوب وإيقاع معين فأننا لا نستطيع اقتراح صفة واحدة شاملة تصف أسلوب عصرنة ثورة الحسين عليه السلام بشكل حديث لذلك كانت قراءتنا منفصلة وفق رؤية كل مشارك بنص أو طرح مسرحي معين اي بمعنى تكون الحداثة بينهم حركة لها أسبابها وأصولها وتوجهاتها.
تفحصنا الاتجاهات المألوفة المشتركة بين المساهمين هناك بريق للحداثة في روحانية النص نتلمس حضورا للحداثة وجذورها على امتداد مسار صفحات المجلة .والحداثة باتجاه المسرح تعني التعامل مع أجواء المدينة والمجتمع تعاملا خياليا متعدد الجوانب لذلك الكاتب الذي يصور المدينة الخيالية لحادث مخلد ويحوله الى ثورة على شكل حديث ونفورها من التقاليد الراسخة واستخدامها الصور التهكمية الذكية واعتمادها المشاعر المترابطة وتصويرها الآلام التي تفرزها مصيبة الحسين عليه السلام في كل زمان ومكان.
نقول ان جوانب من هذه النتاجات تتماشى مع بعض جوانب الحداثة في تطوير المسرح الحسيني خاصة تلك الجوانب التي تؤكد دراسة العوالم المخفية في حياة رجل مقدس كالحسين عليه السلام وتحويلها الى روح تنبض الحياة .وأخيرا من الواضح إن هناك في كل هذه الآراء والقراءات اتفاقا ضمنيا على كون الحداثة كانت ظاهرة في أغلبية النصوص وهي ظاهرة عصرنة تاريخية متطورة واكبت فترات من التأزم والتألق لتخلق عنصر الدهشة في أسلوبها الحداثوي الذي يسير بمسار المسرح الحسيني ..التوفيق والتألق لهذا الجهد الكبير في بناء مجلة ذات قيمة ثقافية أدبية متعالية مسرحيا .
حيدر عاشور العبيدي
0 التعليقات:
إرسال تعليق