الشخصيات.. الرجل العجوز ..الأول ..الفتاة ..الثاني ..الثالث ..الرابع ..كومبارس .
المنظر : في العمق سفح واد منحنى من أسفل يسار المسرح الى أسفل اليمين، مليء بالهياكل العظمية والجماجم البشرية والحيوانية المبعثرة ، فوق أطرافه لهيب نيران وتصاعد دخان .
إنارة خافتة.. صوت رياح قوية ، توحي بالرعب ، يتخللها أزيز طائرات وأصوات انفجارات وصراخ .
(يظهر رجل عجوز في عمق الوادي ، شعر رأسه طويل ولحيته البيضاء متدلية على صدره العاري ، يرتدي إزار الى ركبتيه ،إنه شبه عار، يتكئ على عصا طويلة وينظر بجنون حوله).
: احترق الوادي بنيران الانتقام وأصبحت الكائنات مشوهة .. مسحوقة تشبه الرماد ..غادرنا العلم وهجرتنا المعرفة وماتت الأخلاق .. إنها لمؤامرة كبرى ومهزلة عظمى ..الطوفان قادم من مشرقها ومغربها .. من يوقف السيل القادم من هناك ؟..من يوقف أنهار الدماء؟.. من يردم تلك الأهوار الحمراء وينقذ الانسان من قبضة الإنسان ..من غضب الوحش القابع في روحه البشعة ؟..من ينقذ الانسان من الحقد والكراهية والانتقام ؟..من ينتشله من وحل السفاهة ومن الأفكار الهمجية التي حولته الى كائن أدنى من مرتبة الحيوان .. حولته الى وحش كاسر يمزق حتى نفسه إن لم يجد ضحيته ؟ (ينظر اليهم بغضب) لا أحد يوقف النزيف ويأتي بالفرح من عين الشمس .. لا أحد مهتم لما يحدث هنا قد مات الانسان ، مات الانسان (يصرخ) مات الانسان ..أصبح من العدم(يبكي)..الكل يقتل ويسرق ،الكل يرهب من يخالفه ..أشم رائحة القتل في الهواء ..رائحة الجريمة في كل مكان.. إنها لمؤامرة كبرى .. ستسحقنا .. ستسحقنا .(يختفي).
الأول: وتجعلنا رميما .. تذرنا ريح (ينهض من خلف صخرة في وسط الوسط بملابس رثة ، يكمل) المكر والخداع في كل مكان .. نحن بقايا الأموات ، ثلة من أهل الوادي ، كلنا يترقب الآخر ليوقع به أو يبيعه بثمن بخس ، حفنة من الدولارات ..الوادي مليء بالكائنات الغريبة ..كائنات قريبة عن مرأى البصر وأخرى بعيدة ، قدمت من أمكنة قصية .. جاءت بالنار والحديد .. تهشم الرؤوس وتكسر العظام وتمص دماء الأرض ودماء الأجساد ..وتلغي الوجود .. هناك عاصفة سوداء ستضرب الوادي من أقصاه الى أقصاه وأنباء منتشرة هنا وهناك ..إن الطوفان قادم لا محال ..هربت الناس من بيوتها ..هاجرت الى مدن قصية بلا زاد ولا ماء ، تعيش في العراء تحت شمس حارقة أو تحت هطول الأمطار والدبيب يرعبها في الليل يؤرقها الخوف من الآتي.. والخنازير تسرق المعونات.
الفتاة : (تنهض من وراء صخرة في أعلى ، أسفل اليسار، وهي تصرخ ثم تهرب من مكانها الى الأمام) دخلت في ملابسي فأرة (تصرخ ،يدنو منها الأول) أخرجها قبل أن تعضني ..
الأول: (يدنو منها) أين الفأرة ..أين هي ؟
الفتاة: قفزت من هنا (تشير الى جيدها)..هربت الى هناك ..اختفت في تلك العتمة .
الأول : هدئ من روعك ..لا تخافي منها ..هي التي هربت خيفة منك .
الثاني : (جالس على صخرة قريبة من صخرة الفتاة أسفل اليسار، يمسك بيده قارورة خمر) هذه الفأرة تنبأت بمجيء العاصفة وحلول الطوفان ، المسكينة تبحث عن ملاذ آمن لها ، إنها أفضل منا ، تتنبأ الكوارث قبل وقوعها فتأخذ الحيطة والحذر.. يا ليتني فأرة (يأخذ جرعة من القارورة ثم يستمر بالنظر الى السماء) انظروا الى السماء السوداء هاجرها الطير مبكرا .. هو الآخر يعرف بحلول الكارثة بينما نحن نعيش الغفلة ونذبح مثل الخِرْفانٌ (يضحك).
الثالث : (يمد عنقه من خلف صخرة في الجانب الآخر قبل صخرة الفتاة قريب من صخرة الأول) لنبني سورا حول الوادي ونعيش بمأمن من الطوفان ..
الرابع : (جالس فوق صخرة قِبَل صخرة الثاني في أسفل اليمين ، يعتمر عمامة نصفها أبيض والنصف الآخر أسود) ونعم القول الرشيد.. ابنوا لنا سورا عاليا ينقذنا من أوار العاصفة وينجينا من الغرق .
الفتاة : هيا لنشيده .. أين عمال الطين والوقادين والبنائين ؟ .
الثاني: الجميع هاجروا إلا نحن (قنينة الخمر بيده ، يأخذ جرعة منها) وبعض من الآخرين الذين اختفوا في الجحور.
الرابع : أخرجوهم من جحورهم عنوة وأتونا بهم مهطعي الرؤوس .
الثالث: يا حراس الوادي ..أسمعتم ما قاله الشيخ الجليل ..أسعوا في الوادي وأتونا بهم عنوة.
الأول: لا أحد يمضي اليهم ..اتركوهم وشأنهم قابعون في جحورهم ..إنه لخير من مجيئهم وبناء السور ..(يستهجنون طلبه)
الفتاة : إنه لقول غريب ..
الرابع: ما عهدناك هكذا وأنت فينا رشيد .. أنت خالفت الجماعة ..
الفتاة : بين لنا الأمر الذي خالفتنا فيه ..
الأول : نحن بحاجة لبناء أنفسنا ..بناء النفس خير من بناء السور ..
الثالث : هذا الكلام لا يغنينا من خوف ولا يشبعنا من جوع .. السور هو الذي ينقذنا من الطوفان .
الأول: افرض، بنينا السور وأمنا من السيول فهل نأمن لحراس البوابة أم نسيت ما حدث بالأمس؟.
الثالث : دعنا منهم .. نحن من الثقات لا نخون انفسنا..
الرابع : يا رجل زن كلامك نحن خير أمة أخرجت للناس ..
الثالث: بلى نحن خير الأمم وأفضلها ..والتأريخ شاهد على ما اقول ..
الأول : بئس الأمة التي يحكمها الأقزام (يبتعد عنهم)إنها لا تنهض أبدا ، ستبقى أبد الدهر خارج المحيط .
الفتاة : أنت متشائم ..
الأول : لست متشائما إنما الواقع الذي نعيشه مظلم ..
الفتاة : ألا يأتينا النور كما أتانا أول مرة ؟ ألا تشرق الشمس من جديد؟ ..
الثاني : إني لفي ريب من ذلك ..لم نر النور ولم يأتي أبدا ..
الفتاة : ارجوك قل غير ذلك .
الثاني : تلك هي الحقيقة ..لا أريد أن أخدعكِ .
الأول : لست كذلك يا صاح .. بعد الظلام الطويل أتانا النور ورأينا ما حولنا ..فكرنا أن نكون مثلهم ما استطعنا ..
الفتاة: ولِمَ ؟
الأول: أولياء أمورنا أشباه قردة خانوا أنفسهم ودفعوا بمصيرنا الى الهاوية ..
انشغلوا بأفخاذ الدجاج وصدور النساء وبيت المال وبناء أصنامهم في الطرقات والرعية تعيش على القمامة .
الثاني : إذا أنا ارتويت من هذه القارورة ..هم يرتوون من الرذيلة.. ولكن أود أن أحيطك علما هؤلاء الفاسقون لم يرتووا منها قط وشارب الخمرة .
الرابع : ليس كلهم يا نجس ..
الثاني: بل جميعهم وأنت أولهم إنك تنمق خطاهم الشيطانية وتلتمس لهم أعذارا واهية وتذم الرعية وتمدح بهم .. (يقلد الخطيب) نعم الحاكم العادل ..نعم المهندس الذي بنى مجدنا ..وبئس الرعية التي لا تعرف واجباتها ولا تضحي بدمائها من أجل القضية .. (يلتفت الى الرابع)هنا في هذا الوادي لا يوجد طاهر أبدا ..الأمة كلها رجس وكلها أنجاس وما يحدث لها قليل بحقها .
الرابع :أنت نجس فترى كل شيء مثلك نجس.
الثاني : لست أنا نجس.. لم أسرق ولم أقتل .. ولم أنافق مثلك ..أنا أعيش لأشرب ..دوري في الحياة شارب الخمر ..أ بمقدورك أن تغير دوري ..وتعطني دورا آخرا؟ (بسخرية) أرجوك أتوسل اليك أعطني دور الملك زهقت من دور الصعلوك.
الرابع :هذا افتراء ..هذا السِّكِّير بدأ يجدف ..ارجموه بالحجر .
الثاني: ألديك الدليل على رجمي..؟ لو قلت (يقلده) اجلدوا هذا السِّكِّير ..لما اعترضت ..لكن . (يقاطعه)
الرابع : (يمسكه من عنقه) أيها الرويبضة ..أنت تستفزني وتثير غضبي ..إخرس ولا تتكلم معيَ حَتَّى تَفيق الى رشدك.. رشدك ..رشدك (لم يقاومه .. ينظر إليه بألم حتى يهدأ)
الأول : تحطمت جسور الرحمة بيننا ..وانتهكت حرمة النواميس وتكسرت أشرعة السنن ..كلنا سرنا خلف سلاسل الظلمات لا أحد فينا رشيد وكانت رحلتنا ، رحلة عصيبة تحفها المخاطر ..وتمطرنا العاصفة وجعا ..وتنث السماء علينا نثيثا أحمرا ..وفي تلك الريح.. أتنصت الى سيمفونية الصراخ الآتية من هناك ..أغرق في واحة المأساة .. أرى وجوه الأحبة ، مزقتها براثن موحشة أسفل شلالات الدماء ..
الثاني: (الى الرابع) أساس دمارنا ألسنتكم الملتوية وتشدقكم ..أنتم أتيتم لنا بشيء جديد حطمنا.. جعلنا فرقا مليئة بالحقد والكراهية ..أيها المترفون ..أنتم بطالة مقنعة.
 حامد الزبيدي  – بغداد
الزمان