أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأحد، 19 أبريل 2015

هنريك إبسن: رائد المسرح الواقعي الحديث / إبراهيم محمود الصغير

هنريك إبسن: رائد المسرح الواقعي الحديث - إبراهيم محمود الصغير

بعد ازدهار المسرح في عصر النهضة، والذي كان سبب ازدهاره رجال مسـرحيون عظام من أمثـال: «شكسبير، ومارلو، وموليير، وراسين، ولوب دي فيغا، وكالديرون» وغيرهم، أخذ المسرح في التدهور والاضمحلال شيئاً فشيئاً، إلى أن كاد يختفي ويندثر، لولا بعض المحاولات الفردية التي كان يقوم بها بعض رجال المسرح الموهوبين هنا وهناك. وقد اتسعت الهوة بين المسرح والحياة الواقعية في أوروبا، حتى بلغت أقصى مدى لها في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولم تكن العروض المسرحية آنذاك سوى ميلودرامات صاخبة بالافتعال، أو مسرحيات تتسم بالعاطفية المرهفة، أو محاولات لإحياء تراث المسرح الإليزابيثي، أو مسرحيات شعرية كتبها الشعراء الرومانسيون، وفشلت على المسرح لعدم خبرة هؤلاء الكتّاب بعالم المسرح وتكنيكه. لذلك كان من الطبيعي أن يتلمس رجال الأدب والفن الطرق سعياً وراء إصلاح هذا الحال، وربط المسرح بواقع الحياة. وكانت هذه النزعة للإصلاح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاتجاهات الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، التي سادت أوروبا عامة، وإنكلترا خاصة، وكان نتاج التقدم العلمي والفلسفي في منتصف القرن التاسع عشر. كل هذه الأشياء أثّرت في الـمُناخ الفكري، ودفعت بعض الكتّاب والمفكرين للتصدي للقيم التقليدية للحياة آنذاك. وقد شملت هذه الاتجاهات كل نواحي الحياة، ناهيك عن الأدب. وكانت الرواية أول من استجاب لهذه النزعة الواقعية، ثم انتقلت إلى ميدان المسرح بفضل دعاة متحمسين أمثال: «أميل زولا» الذي كتب يقول: «إنني مقتنع تماماً بأننا سنرى الحركة الواقعية وقد فرضت نفسها على المسرح، وجلبت إليه قوة الواقع».
إن هذه الحركة الواقعية، وذلك الدافع لتصوير الحياة بكل ما فيها من تعقيد وتنوع أدى إلى محاولات اتباع الطرق العلمية في مضمار الأدب، وما فيها من موضوعية ومن تقرير أمين للواقع. كما أدت هذه النزعة أيضاً إلى اتساع نطاق المادة الدرامية حتى شملت مواضيع كانت معالجتها شبه محظورة، مثل المواضيع الدينية، ومشاكل الجنس، والإصلاح الاجتماعي، ومشاكل العمال، وحقوق المرأة، وغيرها. وكانت هناك استشعارات واقعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مجالات الأدب والفن في أوروبا. ففي «إنكلترا» ظهر الكاتب المسرحي «توم روبرتسون» حين عالج بعض المشاكل الاجتماعية، مثل الحب والفوارق الطبقية في بعض مسرحياته مثل «المنبوذ» و«المجتمع». وتبعه في هذا المضمار، بل زاد فيه تمكناً ومهارةً، كاتبان أسهما قولاً وعملاً بربط المسرح بواقع الحياة المعاصرة، ألا وهما «أرثر ونج بنيرو» و«هنري آرثر جونز».
وفي فرنسا ظهر «أميل أوجيه» بمسرحياته الواقعية، ثم مسرحيات «اسكندر دوماس» الابن، الذي بدأ صيته يذيع بعدما أصاب نجاحاً في مسرحيته «غادة الكاميليا». وفي ألمانيا ظهر الكاتب المسرحي «فردريك هيبيل» وزميله «أوتو لودفيج» ويشترك الاثنان في الاتجاه نحو عرض الآراء في أسلوب واقعي. ونحن نجد أنه وإن كانت هذه الاستشعارات الواقعية تسير نحو الاتجاه الصحيح، ألا وهو ربط المسرح بواقع الحياة ومشاكلها؛ إلا أن هذه المحاولات لم تتحرر كلية من اللون المسرحي الذي كان سائداً آنذاك ألا وهو «المسرحية المحكمة الصنع»، التي ابتدعها الكاتب المسرحي الفرنسي «يوجين سكريب» ثم طوّرها «فيتورين ساردو»، وهي مسرحية زاخرة بالافتعال والإثارة، والحيل المسرحية، التي لا تسير مع حتمية أو منطق الأحداث. لذلك لم تفلح جهود الكتّاب الذين ذكرناهم تماماً، إذ لم تصل بهم إلى ابتداع تكنيك يتلاءم مع الجوهر الواقعي.
لهذا كان على المسرح الأوروبي أن ينتظر حتى مجيء شخصية عبقرية فذة، كان لها فضل في تطوير المسرحية الواقعية الحديثة، وهذه الشخصية العبقرية لم تكن من دول أوروبا المعروفة لنا وإنما من الدول الاسكندنافية، من «النرويج»، ألا وهو «هنريك إبسن»، الذي يعدّ بحق رائد المسرح الأوروبي الواقعي، والذي غاص عميقاً في المشاكل الاجتماعية والعائلية لعصره، والذي كان له تأثير عظيم على المسرح الأوروبي ككل، وعلى كتّاب المسرح الأوربيين المشهورين من أمثال: «جورج بيرنارد شو، وبرييه، وجرهارت هاوبتمان، وأنطون تشيخوف وغيرهم».
وفي ذلك يقول عنه «نيكول»: «لم يكشف عن مقدرة مسرحية أكيدة، وعمق نظر للحياة، وأهداف محددة، بشكل لم يتسنَ لأحد من كتّاب المسرح في عصره فحسب، بل إنه بدأ كرمز ضخم يتمثل في كل ما هدف إليه عصره، أو أحرزه من نجاح، في المضمار المسرحي، فنحن نرى في أعماله صورة متبلورة لعصره».
والآن، يحق لنا أن نسأل، من هو «هنريك إبسن» هذا، وما هي أعماله ومآثره، وتأثيراته على عالم المسرح؟
هنريك إبسن: حياته وأعماله: ولد «هنريك إبسن» في (20/آذار 1828) في مدينة نرويجية صغيرة اسمها «شكين». كان والده تاجر أخشاب ناجح، ولكنه أشهر إفلاسه عام (1836)، ومن ثم صادفت العائلة مصاعب مالية، مما اضطرها إلى الاستدانة والحد من مطالب العيش، والانتقال إلى منزل متواضع، كان نصيب «إبسن» فيه غرفة فوق السطوح، كان يعبث فيها، من حين إلى آخر، وسط الكتب والساعات القديمة. وقد وصفها «إبسن» وصفاً دقيقاً في مسرحيته «البطة البرية»، كما بدت صورة الإفلاس والاستدانة التي عانت منها أسرته، في كثير من مسرحياته. وكان من نتيجة هذه المتاعب المالية أن «إبسن» لم يكمل تعليمه، واضطر وهو في السادسة عشرة من عمره إلى الرحيل إلى مدينة «جريمستاد» ليكسب قوته كمساعد صيدلي. وتحت وطأة الفقر والبؤس، بدأ يناصب المجتمع المتزمت العداء، وأخذ يكتب قصائد هجائية، ويقوم ببعض الرسوم الكاريكاتورية لعليّة القوم هناك. وفي تلك الأيام بدأ يشعر بما لهذه الحياة الجامدة من أثر على ما يسمى «بهجة الحياة». ودفعه عداؤه للمجتمع، ومعاناته للفقر والبؤس، إلى أن يرتكب الإثم سراً، كما فعل «الكابتن ألفنج» في مسرحية «الأشباح». وهنا نشأت علاقة آثمة مع خادمة تكبره بعشر سنوات. ونتج عن هذه العلاقة ابن غير شرعي اسمه «هانز جاكوب». وقد أثار هذا حفيظة المجتمع حوله، وقطيعة أهله له، ما عدا أخته الصغرى «هدفيج». وبدأت آنذاك بذور الشعور بالذنب، وما يليه من قصاص، وهو موضوع تكرر كثيراً في مسرحياته، وعلى الأخص المسرحيات الواقعية، وخواتيم أعماله.
في مدينة «جريمستاد» بدأ «إبسن» أولى محاولاته لكتابة المسرحية، فكتب مسرحية «كاتيلين» عام (1848)، والتي لم تكن عملاً ذا قيمة، لذلك لم يستطع نشرها، أو تقديمها للتمثيل. إلا أن هذا الفشل لم يثبط من عزيمته، فكتب مسرحية ثانية عام (1850) باسم «رابية الجندي» وهي مسرحية من فصل واحد، وكانت أسعد حظاً من المسرحية الأولى، مما مكّن «إبسن» من الحصول على وظيفة مخرج ومدير مسرح صغير أنشئ حديثاً في مدينة «بيرجن»، وذلك عام (1851). وكان عمل «إبسن» يجمع ما بين الإخراج، والإدارة المسرحية، وكتابة مسرحيات من آنٍ إلى آخر.
وفي هذه الفترة ركّز «إبسن» على مواضيع قومية ورومانسية، وساعده العمل في المسرح الصغير على السفر إلى «كوبنهاغن» و«درسدن»، وأن يتعرف على مسرحيات «سكريب» و«ساردو» بما فيها من آثار مفتعلة، وحشو للأحداث والشخوص النمطية، وقد ظهر أثر هذا اللون المسرحي في مسرحياته الأولى، كما نرى في «ليدي أنجر من أوسترات» عام (1855) ثم بعد عام بمسرحية «وليمة في سولهوج» وكذلك في مسرحية «الفايكنج في هلجلاند» عام (1857)، حيث قتلت معظم الشخصيات خطأً أو عمداً.
لقد استوحى «إبسن» الكثير عن الشكل المسرحي من «سكريب»، ولكنه وجد العظمة والإلهام في «شكسبير»، وفي الكتّاب الرومانسيين العديدين أمثال «شيللر». وفي هذه الفترة أيضاً اتجه «إبسن» إلى معالجة مواضيع اسكندنافية؛ فمسرحيته «المطالبان بالعرش» عام (1864) تُبين مقدرة «إبسن» المتزايدة على أن يضيف لعالم الأساطير القديمة شكلاً فنياً حديثاً، وتتضح مقدرة «إبسن» الفنية أكثر وأكثر في مسرحية «ملهاة الحب» عام(1862) التي تتحدى الطبقة البرجوازية، وتندد ببعض التقاليد الاجتماعية السائدة آنذاك، والتي ترتبط بمفهوم الحب والزواج. ولم تقتصر خبرة «إبسن» العملية على عمله في مسرح «بيرغن»، بل إنه عمل مديراً للمسرح القومي في العاصمة «أوسلو»، التي كانت تسمى حينذاك «كريستيانا»، وهو مسرح تأسس عام (1857)، وهناك في العاصمة تعرّف «إبسن» على «سوزانا ثوريسون»، التي تزوجها فكانت نِعم الرفيق لما تتمتع به من صبر وطيب معشر، الأمر الذي ساعده على تحمل ما صادفه من صعاب مالية كبيرة. إلا أن عمله في مسرح «أوسلو» لم يصِب نجاحاً يذكر، فهبّت عواصف مالية هوجاء دهمت المسرح، ودفعته للاستدانة من أصدقائه، وخاصة «بيورنسون»، الذي ساعدهعلى الحصول على منحة مكّنته من السفر إلى الخارج.
ورحل «إبسن»، تاركاً موطنه «النرويج» في عام (1864) وغاب عنه مدة (25عاماً) قضى أربعةً منها في إيطاليا، والباقي قضاه في ألمانيا. وكان لسنوات النفي الاختياري هذه أثرها على فنه وحياته. ففي بادئ الأمر ذهب إلى (روما) حيث بدأت مرحلة كتابة مسرحياته الشعرية مثل «براند» عام (1866) و«بيرجنت» عام (1867). وقد حاول «إبسن» في هذه المسرحيات أن يتحرر من قيود المسرحية «جيدة الصنع» التي ابتدعها «سكريب»، ويقترب من كتّاب المسرحية الشعرية على رأسهم الكاتب الإنكليزي الشهير «شكسبير». وكان جو (روما) مبعث إلهام كبير بما يسودها من جو الأساطير، وتاريخ غارق في القدم. وقبل أن يتجه «إبسن» إلى استغلال الإمكانيات الواقعية كتب مسرحية شعرية تاريخية هي «الإمبراطور والجليلي» عام (1873) حيث نجد اتساعاً في المجال، وقوة لا يتسنى ملاحظتها في أي عمل آخر. والمسرحية بجزأيها تعد في الوقت نفسه مقالاً عن فلسفة خيالية، يهدف إلى مزج فضائل العالمين والحضارتين (الوثنية القديمة والمسيحية في العصر الوسيط).
وقبل كتابة المأساة التاريخية الرمزية «الإمبراطور والجليلي» كانت هناك شواهد تدل على أن «إبسن» يعدُّ العدة لتجربة أسلوب مسرحي جديد. ففي عام (1869) أقبل العرض العاصف لمسرحيته «اتحاد الشباب»، وهي مسرحية تتناول بالنقد والتجريح الأحوال السياسية في عصره. وعندئذٍ تخلى «إبسن» عن الشعر وقال: «إنها ستكون بالنثر، وسوف تتلاءم مع مقتضيات المسرح في كل شيء».
هنا هاج وماج الناقد الإنكليزي «إدموند جوس» وهو من كبار المعجبين بفن «إبسن» وكتب إلى «إبسن» مؤنباً إياه لتركه الشعر، والتزامه بالنثر. فرد عليه «إبسن» قائلاً: «أنت من رأيك أن المسرحية كان ينبغي أن تكتب شعراً. في هذا اختلف معك، فمسرحية «اتحاد الشباب» قد أُعدت بأسلوب واقعي للغاية، إذ أني أردت أن أُحدث إيهاماً بالواقع، إن رغبتي هي أن يشعر القارئ بأن ما يقرؤه هو قطع من الحياة، فلو أني استخدمت الشعر لتعارض هذا مع قصدي. إننا لم نعد نعيش في عصر «شكسبير». إن مسرحيتي الجديدة ليست مأساة بالمعنى المفهوم، إذ إنني ما أردت تصويره هو شخوص من البشر، ولذلك لن أدعها تتحدث لغة الآلهة».
وفي هذا الإطار الواقعي كتب «إبسن» مسرحية «أعمدة المجتمع» عام (1877)، وفيها ينتقد الرياء الاجتماعي، والفساد المستشري بين الناس، ثم كتب بعدها «بيت الدمية» عام (1879) والتي تعرّض فيها لمشكلة حرية المرأة، فأثارت جدلاً كبيراً في البلدان التي عُرضت فيها مثل (ألمانيا وإنكلترا وفرنسا). وانقلب الناس بين مؤيد ومعارض له. ومثلما أحدثت مسرحية «بيت الدمية» الكثير من الجدل، كذلك أثارت مسرحيته التالية «الأشباح» عام (1881) اللغط نفسه، والجدل نفسه، بل ازدادت المعركة ضراوة بين الجديد والقديم، أو بين أنصار «إبسن» من دعاة المسرح الواقعي، وبين الكتّاب التقليديين. وبلغ من عنف المعركة النقدية أن نالت المسرحية من السباب والشتائم ما ملأ الصحف وأروقة المسرح، لتناول «إبسن» موضوعاً كانت معالجته محرمة تماماً. فكان رد «إبسن» على معترضيه أن كتب مسرحية «عدو الشعب» عام (1882). وبعد مضي عامين ظهرت مسرحية «البطة البرية» عام (1884)، وفيها نلمس ما بلغه «إبسن» من مجال فكري وخيالي جديد، وما أبدعه من بناء مسرحي يفوق أي شيء أنتجه الطراز الواقعي حتى ذلك الوقت.
وأخيراً، وفي عام (1891)، وبعد غيبة (25عاماً) عاد «إبسن» إلى وطنه «النرويج»، وظل يكتب مسرحيات تتسم بالرمزية العميقة، والنزعة الروحانية، وبدأ تحول كبير في طريقة المسرحية، فالبطل في مسرحياته الأربع الأخيرة، لم يعد يصارع مشاكل اجتماعية، أو يقف سداً منيعاً بوجه المنافقين والفاسدين، وإنما بدأ البطل يصارع خوالج نفسه وضميره، من خلال تذكّره لماضي حياته وما ارتكب فيها من خطايا. فموضوع الخطيئة والجزاء كان أهم دعامة ترتكز عليها هذه المسرحيات الختامية. وهذه المسرحيات على التوالي: «البنّاء العظيم» (عام 1892) و«أيولف الصغير» (عام 1894) و«جون جبرييل بوركمان» (عام 1896) و«عندما نبعث نحن الموتى» (عام1899).
وبعد كتابة مسرحيته الأخيرة «عندما نبعث نحن الموتى» بدأ الوهن يهدّ كيان«إبسن» ومرض مرضاً شديداً مات على إثره عام (1906)، بعد أن نال صيتاً عالمياً، وبعد أن أصبح بلا جدال، أعظم كاتب مسرحي في العصر الحديث، وأصبح مدرسة فريدة، أثّرت في كثير من كتّاب المسرح في عصره وما بعده إلى الآن، وأنتجت نهجاً مسرحياً خاصاً به يسمى «الأبسنية».
ولكي نتعرف على «إبسن» أكثر، ونطّلع على مراحل إبداعه، وأسرار عبقريته، سنلقي الضوء على مراحل هذا الإبداع.. فإن فن «إبسن» المسرحي وثيق الصلة بتطور حياته عبر السنين، ويمكن متابعة تطوره الفني عبر المرحلة التجريبية الأولى، ثم مرحلة المسرحية الشعرية الثانية، وبعدها المرحلة الواقعية الثالثة، وأخيراً المرحلة الروحانية الرابعة أو الختامية.
المرحلة التجريبية الأولى: بدأ «إبسن» الكتابة للمسرح عندما كان في العشرين من عمره، وكانت بداياته بسيطة، ولم تكن ناجحة، لا للنشر ولا للتمثيل، مثل مسرحية «كاتيلين». ثم كتب بعدها مسرحية «رابية الجندي»، وكانت أوفر حظاً، وقد عرضت عام (1850) على مسرح «كريستيانا» والتي أصبح اسمها «أوسلو» فيما بعد. ومما له أهمية كبرى في هذا المجال أن «إبسن» ظل ست سنوات مديراً ومخرجاً بالمسرح الوطني في «بيرجن» حيث أخرج ما لا يقل عن (145) عملاً مسرحياً، معظمها من أعمال الكاتب الفرنسي «سكريب» أو حسب أسلوبه. ثم قضى خمس سنوات كمدير فني في المسرح النرويجي في «أوسلو»، وبهذا الشكل تكونت لديه خبرة واسعة في مجال النوع القديم من المسرح المحترف بين عامي (1851) و(1862)، خاصة بعد أن سافر إلى (كوبنهاغن) و(درسدن). وكان خلال هذه الفترة يكتب ويخرج حسب التقاليد الرومانسية.
لم تثر مسرحيات «إبسن» الأولى أي زوابع، إذ كان آنذاك يتلمس طريقه، ويخضع لتأثير الكاتب الفرنسي «سكريب» والذي وضع أسس مسرحية خاصة باسم «المسرحية جيدة الصنع». وهي لون درامي يعتمد على الإثارة والافتعال، كما نرى ذلك في مسرحيته المسماة «ليدي أنجر من أوسترات» ثم أتبعها بمسرحية «وليمة في سولهوج»، وبعدها «الفايكنج في هيلجلاند».
وفي هذه الآونة بدأ «إبسن» يتجه لمعالجة مواضيع اسكندنافية مثل مسرحية «المطالبان بالعرش»، وتدور هذه المسرحية حول رجلين على طرفي نقيض «هاكون» المعتد بنفسه، والواثق كل الثقة بأهدافه، و«سكون» الذي يزخر عقله بالآمال الكبار، وإن كان شخصاً دائم التردد. وعلى الرغم من اتصافه بمقدرة خارقة، يفتقر إليها الأول، فإن «هاكون» هو الذي يصبح ملكاً وحاكماً للنرويج المتحدة. وكان «إبسن» قد كتب قبلها مسرحية «ملهاة الحب» وهي مسرحية ينتقد فيها الطبقة البرجوازية، كما ينتقد بعض التقاليد الاجتماعية السائدة والتي ترتبط بمفهوم الحب والزواج.
في هذه المرحلة، لم يكن «إبسن» قد نضج تماماً، وكان في طور التجريب والاطلاع. فقد كان تأثير «سكريب» طاغياً في تلك الفترة على معظم كتّاب المسرح، ليس في النرويج وحدها، وإنما في كل أوروبا. كما كان التأثير الشعري في المسرح، لا يزال له امتداد واسع على الساحة المسرحية ولم يتخلَّ «إبسن» عن نهج «سكريب» والمسرح الشعري، إلا بعد أن نضج فكراً ومعرفة وتجربةً، لذلك لم يكن «لإبسن» تأثير يذكر على المسرح في هذه المرحلة، وإن دلت على موهبة وعبقرية كافيتين في أعماقه، وتبشران بولادة كاتب مسرحي فذ سيكون له شأن كبير في المستقبل ويقلب المسرح رأساً على عقب.
المرحلة الثانية الشعرية:
عندما ذهب «إبسن» إلى (روما) عام (1864) ومكث فيها أربع سنوات، بدأ يكتب المسرحيات الشعرية، ويبدو أن جو (روما)، كما ذكرنا سابقاً، ألهمه أن يكتب مسرحياته بالشعر. ولاننسى أن «إبسن» كان شاعراً في الأساس، وأن الشعر يجري في دمِه، وأنه لم يتخلَّ عن استخدام الشعر، أو الروح الشاعرية حتى في كتاباته الواقعية، ففي عام (1860)، وكان عمره آنذاك (32عاماً)، كتب قصيدة (في البرية) ثم أتبعها بقصيدة (الرايخ الثالث). وفي عام (1869) كتب مجموعة من القصائد المختلفة، وكان وقتها في ألمانيا. وكان الشعر في أوروبا آنذاك في قمة تطوره، وفي ذلك يقول «رونالد بيكوك»: «إن نمو الحركة الشعرية هو الذي حرر لنا «إبسن» الأعظم. فذلك التغيير الذي سببته الحركة الشعرية في الذوق قد فتح عيوننا على الشاعر «إبسن» الذي كان يقف في ظلال الناقد الاجتماعي». ثم يضيف قائلاً: «وفي تاريخياته، وفي المسرحيات المرتبطة بالسيرة الذاتية مثل «براند» و«بيرجنت» وفي مسرحيات الفترة الأخيرة، يبدو «إبسن» أكثر درامية، وأكثر شاعرية في الوقت ذاته».
حتى في مسرحياته الواقعية، كما ذكرنا سابقاً، استخدم الروح الشعرية من خلال إدخال الرمز والإيحاء الشعري. وكان يتجه في عمله نحو دراما شعرية: الجياد البيضاء في (روز مرهولم) وتسلق الأبراج في (البنّاء العظيم) والعكازة في (أيولف الصغير) وتمثال (روبيك) في (عندما نبعث نحن الموتى) وكلها رموز لا يمكن إغفالها.
أما مسرحياته الشعرية فهي على التوالي: (براند) و(بييرجنت) وكتبهما في إيطاليا، ثم مسرحية (الإمبراطور والجليلي) وكتبها في ألمانيا عام (1873). ومسرحيته الأولى (براند) تعرض شخصية القس (براند)، وهو شاب قوي الإيمان، يذهب إلى بلدة نائية صغيرة، وقد عقد العزم على ألا يتزحزح عن مبادئه، فهو رجل صارم، لا يعترف بالحلول الوسط، وشعار حياته هو: «كل شيء أو لا شيء». لهذا ناصبه الجميع العداء. فقد وقف ضدّه الموظفون في هذا المجتمع الصغير، ورعايا كنيسته، حتى أمه العجوز، التي أرغمها على أن تتبرع بكل ثروتها لبناء كنيسة ورفض أن تستبقي له جانباً من ثروتها تحسباً لتقلبات الزمن. ثم ترك ابنه المريض يموت ورحل لقرية قريبة، ليبقى بجوار أحد رعاياه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وفي النهاية يقف (براند) وحيداً بين الجبال، ويتخلى عنه المتحمسون واحداً إثر واحد حتى لم يبق معه، وهو يصعد الجبل، إلا فتاة مخبولة، وهناك وبينما يصعدان، تهوي كتلة ثلجية عليهما، ويدوي صوت من خلال الكتل المتداعية، (الله، محبة).
أما مسرحية (بييرجنت) فهي على النقيض من (براند). فـ(براند) كان مثلاً بارزاً للتضحية ونكران الذات، بينما (بييرجنت) أناني محبّ لذاته، وقد احتشدت أحداث شتى في هذه المسرحية، أحداث غاية في الإثارة، وهي تعكس مهارة فنية وخيالاً خصباً. ففي هذه المسرحية يتابع «إبسن» بطل المسرحية منذ حداثته حتى صعد إلى قمة المجد، بكل السبل، دون مراعاة لأي معيار إلا حب الذات، حتى انتهى به المطاف إلى مستشفى الأمراض العقلية في (القاهرة) حيث (توجّه) المجانين إمبراطوراً على العالم. ويوشك عند عودته إلى وطنه على الغرق. وتهتم المشاهد الأخيرة بحادثة صانع الزرائر، وهو أداة الحكمة الإلهية أتى ليصهر روح (بيرجنت) في وعاء الصهر. ويفشل (بيير) في فهم فحوى ما يقول صانع الزرائر، ويقف محتداً بعض الشيء عندما يخبره بأنه «لكي تكون نفسك، يجب أن تقتل نفسك الأمارة بالسوء». أما مسرحية (الإمبراطور والجليلي) فهي مسرحية تاريخية شعرية كتبها نتيجة لتأثره إلى حد كبير بوجود حضارتين متمايزتين، الوثنية القديمة، اليونانية والرومانية، والحضارة المسيحية في العصور الوسطى.
المرحلة الثالثة الواقعية:
عندما تخلى «إبسن» عن كتابة المسرحية الشعرية، كان قد أضمر في نفسه أن يعدّ العدة لتجربة أسلوب مسرحي جديد. لذلك كتب مسرحية (اتحاد الشباب) عام (1869) بالنثر وليس بالشعر، مما جعل بعض المؤيدين له يعترض على استخدامه الشعر بدلاً من النثر. ولكنه أصرّ على ذلك وبيّن أنه يحب أن يكتب باللغة الواقعية اليومية التي يستخدمها الناس في حياتهم. وبجانب استخدام النثر في الحوار، حاول «إبسن» تصوير شخوص واقعية، بل إن بعضها يعتمد على نماذج حيّة معاصرة. وقد كان «إبسن» يُشاهد كل يوم جالساً على مقهى، يلاحظ سلوك الناس، ويكتب ويدوّن ويفكر. كما كان يجلس بالساعات يحملق من نافذة غرفته على الشوارع المزدحمة بالناس. لذا كان «إبسن» يهتم بكل التفاصيل الدقيقة لمظهر ومخبر شخوصه، حتى تبدو واضحة جلية في مخيلتنا. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الشخوص كانت تتصارع مع مشاكل اجتماعية، مما جعل كثيراً من النقاد يصف «إبسن» على أنه داعية اجتماعي وذلك عندما تصدى لمشكلات اجتماعية خطيرة مثل: تحرير المرأة، والرياء الاجتماعي، والتمسك بالتقاليد البالية، والفساد السياسي، والتعلق بالأوهام، والحتمية البيولوجية، وأشباح الماضي، وغيرها من مشاكل العصر.
ويكمن التفسير في هذه المرحلة عند «إبسن»، والتي من أهم مواصفاتها، توافق تكنيك مسرحي قوي جداً مع موجة عارمة من التفكير الاجتماعي. لقد عالج «إبسن» موضوعات متنوعة في مسار عمله. وكان اتساع ميدانه جزءاً من تميزه. ولم يكن الموضوع الاجتماعي إلا واحداً من الخطوط الاجتماعية في الفترة التي وصلت فيها إمكانياته التكنيكية حدّها الأقصى. وكان الفكر المتقدم في أوروبا موجّه نحو المشكلات الاجتماعية، بينما كانت الدراما مضمحلة، وكان المزج عند «إبسن»، بين الاهتمام الاجتماعي، والطاقة المسرحية الجديدة العظيمة، وقد ولد ذلك الخلق الجديد. ويستطيع المرء أن يعترف بالإعجاب بالدرجة التي يطرح بها «إبسن» نوعاً من الوحدة من خلال التصنيع الذي يمارسه على مادته طبقاً للصورة المألوفة، وبتنفيذ حركة سير شخصياته، والإعجاب بالطريقة التي يلائم بها مع تحليله الأخلاقي الأشخاص والحالات، ثم تخيلها بمهارة فائقة بحيث تأتي أقرب ما تكون إلى الطبيعة، وحتى إلى الحتمية أحياناً. وقد كانت هذه المرحلة بنظر النقاد أهم فترة في حياة «إبسن» الفنية، بل هي في نظر «جورج بيرنارد شو» وغيره من الكتّاب الواقعيين فترة نضوجه الفني، وما عدا ذلك، إما تمهيد أو اضمحلال.
في الحقيقة كان «إبسن» فناناً، أولاً وقبل كل شيء. وكفنان كان يشعر بعمق بمشاكل عصره، ويحاول التعبير عنها عن طريق فنه، دون أن يفرض حلولاً معينة. وقد اعترف بأنه لم ينظر إلى مشكلة «نورا»، بطلة مسرحية (بيت الدمية)، كمفكر اجتماعي، بل اعتبرها مشكلة إنسانية فمن حق المرأة أن تكون ذات شخصية مستقلة. وفي هذا الإطار الواقعي كتب مسرحية (أعمدة المجتمع)، وفيها يعبر «إبسن» عن العفن والفساد الذي حلّ بالمجتمع النرويجي في فترة ما، كما يكشف عن الزيف الاجتماعي، والنفاق الذي يتخذه عليه القوم سبيلاً للإثراء والجاه، ويسميهم «إبسن» تهكماً (أعمدة المجتمع). وقد عالج «إبسن» موضوعه بواقعية تامة، وبأسلوب درامي قلّ أن نجد له مثيلاً بين كتّاب عصره. والموضوع شيق، والأفكار متجانسة ومتآلفة، والشخصيات تفيض حيوية، والألفاظ رشيقة، ولكنها تقطر دماً في بعض المواقع. وأهم ما يميز المسرحية هو تركيز «إبسن» على (الأكذوبة)، التي يختلقها المرء ليعيش عليها سنوات وسنوات، دون أن يفتضح أمره. وفجأة، وبلا مقدمات، ينهار البنيان، ويتهشم الصنم، ويظهر المرء على حقيقته، منافقاً، مخادعاً، كذّاباً، يحتقر نفسه قبل أن يحتقره الآخرون.
بعد مسرحية (أعمدة المجتمع) جاءت مسرحية (بيت الدمية) التي أثارت الدنيا وأقعدتها في كل أوروبا. فـ«نورا» زوجة وفية مخلصة لزوجها وبيتها وأولادها، إلا أن زوجها «هيلمر» أصابه مرض استدعى علاجه السفر إلى جوٍّ دافئ، ولم يكن لديه المال الكافي، مما دفع «نورا» أن تستدين، دون علم زوجها، من رجل شرير يعمل في البنك اسمه «جروجستاد» ووقعت على صك باسم والدها، الذي كان قد مات منذ أيام قليلة. وظل الأمر سراً، وكانت تسدد الدين بانتظام. ويرسل «جروجستاد» رسالة إلى زوجها يفضح فيه سرها. وهنا يثور «هيلمر» على زوجته، ولم يفكر إلا في اسمه وسمعته، ونسي أنها لم تفعل ذلك إلا من أجله، وإنقاذاً لحياته. وهنا تأتي رسالة أخرى من «جروجستاد» يبرئ فيها «نورا» من تهمة التزوير. ويحاول «هيلمر» جاهداً أن يعتذ لـ«نورا» ولكنها تشعر بأنه أناني لا يستحق أن تعيش معه، وأن يعاملها وكأنها دمية في البيت فخرجت من البيت وصفقت الباب وراءها، محطمة الوهم الذي كانت تعيش فيه.
كان لهذه النهاية المثيرة للمسرحية دوي كبير. فمن النقاد من صب لعنته على «نورا» ومنهم من امتدح موقفها هذا. وقد أثارت هذه المسرحية زوبعة في أوروبا، وجعلت «إبسن» موضعاً للنقد والتجريح، وذلك عندما ترك «نورا» تغادر بيتها وتصفق الباب خلفها، تلك الصفقة التي اهتزت لها أوروبا. وبذلك حوّل «إبسن» المسرحية الاجتماعية إلى مسرحية ثورية، وحمل بذلك مشعل الدراما الواقعية.
ولم تكن مسرحيته التالية (الأشباح) بأقل حظاً من النقد والتجريح والرفض من مسرحيته (بيت الدمية) حيث نالت من السباب والشتائم الشيء الكثير، لدرجة أن بعض النقاد البريطانيين أمثال: «كلمنت سكوت» نعتوا المسرحية بأنها (بالوعة قذرة)، لأنها تتناول موضوعاً كانت معالجته محرمة تماماً. وقد دافع عنها الناقد «وليم آرثر» والكاتب «جورج بيرنارد شو». وتدور المسرحية حول انتقال مرض (السفلس) من أب عربيد هو الكابتن «ألفنج» إلى ابنه «أوزوولد». فحمل الابن المسكين إثم والده. ويستمر الصراع بين هذه اللعنة المشؤومة التي تتمثل في هذا المرض السري الرهيب، وبين أقوى غرائز الإنسانية وهي عاطفة الأمومة. وقد كان الهدف الذي يرمي إليه «إبسن» من وضع هذه القوة ضد مرض لا يرحم، هو أن يخلق موقفاً قوياً يثير فينا مشاعر الشفقة على الضحية، وشعور التشاؤم. ويشعرنا بالمرارة التي تعانيها الأم من مرض ابنها.، وترددها في أن تعطيه السمّ ليتخلص من آلامه، أو أن ترفض إعطاءه السُمّ. ويترك «إبسن» النهاية بشكل مفتوح، ليترك خيالنا ينطلق إلى آفاق بعيدة ويجعل للحدس والتخمين المجال لإيجاد نهاية مناسبة لها.
إن مسرحية (الأشباح) هي إحدى روائع «إبسن» الواقعية، التي تمتاز بتكنيك متقن، سواء في الحبكة، أو المناظر، أو رسم الشخوص، أو الحوار، أو الخاتمة المثيرة التي تتركنا حيارى، يعمل كل منّا جهده لإيجاد نهاية مناسبة لها. ورداً على من انتقده على مسرحية (الأشباح) كتب «إبسن» مسرحية (عدو الشعب) وفيها يقف الدكتور «ستوكمان» صامداً، لا يتورع عن قول الحق ولو ناصبه الجميع العداء. فالدكتور «ستوكمان» يقول رأيه بأمانة وصدق، وحرص على المصلحة العامة، وقد اعترض على مشروع شبكة المجاري المقدم للبلدية، لأنه لم يقم على أسس علمية سليمة. ونسي أن وراء هذا المشروع طبقة مستغلة مرتشية من علية القوم ثارت ضده ووصفته أنه عدوٌ للشعب. ونبذه الجميع – بل قذفه الصبية بالحجارة. ورغم ذلك الاضطهاد وذلك الظلم، وقف شامخاً صامداً لا يقول إلا ما يقتنع به أنه صدق وحق.
وبعد هذا بعامين، ظهرت مسرحيته (البطة البرية)، التي ندرك فيها على التو ما بلغة من مجال فكري وخيالي جديد، وما أبدعه من بناء مسرحي يفوق أي شيء أنتجه الطراز الواقعي حتى ذلك الوقت. فبدلاً من الغضب الجامح الذي ساد مسرحيته (عدو الشعب) نجد أن الحنان يتدفق في شخوص المسرحية لدرجة لم يعهدها من قبل. إن «إبسن» يرى عامة الرجال والنساء كشخصيات ضعيفة تستحق الشفقة والعطف. وأنهم لكي يعيشوا، لا غنى لهم عن أحلامهم. فكلمة صدق واحدة قد تودي بحياتهم. وتدور المسرحية حول أسرة «هيلمر أكدال» المصور الفاشل الأناني بطبعه، وزوجته «جينا». ورغم الفقر تعيش الأسرة في سعادة نوعاً ما. ورمز أوهامهم نتلمسه في ذلك السر الغريب الذي يكمن في حجرة صغيرة فوق السطوح، وهو بطة برية جريحة ترعاها «هيدفيج» وجدها العجوز «أكدال» فإذا ما فتح الباب في هذه الغرفة الصغيرة، دخلنا في عالم من الأوهام، وسلكنا لفترة بسيطة الجبال والبراري.. وفي هذه المسرحية، المليئة بالأحزان، يبلغ «إبسن» مقدرة مسرحية لم تتسنَ له من قبل، ففي شخوص المسرحية عمق غريب، كما أن براعة تسلسل الحبكة المسرحي تكشف عن تمكن لم يرقَ إليه أي كاتب معاصر. ويكمن سر قوته في جلَده، الذي لا حدّ له، وفي الاهتمام المضني الذي يبذله.


×ونأتي إلى آخر مسرحياته الواقعية في المرحلة الثالثة وهي (هيدا جابلر)، وقد كتبها بعد عام واحد من مسرحية (حورية البحر)، وهي تعالج شخصية «هيدا» المحبة لذاتها، والتي تسيطر عليها، رغم زواجها من «تسمان»، عاطفة جنونية نحو العبقري الشاب «إيلبرت لوفبورج». ولقد ترتب على هذا الطيش حماقات وضعتها تحت رحمة الساخر الشهواني القاضي «براك» الذي هوى على مقعده عندما سمع أنها أطلقت النار على نفسها، وصاح قائلاً: «رحماك ياربّ! إن الناس لا يفعلون مثل هذه الأشياء أبداً!».
المرحلة الرابعة الختامية: منذ أن عاد «إبسن» إلى وطنه بعد غيبة (25سنة)، بدأ يكتب مسرحيات تتسم بالرمزية العميقة، والنزعات الروحية. وبدأ يظهر تحول كبير، في هذه المرحلة، في طريقة كتابته للمسرحية، فالبطل في مسرحياته الأربع الأخيرة، لم يعد يصارع مشاكل اجتماعية، ويتصدى للرذائل الاجتماعية، من رياء، ونفاق، وانعدام ذمة، ويقف وحيداً بين المنافقين والفاسدين، بل بدأ البطل يصارع ذاته، ويكشف عن خوالج نفسه وضميره، وهو يغوص في ماضي حياته، وما ارتكب فيها من خطايا وذنوب، ويزيح النقاب عن الأزمات النفسية التي تعرض لها عبر الحياة، ويعبر عن حقوقه من القصاص. فالمسرحيات الختامية الأربع تعد رحلات في أغوار النفس، التي أثقلتها الذنوب، ومزقها الخوف من الجزاء. ويزيد من حدة هذا الصراع ما لدى البطل من ضمير سقيم لا يقوى على مواجهة الحقيقة. فالموضوع الرئيسي الذي يتجلى ويسيطر على المسرحيات الأخيرة هو الخطيئة والجزاء. صحيح أن القيم التي نادى بها «إبسن» في المرحلة الواقعية من المناداة بالصدق والحرية والشعور بالمسؤولية قولاً وفعلاً، والحب الصادق، والسعادة والبهجة، كلها موجودة في المسرحيات الأخيرة، لكن بؤرة الاهتمام تكمن في الصراع في ذات البطل، فهو يغوص في ثنايا ذاته وماضيه حتى يكتشف الحقيقة.
إن اختلاف الآراء حول تقييم هذه المسرحيات لدليل كبير على الأعماق التي وصلت إليها، فقضايا الحياة والفن، والصراع العارم بين الإنسان وضميره، وتصوير جوانب من رحلة «إبسن» عبر حياته الفنية والذاتية، تستولي على انتباه القارئ أو المشاهد. والحقيقة إن مسرحيات «إبسن» مثلها مثل مسرحيات «شكسبير»، تقدم مستويات عدة للقارئ أو المشاهد. فالقارئ العادي لا يرى إلا قصة تتسلسل أحداثها. والقارئ الأكثر ثقافة يرى فيها المغزى الأخلاقي، والقارئ المتبحر في العلوم والفنون يلمس فيها أبعاداً لا يتسنى لغيره متابعتها.
وقد كتب «إبسن» في المرحلة الختامية أربع مسرحيات هي على التوالي (البنّاء العظيم) (عام 1892)، و(أيولف الصغير) (عام 1894)، و(جون جبرييل بوركمان) (عام 1896)، و(عندما نبعث نحن الموتى) (عام 1899). وبعد هذا تدهورت صحته ومات عام (1906)، وفيما يلي موجز صغير لبعضها:
* تدور مسرحية (البنّاء العظيم) حول بنّاء عظيم يدعى «سولنيس» أصاب شهرة دون مؤهل أكاديمي، وقد تجاوز الخمسين من عمره، وهو يخاف من التفكير في أن الشباب سيأتون في يوم ليحلوا محله. ولطالما وقف في طريق «راجنار» فلم يمنحه فرصة لأن يستقل في عمله إلا تحت ضغط «هيلدا» التي تمثل الفتاة ذات الشخصية المستقلة، والجمال والعزم، وهي رمز للشباب الجديد أتى لينتقم لجيله من الجيل القديم. تغري الفتاة «سولنيس» بأن يصعد إلى قمة برج بيته الجديد، عندما ينتهي البناء، تماماً كما كان يفعل من سنين ماضية عندما كان شاباً، ويرضخ لها، رغم علمه بأنه لم يعد يحتمل الوقوف بثبات عند هذا العلو الشامخ، فيشعر بدوار ثم يهوي هشيماً إلى حتفه.
× أما (أيولف الصغير) فهي تتعرض أساساً لقصة «ألمرز» وزوجته «ريتا». ففي لحظة عاطفية نسيا ابنهما «أيولف» الذي سقط وأصيب إصابة جعلته كسيحاً. وألقى كل من الأب والأم اللوم على الآخر. ولم تمر إلا فترة وجيزة حتى أتت ساحرة الفئران، وجرى خلفها الأطفال ولكن «أيولف» سقط من على كرسيه النقّال في الماء وغرق. وزادت الهوة بين الزوجين لدرجة تُهدد بالانفصال التام، لولا أن وجدا أملاً جديداً في الحياة برعاية الأطفال اليتامى الفقراء، وبناء ملجأ ومدرسة لهم، وبهذا يخلِّدان ذكرى ابنهما الكسيح فكلنا إخوة في البشرية، وهكذا عن طريق التسامي بالعواطف الذاتية يجد الإنسان أملاً وسعادة.
أما مسرحية (عندما نبعث نحن الموتى)، وهي آخر أعمال «إبسن»، فهي تدور حول نحات يدعى «أرنولد روبيك»، وهو زوج فتاة تصغره سناً، وهي فتاة شهوانية، تحب اللهو والحفلات ولا تعي من أمور الدنيا شيئاً. لذلك لم يكن زواجهما موفقاً ومتكافئاً، ولم يشعر كلاهما بالسعادة مع الآخر. ويلتقي «أرنولد» بفتاة اسمها «إيرين» كانت قد عملت معه نموذجاً لأعظم تمثال له، والذي جلب له الشهرة والنجاح. ولم ينظر «أرنولد» آنذاك للفتاة إلا مجرد وسيلة لتحقيق غرضه الفني. وكانت الفتاة قد تركته عندما سمعته يفصح لها عن شكره على خدمتها التي لا تقدر، وهامت على وجهها كجثة حية، بعد أن قتلها ببرودة عواطفه نحوها. وعندما اعترفت له بهذا، عند لقائهما الأخير، وأنها كانت تحبه، نظر إليها في تأثر قائلاً: «إنني كنت «روزمر» و«ربيكا» في طريقهما إلى أعلى الجبل حيث الموت المحقق». فناناً يا «إيرين»!» فترد عليه بحزن: «هذه هي حقيقة المسألة، هذا هو السبب.. وإني بعد هذا أصبحت جسداً بلا روح. هذا هو سبب موتي يا «أرنولد»!». وفي النهاية تواجه الاثنان عاصفة بين الجبال، وبدلاً من طلب النجاة بنزول الجبل، سارا إلى الأمام،  مثلهما مثل
لقد اختلف النقاد في تقييم مسرحيات «إبسن» الأخيرة، فمنهم من رأى فيها عمقاً وروعة وتطوراً فنياً كبيراً، ومنهم من رأى فيها علامات اضمحلال لقوى الكاتب النرويجي العظيم، وفي الحقيقة إن كل أعمال «إبسن» كانت رائعة ومؤثرة، وقد فتحت طريقاً لمسرح واقعي حديث. فكان رائداً مسرحياً فذاً لا يضاهى، إلى درجة أن تلميذه «بيرنارد شو» وصل به الحماس إلى القول عند الحديث عن «إبسن» و«شكسبير»: «لقد وضع شكسبير أشخاصاً على المسرح، ولكن لم يضع ظروفنا. ولذا فمسرحيات «إبسن» أهم وأكثر من مسرحيات شكسبير، ولذلك فهي قادرة على إيلامنا بقسوة، وعلى أن تملأنا بالآمال في أن ننجو من استبداد المثل العليا، ونطمع في حياة أعمق وأجمل في المستقبل».
 




المصدر : الباحثون العدد 56 شباط 2012

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption