هل مسرح الـ "وان مان شو" التونسي موضة تزول بزوال الحاجة إليها؟
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
مسرحيات الـ "وان مان شو" التونسية يمتزج فيها الهمّ السياسي بالهمّ الاجتماعي بالمشاغل الثقافية، والمشتغلون في هذا الفن وجدوا فيه فضاءً يبيح لهم حرية القول دونما ارتهان منهم لأقانيم المسرح التقليدي.
عاشت تونس خلال فترة ما قبل 14 يناير/ كانون الثاني 2011 أحوالاً ثقافية قلقة سادت فيها صناعةُ الرَّمز، وتنامي سُلطتِه في المشهد الإبداعي، حتى بات تخفّي المثقّف وراء الاستعارات والكنايات، وتهويمُه في المطلق والخيالي، ونزوعُه إلى تأصيل ثقافة مديح السياسيّ، وتقديس المألوف والرسميّ والمُكرَّس، سبيلاً من سبل ترويج منجَزه الفكريّ، وباباً يدلف منه إلى الجاه، والشهرة، ونيل الرضاء العامّ.
فشاعت بذلك أنماط إبداعية تحتفي بأشكالها، وزيف رمزياتها على حساب مضامينها على غرار النظم الشعريّ، والكليبات الغنائية، والمسرحيات التقليدية المليئة بالتهريج.
غير أن هذه الأحوال الثقافية بدأت تفقد حضورها في المشهد الإبداعي التونسي، وانهارت عروشُها بعد ثورة الياسمين، إذْ انفتحت شهيّةُ المُهمَّشين والمنبوذين من الشعراء، والكتّاب، والمسرحيّن، والتشكيليين، والمطربين على انتهاك سلطة الرموز، والتفرّغ إلى نقد تفاصيل المعيش بجرأة ووعيٍ كبيريْن.
وقد ساهم هذا التحوّل الثقافي في توهّج الكتابة الروائية وأغنية "الراب" ومسرح الـ "وان مان شو" باعتبارها أجناساً، تؤسّس لجماليات جديدة، يكون وَكْدُها جعلَ الذات تتنبّه إلى حقيقتها بكلّ ما فيها من وَهَنٍ وفوضى بعيداً عن التمجيد الزائف. وهو ما نُلفي له صورة جليّة في مسرحيات الـ "وان مان شو" التي صارت موضة المسرح التونسي الراهن، رغم معارضة الكثير من الناس لها.
السخرية السوداء
الـ "وان مان شو" مونولوج مسرحي عرفته الثقافات البشرية القديمة، ويؤدّيه على الركح ممثِّل واحد. وقد شهد هذا النوع المسرحي تطوّرات عديدة حتى أضحى أداؤُه ينهض على دعامة المزج بين فنون جسدية متنوّعة مثل الرقص، والغناء، وتقليد الشخصيات، لا بل وصار فعلاً فنياً لا يُجيده إلا المتمرِّسون بعادات الركح.
ويبدو أن المسرحيّين التونسيّين الجدد قد وجدوا في هذا الفنّ فضاءً يبيح لهم حرية القول دونما ارتهانٌ منهم لأقانيم المسرح التقليدي الذي تمثّله الأعمال التي يُنجزها المسرح الوطني بدعم من وزارة الثقافة. حيث هبّوا إلى شوارع الواقع يَمْتَحون منها لغتَها ونُكتَتَها، ويؤثّثون من حيرة الناس فيها، وانكساراتهم اليومية مشاهدَ عُروضهم الفنية، يفعلون ذلك بأسلوب هزليّ وساخر، لا يحفل بقداسة الأسماء والرموز احتفالَه بكشفِ الزيف الذي يُدثِّرُ الخطابات الرسمية والحزبيّة ويحمي سلطانَها. ولعلّ هذا ما جعل عمومَ الناس يُقبلون على أعمالهم المسرحية ويتفاعلون معها.
وقد توسّل هؤلاء الفنانون - أمثال الأمين النهدي، وكمال التواتي، ولطفي العبدلّي وجعفر القاسمي، وتوفيق العايب، وغازي الزغباني، وغيرهم- بالسخرية السوداء سبيلاً إلى تثوير الواقع، ونقد مفردات معيش الناس، وخالفوا مألوف المسرحيات التقليدية التي كانت تتعمّد الضحك على ذقون البسطاء لتنال إعجابَ جمهورِها النخبويّ، وجعلوا أعمالَهم المسرحية تلبّي أفق انتظار الناس، فانصبّوا بها على نقد قادة الأحزاب، وأهل السلطة، ورجال الإعلام، حيث تحضر في هذه المسرحيات أسماء الرئيس الباجي قائد السبسي، وزعيم تنظيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، والدكتور المنصف المرزوقي، وغيرهم من الفاعلين السياسيّين، وذلك عبر البحث في هناتِ خطاباتهم وتفكيك دَلالاتها تفكيكاً محمولاً في سخرية سوداء لاذعة تقوم على تقنية المبالغة التي تروم إحداث وضع ساخر من كل ما يتّصل بهؤلاء من أحوال وأفعال وأقوال، مع نزوع جليّ إلى تحقير أهمّ دعائم شخصياتهم الاجتماعية المكرَّسة.
وهو ما جعل المزاح والسخرية والنكتة تتحوّل إلى وسائل سياسية، لأنها متى حضرت في القول أحضرت معها السياسة، وهي على حد قول بول فاليري: "وسائل تدمّر ما تخوض فيه بشكل شامل، وتعتمد في ذلك مجموعة من الذرائع دون النظر إلى صدقيتها. وهي بالأساس ليست معارَضة فكر لفكر، وإنما هي عبارة عن ضربة قوية توجّه إلى فكر مّا".
مسرحةُ العاديّ
إن حضورَ مسرحيات الـ "وان مان شو" التونسية الجديدة يُوقفنا على حقيقة كونها مسرحيات تتكوّن من مشاهد تبدو في ظاهرها منفصلة عن بعضها بعضاً، ولا رابط ثيميّاً لها، إذْ يمتزج فيها الهمّ السياسي بالهمّ الاجتماعي بالمشاغل الثقافية، غير أن ما يضمن لهذه الأعمال وحدتَها المعنويّةَ هو حضور المواطن التونسيّ فيها، وهو ينوء بثقلِ إكراهات واقعه المادية والمعنوية.
ذلك أن مسرحيات مثل "ليلة على دليلة" للأمين النهدي، و"إنْ…عاش" لكمال التواتي و"الخَمسة اللي لحقوا بالجُرّة" للهادي ولد باب الله و"العفشة مون آمور" لوجيهة الجندوبي و"صنع في تونس" للطفي العبدلي، و"تونسي بوان فوت" لجعفر القاسمي، و"إيجا وحدك" لإكرام عزوز، و"مستر ميم" لتوفيق العايب، و"وزن الريشة" لغازي الزغباني، و"مونولوغ السبسي" لفؤاد ليتيم، لا تتقصَّد التعالي على العاديّ في موضوعاتها، وإنّما هي تحفر عميقاً في الواقع التونسيّ، وتُناقش ما يشغل المواطنَ فيه من قضايا يومية كالخيانة والجنس، والحجاب، والإسلام السياسي، والتحزّب، والقلق النفسي، وحرية المرأة، وتردّي أوضاع التربية، وغلاء الأسعار، وشراء أصوات الناخبين، والكذب السياسي. وهي موضوعات لم نألفْ وجودَها في المسرح التونسي "الرسميّ"، فإن حضرت فيه حضرت من باب الإيحاءات، والإيماءات الغامضة.
ولئن استطاع الـ "وان مان شو" أن يصير موضة المسرح التونسيّ، وصار له جمهوره الغفير خلال السنوات الأربع الماضية، فإنه، ككلّ ممارسة فنية جديدة، لم يسلم من النقد، حيث وُصفت أغلب المسرحيات بكونها أعمالاً تجاريّة جوفاء، وخالية من الوعي الفني وتفتقد إلى مشروع فكري، بل هي مسرحيات يتمّ فيها استثمار سذاجة الجمهور لشحنه بمغالطات سياسية، واجتماعية، وثقافية عديدة، لا بل هي لا تزيد عن كونها موضةً فنية ستزول بزوال الحاجة إليها.
الشارقة 24 – تونس: د.عبد الدائم السلامي








0 التعليقات:
إرسال تعليق