مسرحية "طنجيتانوس" مزيج الأسطورة والواقع التراجيديين: سقوط البطل لا يزرع فينا الخوف وإنما الارتفاع الذي يسقط منه
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
تبدأ المسرحية بمقدمة استهلالية، لظل واحد من آباء المسرح الاغريقي، ثيسبيس، الممثل الجوال، الذي استحضره المؤلف الزبير بن بوشتى، ليحكي به ومن خلاله حكايته وينقذه من ورطته مع هرقل، وأنطونيوس، وديجانير، وطنجيس وهيرالدا، ومع احفاد انطيوس. تبدأ عملية توزيع الادوار والمواقع، ونرى الكاتب المسرحي مزدوجا، مرة يكون الزبير بن بوشتى، وثانية ثيسبيس، الذي استدعاه المؤلف ليزج بنا مباشرة في عالم المسرح الخيالي، والعالم الواقعي الذي يتجسد في اعضاء الفرقة المسرحية الذين بمجرد اقتحامهم الخشبة يجدون ثيسبس في استقبالهم.
يمتزح الواقعي بالخيالي وبالعكس، ويتعزز في الحوار التشكيلي الذي خلقه المخرج عبد المجيد الهواس، بين الديكور والإضاءة التي اعطت صدى لأصوات الممثلين واجسادهم، فبدأوا يرتدون ملابسهم ويتزينون بالإكسسوارات فرحين بشخصياتهم الجديدة، وسط اعمدة عمودية عالية منحت الشخصيات احجامها الطبيعية. وقد وضعت هنا وهناك بطريقة سينوغرافية انيقة وجميلة قسمت المسرح قسمين، مغارة هرقل وحديقة الهسبريديين، من دون ان تفصلهما كليا، وقد عمقت ذلك الإنارة بتأثيثها الزمكان المسرحي، واحالتنا بمساقطها وظلال حزمها الضوئية، على مناخات تاريخية وأسطورية.
تتحدث مسرحية "طنجيتانوس" عن مدينة طنجة الجميلة ليل نهار، المغرم بها وبتاريخها الزبير بن بشتى مؤلف النص؛ طنجة مدينة من المدن التي تتغنى بها وعنها الأساطير من خلال قصص ابطالها، الذين يكافحون جميعهم، كل على طريقته من اجل البقاء واقفة كالشجر امد السنين. فالركض وراء الانتصارات يجعل بطلها المقدام هرقل يبحث بعماء عن السعادة في الموت، وانطيوس غريمه يبحث عن الانتقام في الاختراع والتحدي الدونكيشوتي، وطنجيس تبحث عن الحب في استسلامها لمشيئة القدر، وديجانير عن الحب في الغضب الذي يفقدها الصواب فتتسبب في تسميم زوجها.
تتعرض جميع شخصيات النص تقريبا للصدمة، والإخفاق والخيانة، مثلما يحدث في العديد من التراجيديات الاغريقية وحياتنا اليومية. هناك من نجده مصدوما ومسلوبا مسبقا، مثل طنجيس وانطيوس، الحبيبين اللذان احتل مملكتهما هرقل وفرّق بينهما. وهناك من يتعرض للصدمة شيئا فشيئا مثل ديجانير، زوجة هرقل التي تكتشف خيانة زوجها مع خادمتها المفضلة طنجيس التي سينجب منها طفلا. هرقل نفسه في نهاية المسرحية، عندما يكتشف ان زوجته ديجانير قد استمعت الى حيلة انطيوس وخضبت "لبدة الأسد النيمي"، التي ارتداها ليلة زفافه على طنجيس، بدم غريمه المراق، فتحول الى سم حارق يؤدي الى قتله بمجرد ما يمس جسده، وهذا ما يجعلها تنتحر من بعده. لم يبق في النهاية، إلا طنجيس التي تتحول الى تمثال لا يتحرك، تظل وحيدة على المسرح بين الأعمدة تحمل في بطنها جنين هرقل وفي قلبها حبا وفيا لانطيوس زوجها.
اننا امام عمل ارتبط منذ البداية بالأساطير وتراجيدياتها التي لا احد يستطيع ان يفلت من مصيرها المحتوم. الابطال يشبهون إلى حد كبير الحيوانات البرية التي تجد نفسها في مكان من طريق المصادفة، فتظل تدور حول نفسها فيه، حتى تضطر في النهاية إلى التهام بعضها البعض. فالحب يوقع محاوريه في الخطأ، وعلى الرغم من قوة إبطاله، يرفضون ان يختاروا بين العقل والعاطفة، فتقودهم نزواتهم وطموحاتهم نحو الموت. وهذا ما يجعلهم ينتمون إلى التراجيديات الكبرى. الشخصية التي تتقدم، وتجهل الحدث الذي يقودها إلى الموت ليست بشخصية تراجيدية. أمام شكل الموت، يقبل البطل التراجيدي بمصيبته، ويعترف بخطئه. ويجب ان نضيف إلى هذا، أن سقوط البطل لا يزرع فينا الخوف، وإنما الارتفاع الذي يسقط منه.
يتأرجح نص "طنجيتانيوس" بين الشعر والنثر، ويغلب عليه الشعر الروحي الوجداني الداخلي، الذي يتسرب الى القارئ او المشاهد عبر حالات مسرحية مكتظة بالصراخ الموسيقي المخنوق، وحوارات غنائية تجعلنا نفهم ما معنى التدفق، وعبر الكلمات التي تعتبر سلاح شخصياتها الوحيد في التعبير عما يختلج في صدورهم من وجدان. "طنجيتانوس مأساة، يختلط فيها الحب بالكراهية والولادة بالموت. انها لوحة من تاريخ الامس واليوم تكشف عن الجوانب الابدية للضمير الإنساني؛ فسيفساء من المشاعر لم تتأثر على الرغم من مرور الزمن. الضحايا فيها مذنبون لأنهم ضحايا. في هذه المسرحية عالمان يتصارعان: الأول يدعي العظمة بجنون، والثاني يتمسك بماضيه بيأس مميت. يكمن الخيط الرئيسي في التعارض الشديد بين هرقل المتجبر وانطيوس الذي لا يفكر إلا في الثأر، فيلجأ الى المغامرة بقرار شخصي. فكرة تأليف هذه المأساة، بقلم كاتب معاصر، تجعلنا نطرح الكثير من الأسئلة حول السياقات الجيوسياسية للتاريخ، وأيضا حول عالمنا وأدواته الاتصالية. فنحن في القرن الحادي والعشرين، الذي دمرته الحرب على الشرق. ما هي أسباب هذا الصراع؟ كل ما يهم القوى التي تحكم عالمنا ودولنا الحديثة: الربح، والقضايا الجيوستراتيجية، وإمكان توسيع النفوذ الغربي على العالم الشرقي. هذا ما فعلته اليونان سابقا، وما تفعله اليوم الدول الحديثة، تاركة خلفها الدمار على نطاق واسع وثقافات قتيلة. أليس هذا ما كانت تهتم به "طنجيتانوس" من خلال فتوحات هرقل؟
وضع المخرج عبد المجيد الهواس النص في فضاء تشكيلي بصري مليء بالإيقاعات اللونية المختلفة، ودمج صمته الموسيقي بصمتنا، من دون أن يُفقد الصورَ واقعيتها الأسطورية. جعل المعنى دليلا لنا، من اجل الاستماع دائما إلى شيء آخر، متناقض، ومنفصل، وإلى حقيقة أخرى. عمل على ايجاد مشاركة موسيقية مع النص ومواقفه، بتشكيل نوع من الهارمونيا بين لغة النص الشعرية، ومحاكاة فضاء الخشبة لونيا. فعندما تقتحم الكلمات خشبة المسرح، تتبعها العاطفة ولا تكون سوى صدى لها. فالكلمات حقيقة، في هذا العمل، منها تولد الشخصيات، ولا وجود لهذه الأخيرة إلا من خلالها. وهنا تكمن الدهشة. أما الموسيقى فايقاع داخلي، وليست تلويناً للنص. لذا حافظ الهواس عليها، واستقبلها واستوعب دهشتها ومفاجآتها، وجعل ممثليه يبتعدون قدر ما يستطيعون عن اللعب الكلاسيكي، وإزالة كل قناع مأسوي، والسماح بعنف الصور، من خلال اداء هادئ يغلي من الداخل.
محمد سيف - النهار
0 التعليقات:
إرسال تعليق