مسرحية "السقيفة"؛ ما هذا الجدل؟
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
حين عرضت للمرّة الأولى مسرحية "السقيفة"، تعالت أصوات بعض الأئمة مستنكرين تجسيد الصحابة على خشبة المسرح. فهاجموا القائمين على العمل مستندين في ذلك إلى عديد من الفتاوى الصادرة عن بعض العلماء. إذ إن المسرحية كما يظهر من اسمها، تستلهم ما جرى في حادثة السقيفة الشهيرة، وقد كتبها مسرحيًا بو كثير دومة وقام بإخراجها حافظ خليفة.
بيد أن متابعة مسار الجدل المتعرّج الذي أثارته المسرحية الذي ما زال مستمرّا، ينبئ عن "أمر ما"، ففي حين يميل المخرج خليفة إلى التركيز على المنع والانتقاد: "لقد ولّد هذا العمل صدمة مسرحية وإبداعية وحتّى سياسية، إذ إننا تعرضنا إلى الانتقادات حتّى قبل عرض العمل من قبل العديد من الأئمة في خطبهم بالجوامع، وحتى من خلال النخبة المسرحية، إذ حُرمنا من المشاركة بمهرجان المسرح العربي التابع للهيئة العربية للمسرح، كذلك تمّ رفض مشاركته بالمهرجان الدولي فجر للمسرح في طهران، لما فيه من تجسيد لشخصية علي كرّم الله وجهه، في حين أنهم (الإيرانيين) كانوا سبّاقين في تجسيد الأنبياء مثل مسلسل النبي يوسف والنبي إبراهيم وغيرهم"، فإن الواقع مختلف، خصوصًا وأنها كانت مسرحية الافتتاح في مهرجان المسرح المحترف بصفاقس الأسبوع الماضي، وستشارك أيضًا في مهرجانين اثنين؛ واحدٌ محلي، مهرجان المدينة، والآخر عربي، مهرجان القاهرة للمسرح العربي.
ليس هذا فحسب، بل إن المسرحية تلقّت الدعم من وزارة الثقافة وهو ما يصرّح به المخرج خليفة :"لم أجد آذانًا صاغية إلا في أوروبا، إثر اقتراحي لهذا العمل لمسرح روما في إيطاليا، حيث ينوي المسؤولون هناك برمجته للموسم القادم، وكذلك أمام الجمهور التونسي العريض الذي أعتز بالانتساب اليه، وقد شجعونا على ذلك وعلى مواصلة عرضه، كما لا أنسى توجيه الشكر إلى وزارة الثقافة التي دعمت هذا المشروع وآمنت به". ويبدو أن لظروف المخرج الشخصية أثرٌ كبيرٌ في اختياره للموضوع :"لعل عيشي بين ضفتي تونس وروما، يسمح لي بالتحليق إلى فضاءات أرحب وحمل أساليب جديدة".
أمّا معدّ العمل مسرحيًا، بو كثير دومة فيقول مدافعًا عن عمله: "علينا أن نقرأ تاريخنا بأنفسنا لئلا يفرضه علينا الآخرون. وأذكّر أن بعض الأئمة احتجّوا على تجسيد الصحابة على الخشبة، لكنني أذكّر أيضًا بأن أحد شيوخ جامعة الزيتونة حضر العرض المسرحي وأثنى عليه، ووجد أنه يخدم الدين الإسلامي".
لا توحي هذه الأجواء التي أثارتها المسرحية، بوجود كتلة صمّاء معارضة لها، ولعلّ هذا ما حدا بالكاتب دومة إلى التصريح برغبته في الاستمرار بتناول مواضيع مشابهة :"لقد كتبت عن النبيّ أيّوب مسرحية سيخرجها أنور الشعافي قريبًا في ولاية مدنين. الممثل الذي سيؤدّي دور النبي أيّوب قد يكون من كندا. ثمة فرق بين التاريخ والمسرح؛ فالأوّل يروي الأحداث التّي وقعت فعلًا، بينما يروي الثّاني التي يمكن أن تقع. ولذا، كما يقـول أرسطو كان الشعر أوفر حظًا من الفلسفة وأسمى مقامًا من التاريخ، لأنّ الشّـعر يروي الكلي بينما يروي التاريخ الجزئي. وممّا لا شكّ فيه أن علم التاريخ قد تطوّر وأصبح يتجاوز رواية الأحداث. لكن مع ذلك، يظلّ الفرق بين المسرح والتاريخ قائمًا. فكلّ كاتب يتخذ التاريخ مصدرًا للتأليف المسرحي، لا يقدّم عملًا يحقّق الماضي ويكشفه، بل يقدّم عملًا فنيًا يرتبط بالحاضر. وفي هذا السياق جاءت مسرحية "السقيفة"، ومن خلالها تمّ تجسيد الصحابة لأوّل مرة على الخشبة. لم تكن النية تسليط الضوء على ما جرى في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول الأكرم، إذ إن الحدث والشخصيّات، مجرد مسمار علّقنا عليه لوحة فنية استدعاها الحاضر. ولأن الجمهور يعلم مسبّقًا أن من يتحرّك أمامه على الخشبة هو ممثل، فلا خوف إذن أن يجسّد هذا الممثّل أيًّا كان من شخصيات التاريخ مهما كانت قدّسيته".
وكما هو معروف، فقد سبق للمخرج حافظ خليفة محاورة التراث من خلال الحلاج مثلًا وغيره من الشخصيات التاريخية والفكرية، وهو يضع عمله هذا في سياق مواصلة البحث ضمن "مشروع فنّي"، عن أهمّ المحطات المؤثّرة والفارقة في التاريخ العربي الإسلامي. خاصّة ما يتضمنه العمل من تشابه كبير بين ما يحصل الآن وما نعيشه من نتائج خطيرة من تفرقة وتمزّق للهوية العربية الإسلامية، وفقًا لظنّه، ويشرح المخرج خليفة وجهة نظره هذه قائلًا: "اجتماع السقيفة لحظة فارقة ظلّت من المسكوت عنه ومحلّ تأويلات دينية، وحتّى مفهوم الخلافة يندرج في هذا الإطار، إذ إن هذا اللفظ والمفهوم السياسي الذي أضحى حاضرًا وبشدّة بيننا الآن، هو غريب عنّا بسبب تطوّر التجربة السياسية لدينا بعد الاستعمار".
وقد سأل ملحق الثقافة، عن أجواء تحضير العمل مسرحيًا، فأجاب المخرج خليفة : "عند نبشنا لكلّ ملابسات هذه الحادثة وتأويلاتها، اكتشفنا أن علينا لزامًا التعامل من خلال الخشبة، مع رهان وتحدي آخرين، ومع باب ظلّ مغلقًا وممنوعًا لعهود عديدة، ألا وهو تجسيد الصحابة الأجلاء. وقد نظرنا إليه بعقلية المبدعين لا المتدينين. فهم بشر غير معصومين، وأظنّ أن المسرح التونسي قد وصل إلى درجة من الوعي، تجعله قادرًا على طرق هذه الأبواب وفتحها. لذا كان تعاملنا مبنيًا على فكرة أنهم رجال دولة من دون معرفة بمفهوم الدولة، ولا بجزئيات العمل السياسي. لقد ترك موت الرسول الأكرم فراغًا رهيبًا، خاصّة من خلال غيابه، وما يمثّله انقطاع الوحي من تيه. وبالتالي، جاء الميل إلى التمسّك بالوازع القبلي الذي شمل الصراع الذي قام بين المهاجرين والأنصار.
لقد تعاملنا بكل مسؤولية مع هذه الشخصيات الفارقة، من دون الوقوع في الجانب الديني، إذ كنت أؤكّد للممثلين، بوجوب التعامل مع هذه الشخصيات، كبشر عاديين من دون التقليل من رفعتها، وكذلك تميز كلّ شخصية عن أخرى في ردود الأفعال، ومدى تقمّص الشخصية بإقناع، وعدم الوقوع في الأداء التمثيلي الساذج وما فيه من تقليد، بل التركيز على سمات الشخصيات الدنيوية والبشرية المحضة، ولا على ما قاله عنها بعض المؤرّخين من ذوي المرجعية الدينية". وأضاف المخرج: "لم يكن "التأريخي" غاية هذا العمل غير المسبوق في تاريخ المسرحين العربي والعالمي، بل كانت الغاية هي المقاربة والإبداع أساسًا، عبر تعرية هذا التاريخ، من العديد من المغالطات والتزييف التاريخيين اللذين شاباه نتيجة أهداف دينية محضة. من هنا، كان هدفنا الرئيس التحدّث عن كيفية استغلال الفراغ الذي أحدثه موت النبي الأكرم، وحالة التصدّع والانشقاق التي تمّت إثر وفاته، ومدى استغلال رموز الدولة "العميقة" التي كانت حاكمة قبل مجيء الإسلام للعودة من جديد إلى السلطة، وذلك بسبب حنكتها ودهائها ومعرفتها بقواعد اللعبة السياسية". ليس هذا فحسب بل إن المخرج لا يجد حرجًا في إسقاط ذاك الماضي على الحاضر، مستفيدًا بذلك من قوّة بعض التعابير المتداولة في "الترويج" لعمله: "ما أشبه واقعنا اليوم بهذه الحادثة، وما أشبه تناهش الغنائم في أيامنا هذه، مستغلين حالة الفوضى والفراغ إثر ما يسمّى بالربيع العربي في كامل أرجاء الوطن العربي".
وفي حال انتقلنا إلى صفّ "المتهمين" بمعاداة العمل المسرحي، أي علماء الدين، لوجدنا فتاوى كثيرة تحثّ على عدم تجسيد كبار الصحابة، كالخلفاء الراشدين، وأمّهات المؤمنين. وقد احتجّ الذين أفتوا بالمنع بالأدلة الموجبة لتعظيمهم، ومن تعظيمهم إلى تنزيههم عن أن يقوم بمحاكاة أفعالهم ومواقفهم، منْ هو معروف بالفسق والفجور، فيسيء إليهم، ويغض من أقدارهم. وقد كان للشيخ فريد الباجي رأيٌ قريبٌ من رأي علماء الأزهر: "أجاز بعض العلماء تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، شرط أن تكون الرواية عنهم صحيحة، وبطريقة صحيحة تليق بهم. وذهب بعضهم إلى استثناء الخلفاء الراشدين. المخرج الحكيم هو من يأتي بممثلين لا يدفعون المتفرجين وجمهوره المسلم لأن يتقزّز من مسرحيته أو شريطه، وفي سقيفة بني ساعدة روايات شاذة ومكذوبة".
أمّا الباحث والمفكر الإسلامي محمّد علي كيوة، الكاتب العام للاتحاد المغاربي للصوفية، وعضو مجمع علماء تونس فقد كان رأيه مغايرًا:"لم يرد نصّ بخصوص تحريم أو إجازة تجسيد الصحابة والرسل. لا مانع في تقمّص أدوار الصحابة والأنبياء على خشبة المسرح أو على الشاشة، وكلّ من يخضع لصفة الإنسانية."
شكري بصومي - العربي الجديد
0 التعليقات:
إرسال تعليق