إنسجام الصورة والشكل والتصميم الفني في حكايات المطر / جبار جودي
مدونة مجلة الفنون المسرحية
ورشة مسرحية مستقاة من الواقع تتحول إلى عرض درامي
إمتازت مسرحية حكايات المطر بصياغة المشاهد التي تم بناؤها على وفق أفكار متنوعة تحمل ثيمات ومعانٍ فلسفية غاية في الدقة ومنفتحة على التأويل الفكري والجمالي ، إضافة لتميّز مشاهد الحكايات من ناحية التقديم والصورة والشكل والتصميم الفني الإخراجي للحركة والفعل بشكل منسجم ، وكانت جميع مشاهد هذه الحكاية المسرحية تحاكي الوجع الذي يسببه المطر بالنسبة للمجتمع والفرد العراقي عن طريق بنية هذا المجتمع المرتكزة على الحزن والخوف من المطر لما يسببه من مصائب ومحن للأفراد وممتلكاتهم نتيجة تردي الواقع الخدمي وانتشار الفساد في أروقة إدارة الدولة ، ويصل الأمر حد السخرية المريرة من هذه المخاوف التي تتساوق وطريقة التفكير الذي يصل الى بوابات لامنطقية والهروب من الواقع المعاش الى أفكار أخرى متطرفة في سوداويتها .
إن التأويل الفكري والفلسفي لمشاهد حكايات المطر منفتح بشكل واسع على الآخر وعلى المتلقي ، فمنذ بدء العرض بمشهد الغيمات المتفرقة التي تدخل خشبة المسرح ماضية في طريقها من الجانب حتى تتمركز في المنتصف بإضاءة وتقنية المسرح الأسود ، الى أن تتوقف هذه الغيمات لدى أناس مختلفي الميول وما يجمعهم هو مطر نيسان ( موروث شعبي عراقي واسع في الذاكرة العراقية ) ويحاولون استنطاق هذه الغيمات عن طريق عصرها كيما تدر عليهم ماء المطر وذلك لتحقيق أمانيهم الشخصية وتمثلت التقنية البسيطة المستخدمة في هذا المشهد بقطع من الورق الأبيض على شكل سحاب مع الإضاءة الفوق البنفسجية .
يلي هذا المشهد القارب المكسور الذي يسير في مياه الأماني المؤجلة لشموع خضر الياس ( موروث شعبي عراقي معروف ) وكأن الأفراد يعيشون حياتهم بالأمنيات والرغبات والدعاء كون أغلبهم فقد الأمل بالحاضر فأرادوا التعكز على مستقبل قد يكون أفضل وأكثر أملاً ، ومن ثم تدخل صواني الشموع والياس والدعاء كصلاة إستسقاء للرب كيما يمنح هؤلاء الناس مطره المتمثل بحياة رغيدة وآمنة ومشرقة .. هنالك عودة لإستخدام تقنية المسرح الأسود في المشهد الذي يلي الإستسقاء من خلال وجود بعض السحب المتصلة على أرضية الخشبة وينهض الممثل من بينها وكأنه يستفيق من حلم أو يدخل في حلم جديد سابحاً فوق الغيم وهو يعيش حلمه الأجمل بأن يكون فوق السحاب ، لكن هنالك دائماً مايشدنا الى قاع الواقع الممتلىء بالمعاناة والضيم ، حسب التعبيرات اللغوية للمشهد ، لترتفع الغيوم وينعكس هذا الواقع المر عن طريق صور فوتوغرافية لمعاناة الناس من جراء المطر عن طريق استخدام تقنية الداتا شو بروجوكتر ويتم عكس الصور على شاشة بيضاء ( قطعة من القماش ) ترتفع من الأرض الى الأعلى في حركة تكنيكية مبهرة وكأن صور المعاناة هذه قد خرجت من رحم الأرض العراقية الممتلئة عقماً وخراباً رغم عمقها التاريخي الفذ . عند انتهاء العرض الصوري الذي رافقته موسيقى عراقية حزينة ، يطالعنا أحد الأشخاص وقد وقف قريباً من الجمهور وبيده قنينة خمر ( عرق عصرية عراقي ) في ثرثرة سكرانة عن واقع انعدام المطر الذي طال انتظاره من أجل تحقق الهناءات المفقودة ، في ثيمة فلسفية تجلت بسطر من الحوار المعبّر الذي يختزل كثيراً من المعاناة اليومية للناس . وبصورة دراماتيكية يظهر من يسار وسط الخشبة شخصين عاريين أحدهما يجلس في برميل أبيض على عجلات ليستحم والآخر يدفعه بشكل مستقيم مستخدماً مرشة ماء صغيرة لتحقيق فعل الإستحمام ، يتبعهما خطيب ما أو شاعر فقد صوته ولا يسمعه أحد ، صمت يلف المكان ، في مشهد يُظهر مدى غرابة الحياة التي تدور فينا وندور فيها .
ليبدأ المشهد الأكثر جرأة والمتمثل برمي قناني المياه في فضاء المشهد الفارغ المترامي الأطراف من جهتي اليمين واليسار في إشارة فلسفية لما تحمله هذه الحركة من مدلولات فلسفية متعددة التأويل الفكري للمعنى المنفتح على الآخر ، ويدخل أحد الممثلين من العمق مؤتزراً بآلة إيقاعية عراقية (الزنبور) وهو ينشد قصيدة مشهورة ومعروفة للناس للشاعر العراقي السياب بطريقة غريبة على المجتمع وهو إسلوب الراب ويرافق ذلك عزفه على الآلة الشعبية العراقية ، كل ذلك أثار تغريباً عالياً في الشكل والمضمون من خلال مزج المتناقضات في تقديم هذا المشهد الذي أثار جدلاً ، يلي ذلك بنتين صغيرتين يلعبن لعبة عراقية معروفة (موروث شعبي) وهن ويتغنين بأغنية شعبية معروفة تم تحوير كلماتها لتلائم جو المعاناة العراقية ، وفجأة يداهمهن الظلام متمثلاً بشخص ملتحي يحمل قطعة قماش سوداء كبيرة يحاول بها تحجيبهن ومنع الضوء منهن وعندما يتيسر له ذلك يتوقفن عن الغناء والحركة ويقف مزهواً لأنه استطاع تحقيق مايريد لكن فجأة تتساقط عليه من السماء مجموعة كبيرة من (النعل والأحذية ) ويدخل على إثرها منظفين إثنين يكنسون كل هذه القذارة في مشهد واضح المعنى للعيان .
بعد هذا المشهد يأتي العرض السينمائي عن طريق الشاشة الرئيسية للمسرح والتي تنزل من الأعلى للفيلم السينمائي ومدته ثلاث دقائق ويعكس رؤية أحد مخرجي السينما الشباب تجاه موضوعة المطر ، إختصر المخرج أوجاع مستديمة في الذاكرة العراقية الممطرة بالهموم والموت والحرب حيث استعرض مراحل حياتية متنوعة من البلوغ الى المراهقة ثم الطفولة وكل هذه المراحل يتم تعميدها بماء غسل الموتى الذي تدلقه المرأة فوق رؤوسهم من خوذات الحرب ، وكأننا ولدنا لنواجه مصيراً مظلماً بسبب الحروب التي لا تنتهي في هذه البلاد ، وسبق عرض الفيلم إشارة ساخرة سوداوية بظهور الرجل الذي يحمل قنينة الخمر واقفاً بلا هدف ومن ثم جلوسه على الأرض لمتابعة أحداث الفيلم !!
يلي الفيلم السينمائي مشهد مسرحي مكمل لأحداث الفيلم تمثل في ظهور أناس من جوانب متعددة من الكواليس وهم يسيرون ببطء شديد متقدمين الى الأمام حاملين براويز صور مجهولة الملامح تشبه البرواز الأسود الذي ظهر في الفيلم إضافة لظهور ممثلي الفيلم على كراسي المعوقين وهم يرتدون الخوذات العسكرية والملابس الداخلية السود ، هنالك شحن دلالي واسع في هذا المشهد ومشهد الفيلم الذي سبقه ، وتبدأ السماء بأن تمطر صوراً أخرى مشابهه لصور البراويز ويبدأ الناس بإلتقاطها من الأرض وعرضها على الجمهور في دلالات وإشارات واضحة لملفات المفقودين المتعددة التي سادت الواقع العراقي منذ عقود ولازالت مستمرة لحد الآن وتشهد عليها السموات والأرض والناس .
وفي نظرة تفاؤلية مغايرة يقوم الممثل الرئيسي نزار بأداء مشهد بانتومايم ترافقه مقطوعة رقيقة على البيانو وفي جو صوري أخّاذ للتعبير عن جمال المطر وعند نهاية المشهد يتوقف الممثل بحركة ( ستل ) وتتساقط عليه من السماء العديد من الكرات الصغيرة التي تتقافز هنا وهناك بجمالية عالية ، يلي ذلك مشهد المطر المكبل بالسلاسل والممثل الذي يوجه عتباً الى السماء لسخاءها الكريم في هطول المطر الذي أحال حياتنا الى معاناة كاملة ، ونشاهد الصورة البصرية للمشهد متمثلة بحيات مطر متساقطة مكبلة بالسلاسل (أسلاك معدنية رقيقة مسلسلة من أطرافها) في صورة جمالية عالية الدقة . ومن ثم يأتي مشهد المظلات حيث نشاهد في عمق الصورة وبإضاءة خافتة مجموعة من الأشخاص وهم يحملون مظلات سود وبيض يتجولون جيئة وذهاباً ويظهر من خلالهم متقدمين بإتجاهنا رجل وإبنته وهما يفكران بالهرب من جحيم واقعهم المر ونكتشف أن البنت لم تجلب شيئاً معها يقيها برودة الطقس سوى كتبها والتي نفاجأ بأن المطر قد محا كل كلمات هذه الكتب وبقيت أوراق بيض بلا كلمات في دلالات واضحة وعميقة لتجهيل المجتمع ، وبعدها يطالعنا مشهد ثنائية الأم التي فقدت ولدها والشابة التي قُتِلَ عريسها وقد غدت هذه الموضوعة لكثرتها في بلدنا أشبه بالموروث الشعبي اليومي ، وكل ذلك تم طرحه بشكل ساخر مضحك ومؤلم فالأم أشارت لغرق قبر ابنها بالمياه المنهمرة للمطر مما إستحال عليهم إتمام مراسم الدفن والشابة التي تأخر عريسها عن الحضور بسبب غزارة المطر كناية عن مقتله ليلة زفافهما ، فظلت تستعيد صورة المطر الذي لا يتوقف أبداً ، مطر أحزانها التي لا تنتهي ..
هذه نماذج مجتمعية عراقية مباشرة تكاد تكون يومية في حياتنا ، ومرة أخرى نشاهد إنهيار أحد الأحلام المؤجلة لأحد الشباب بسبب غرق الشوارع بالمطر الغزير من خلال مشهد حلمي مصنّع بغرابة بالغة الدقة عن طريق منصة سوداء يفرشها الشاب على أرضية الخشبة وكأنها دكة غسل الموتى ، ويبدأ بجلب أدواته واحدة وراء الأخرى ويتحول الشاب العراقي الى غاسل ومغسول وترافق المشهد فقاعات كثيرة تمثلت على الخشبة بتهافت أحلام الشباب في ظل واقع أليم ، ونصل الى نهاية العرض عند انتهاء هذا المشهد بمشهد تعبيري صامت وهو دخول طفل في العاشرة من عمره يرتدي نظارات وزعانف الغواصين ويحمل بيده ببالونات ملونة كثيرة يسير في خط مستقيم من يسار المقدمة الى منتصفها يلاقيه على الطرف الآخر الرجل الذي يحمل راية بيضاء ، يلتقون في المنتصف ، يرمي الطفل بالوناته الملونة تجاه الجمهور فتمطرنا السماء بالكثير من البالونات الملونة كبيرة الحجم ، ينسحبان الى العمق فتمطر السماء قصاصات ورق بيضاء صغيرة في إشارة لإستمرار الأمل بالسلام وبحياة أخرى تعد بالسعادة المشتهاة .
إمتازت فكرة الورشة المسرحية بجدتها وجديتها متمثلة بآليات العمل فيها عن طريق وضع فكرة عامة كموضوعة للنقاش تمثلت في المطر كونها موضوعة فيها مشتركات عالمية ويقوم الأعضاء بطرح تصوراتهم ومقترحاتهم وآرائهم عن طريق بناء أفكار لمشاهد درامية مستقاة من الواقع اليومي أو مما هو متخيل ، ومن بعدها يقوم المشرفين على الورشة (المخرج والسينوغراف) بوضع لمساتهم للإعداد الدرامي لهذه المقترحات والصورة التي ستظهر بها المشاهد ويتحمل الممثل تحــــــضير كافة متطلبات المشهد بعمل تطوعي عالي المستوى ، لم يكن العرض المسرحي في حد ذاته غاية هذه الورشـــة وإنما طريقة العمل وكيفــــــية إستقبال المختلف والآخر في تقديم الأفكار بتجربة حسية إبداعية ، وقد تحقق ذلك بإنسجام أعضاء الفريق بتطوير كافــــــة الأفكار والثيمات لتتحول الى عرض درامي مسترسل في وحدة ممنهجة وبخط أصيل كتب له النجاح كما أرى وحسب رأي ثلة لا يستهان بها من الجمهور .
الزمان
0 التعليقات:
إرسال تعليق