تجربة مختبر مسرح لاليش في النمسا
مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني
كان بين موجات المهاجرين واللاجئين العراقيين إلى قارات العالم المأهولة بالسكان، خلال العقود الثلاثة المنصرمة، عدد غير قليل من المسرحيين (ممثلين ومخرجين وكتّاب ونقاد)، خرجوا من شمال بلدهم ووسطه وجنوبه، وفي قلوبهم غصة لاضطرارهم إلى ترك “جنة عدن” بسبب الظروف السياسية الصعبة. وحاول بعض هؤلاء المسرحيين مواصلة إبداعهم المسرحي من خلال تأسيس الفرق والتجمعات المسرحية، أو الكتابة، أو المشاركة في نتاجات فرق تلك البلدان بعد تعلم لغات أهلها. ومن بين هؤلاء المسرحيين المخرج والممثل الكردي شامال عمر وزوجته الممثلة والمخرجة نيكار حسيب قره داغي، اللذين انتهى بهما المطاف لاجئين إلى النمسا في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
بدأ الهاجس التجريبي لدى هذين الفنانين المسرحيين منذ أيام الدراسة الجامعية، وقد شاهدت لهما في منتصف الثمانينيات تجربةً مثيرةً مع نص بيكيت “في انتظار غودو” استبدل فيها شامال عمر، مخرجاً، شخصيتي “فلادمير” و”استراجون” الرجاليتين بشخصيتين نسائيتين، مثلتهما نيكار حسيب وفرميسك مصطفى. وكتبت في حينها مقالاً نقدياً عن التجربة أشرت فيه إلى أن رؤية المخرج توحي إلى أن الكائن الإنساني عامةً، وليس الرجل فقط كما في نص بيكيت، يعاني من عبث الحروب، ويشعر باللاجدوى. ويبدو لي الآن أن تلك التجربة لو قُرأت من منظور النقد النسوي لتوصلت القراءة إلى استنتاجات ودلالات مهمة. ثم شاهدت تجربةً أخرى عام 1987 في السليمانية أخرجتها ومثلتها نيكار حسيب وميديا رؤوف هي “في انتظار سيامند” في غرفة صغيرة يتكون فضاء العرض في وسطها من مرتفع خشبي مستطيل له ذراعان كالصليب، مغطى بشاشة من قماش شفاف تتحول تارةً إلى كفن، وأخرى إلى غطاء، وثالثة إلى شراع لسفينة تائهة، وإلى غير ذلك من المدلولات الحسية التي تستحضر الممثلتان من خلالها الرمز الغائب: سيامند الرجل، الحبيب، الأمل، المنقذ، الحلم، الوطن… إلخ، بأداء جسدي شفاف، وشاعري. وكانت تلك التجربة واحدةً من التجارب العديدة التي شهدها المسرح العراقي في الثمانينيات في سياق رمزي يقارب موضوعة الانتظار الموجع، والآمال الخائبة، والبحث عن المنقذ والمخلّص، منها: “ترنيمة الكرسي الهزاز”، و”تساؤلات مسرحية”، لعوني كرومي، و”مرحباً أيتها الطمأنينة” لعزيز خيون.
في فينّا أسس شامال ونيكار عام 1998 مختبر مسرح “لاليش”، بوصفه مركزأً للبحث المسرحي، ولثقافة الكفاءة المسرحية. ويعني اسم “لاليش” الحياة المنوّرة، وهو مأخوذ عن اسم كردي قديم يشير إلى معبد للديانة اليزيدية. وجاء هذا المختبر، الذي يُعدّ من أهم التجمعات المسرحية العراقية في أوروبا، في أعقاب فرقة المسرح التجريبي الكردي التي شارك شامال ونيكار في تأسيسها عام 1992، وقدّما من خلالها عروضاً عديدة في المدن النمساوية، وفي ألمانيا وهولندا والدنمارك وسويسرا وبريطانيا. وتولدت فكرة تأسيس مختبر مسرح “لاليش” بعد أن اكتسب مؤسساه خبرةً من تجاربهما المسرحية، واحتكاكهما بالتجارب المسرحية الأوروبية. ويعمل في هذا المختبر فنانون ينتمون إلى ثقافات ومجتمعات متعددة كالكرد والعرب والألمان والنمساويين والفرنسيين وغيرهم، وعرض تجاربه المسرحية في عدد من مسارح العالم، مثل مسرح “دوم بيير” الفرنسي، و”غوت هارد” السويسري، وبرلين الألماني، و”إكوهاما” الياباني. أما في النمسا فإن أكثر نشاطات المختبر يتركز في مجال تفاعل الحضارات (التواصل الثقافي)، إذ قدم “ملحمة كلكامش” برؤية جديدة ومغايرة للمسرح التقليدي، وتجربة مسرحية أخرى تنتمي إلى المسرح “الأدائي” الصامت، الذي تتخلله عبارات من لغات مختلفة وأشعار صوفيه، إضافةً إلى تجارب مسرحية مشتركة مع مؤسسات نمساوية وأوروبية، لها وزنها وأهميتها، مثل: جامعة فينّا، وجامعة كريمس، ومركز الدراسات العلمية، ومعهد علم المسرح والأفلام والإعلام، ومختبر باراته، وغيرها من المؤسسات. كما أسس شامال ونيكار مختبراً مسرحياً لتأهيل المشاركين في المختبر وطلبة المسرح من خلال تمرينات تشمل الصوت والإلقاء وحركات الجسد. وهما يفضلان مفهوم “الكفاءة المسرحية” على مفهوم “العرض المسرحي” على أساس أن المسرح عملية خلق وتواصل مع البشر، ولهذا التواصل صيغ واتجاهات مختلفة، ومن هنا فهما لا يسعيان إلى تمثيل الآخر، أو الشخصيات المكتوبة مسبقأ بقدر ما يحاولان تحقيق الذات والذاكرة الفردية والجمعية، ويستعملان صيغة “المحتفل” بدلاً من “الممثل”. وبذلك يلتقيان مع الصيغة التي يعمل بها المسرح الاحتفالي في المغرب، سواء أقصدا ذلك أم لم يقصدا، لكنهما يختلفان عن تلك الصيغة في توكيدهما على قيمة الصوت وأهميته، بوصفه منبعاً ومحركاً ودافعاً للجسد “الصوت ليس للسمع فقط بل للرؤية أيضاً”، وكذلك على الغناء، بوصفه حدثاً درامياً، يضفيان عليه تقنيات وأساليب تشغيل عديدة، “صحيح أن الحدث الفيزيقي يخلق الإيقاع والحدث، لكن الغناء هنا ليس مجرد غناء، بل تعبيراً مرئياً، وليس مفسراً للحدث، بل هو الحدث نفسه، وهو لا يخلق الأجواء، إنما هو الأجواء ذاتها”، ولذا فإنه محاولة اخرى للبحث الجسدي، لكن عبر الصوت. وفي هذا الصدد يقول شامال ونيكار “إننا عبر هذه الطريقة نحاول الوصول الى أسرار تلك الأفعال الملتوية، شبه النائمة في أعماقنا، أي في أعماق جسدنا، فحين تتحرك نتحرك نحن أيضاً، وحين تتنفس نتنفس نحن أيضاً. إنها بمثابة صورة حية لقوة الحياة”. وتصف نيكار هذه العملية قائلةً إن “الأصوات والأغاني هي التي تخلق حركاتنا، من دون أن يعني ذلك أن حركاتنا تفسر أغانينا؛ لذلك فكل أغنية وكل حدث صوتي تحمل في داخلها إشارةً دقيقةً إلى نقطة متحركة في الجسد، أي أن الجسد يتعامل مباشرة ًمع حياة الأصوات، ويصبح عملها عضوياً بدلاً من أن يكون تكنيكاً بحتاً”.
وهكذا، فإن “الحدث الصوتي” في هذه العملية، حسب نيكار وشامال، لا يعني أن يصبح الجسد جزءاً من الصوت، أو يصبح الصوت جزءاً من الجسد! بل يشكلان وحدةً واحدةً! لأن الوحدة هي المصدر الأصلي للتعبير، ومنبعاً للإنسان المحتفل، وعليه فهما لا يمثلان، بل يحتفلان.
ويبدو من خلال توكيد شمال ونيكار على قيمة الصوت أنهما قد ابتعدا عن مؤثرات مسرح الصورة، الذي كان له حضور طاغ عليهما في ثمانينيات القرن الماضي بفعل عملهما مع استاذهما المخرج صلاح القصب في كلية الفنون الجميلة ببغداد.
إن المسرح، في مفهوم مختبر لاليش، هو فضاء للتحول، بمعنى أنه ممارسة فنية ديناميكية تجري على مستويات مختلفة، لكن التنظير لهذه المستويات يشوبه القصور، فهو يقول إن المستوى الأول يحدث “من خلال عملية التمثيل، حيث يقوم الممثل بتمثيل كائنات وأشياء أخرى؛ لهذا اتجه المختبر إلى التفكيك وعملية التحول هذه”. ما هي الميزة في هذا التمثيل؟ ألا يقوم الممثل في كل مدارس التمثيل بتمثيل كائنات وأشياء أخرى؟ ثم أين التفكيك هنا؟ هل المقصود عملية هدم وبناء؟ ثمة اتجاهات كثيرة تبنت هذه العملية. المستوى الثاني يتمثل في “افتراض دلالات فنية أخرى خارجة عن الفعل الجسدي؛ بمعنى أن الكائن الفاعل يصبح جزءاً من العملية الإبداعية مثل ما حدث ويحدث الآن”. وهو افتراض تعميمي يدفعنا الى التساؤل عن طبيعة الدلالات الفنية الخارجة عن الفعل الجسدي، وبماذا تختلف عن غيرها من الدلالات؟ ثم أليست الدعوة إلى أن يصبح الفاعل، أي الممثل، جزءاً من العملية الإبداعية أمراً بديهياً؟ أخيراً المستوى الثالث، وهو “التحول الذي يمارسه الكائن الحي الفاعل في الفضاءات كفعل إرادي؛ من أجل إيجاد أقصى مستوى للطاقة والوصول من “الكيفية” إلى “النوعية”؛ بمعنى أن يتحول الكائن الحي إلى ذات كاملة.. ومن هنا ينهض ذلك الكائن الفاعل كنقيض وبديل كامل لفعل الممثل لأنه لا يمثل أي كائن، ولا يعرض أي شئ خارج عن ذاته؛ أي أنه يحقق فعله الإنساني كإنسان حاضر في الزمكان. ومن هنا تنتفي عملية “النصية” وعملية “التمثيلية”. نفهم من ذلك أن الممثل لا يتماهى مع الدور، بل يعرض شخصيته ويقدم ذاته، وهو منهج يناقض منهج التقمص الذي دعت إليه اتجاهات مسرحية عديدة، منها المسرح الاحتفالي، لكن ما يثير اللبس والاستغراب هنا تعبير “الوصول من “الكيفية” إلى “النوعية”، أليست “الكيفية” هي “النوعية” من الناحية الاصطلاحية؟
في عام 2004 نقل شامال عمر ونيكار حسيب أول تجربة مسرحية لهما، وهي “أرض الرماد والأغاني”، إلى العالم العربي، من خلال مشاركتهما في الدورة السادسة عشرة لمهرجان القاهرة التجريبي، وكانت التجربة تطبيقاً للمنهج الذي تبنياه، واتسمت بكونها تجربةً مختبريةً (أدتها ممثلتان، احداهما نمساوية والأخرى سنغافورية من أصل صيني) تقوم على بنية صوتية مطلقة، تشكلت أنساقها من نغمات مختلفة تحكمها مرجعيات اجتماعية واثنولوجية (الأثنولوجيا علم تاريخ الحضارات والعلاقات الحضارية بين الشعوب) متعددة، من دون أن تربطها “نصية” مسبقة وواضحة، بحيث اختلط فيها الارتجال آنياً مع الإرسالية المقصودة لتتابع الغناء حيناً وللنغمات ومساراتها اللحنية حيناً آخر.
وفي الدورة التالية للمهرجان (عام 2005) شاركا أيضاً بتجربة ثانية عنوانها “بدایة الحدیث”، من أدائهما إلى جانب ممثلة نمساویة، كان فیها، حسب تعبير الدكتور عقيل مهدي يوسف، من الحساسیة الجمالیة، وروح الشعر، والغنائیة العالیة ما یجعلها تحظی بتلقٍ رصین، فهي تجربة تذکّر ببساط بیتر بروك، وخشبة دانتشنکو، حیث تجري الواقعة الفنیة بحضور طرف یشاهد الفعل الفني، قطعة قماش بیضاء ناصعة وبضع أدوات تستدرج من الروح هذا النثیث السمعي الذی ینبث فی أقاصي الذاکرة الصوتیة لجماعة بشریة انطفأ کونها منذ أمد بعید، لکن ومیض جرسها بقي عنیداً علی الفناء لیعید إنتاج کینونته مع کل دورة حضاریة، منذ بدء الخلیقة حتی اشتعال الظلم الطبقي والقهر الاجتماعی، لیبقی الأصل متموضعاً فی حنجرة لآحاد من “مونادات” قبیلة مندثرة طوتها الأیام الغابرة، لتنخرها ودیان الجبال، و الفیافي، وتکتمها عن أعین الطغاة وعسس الجریمة، فتطلقها حین یجیء أوانها.
عن هذه التجربة أيضاً كتب المسرحي المصري د. إبراهیم الفو قائلاً: “الجسد هنا یفرز أنواعاً خاصة من الضوء تراه بدواخلك. أحیانا ینعطف نحو البني الساحق، ومرةً نحو الأرجواني المفرح، وأخری نحو الأخضر المعتم، الجسد یتوالد فی کل شهیق وزفیر سواء وهو ساکن أو فی حرکاته الافعوانیة. لقد رأیت جسداً ینمو ویتطاول، وآخر ینفجر ویتشظی محولاً مساحات القاعة الصماء إلی أضواء تتکسر وتندمج فتسیطر على فؤادك کلیةً”.
وكانت آخر تجربة لشامال عمر ونيكار حسيب في هذا المهرجان (الدورة العشرين عام 2008) هي مسرحية “بلا ظل”، التي قدماها أيضاً في عدة جامعات في العالم، وفي ١٣ مهرجاناً دولياً للمسرح في النمسا، اليابان، أوکرانيا، کوسوفو، اليونان، بلغاريا، البوسنة، بولندا، … إلخ. وقد أتيحت لي فرصة مشاهدتها على مسرح “مركز الفنون الأدائية” في عمّان ضمن عروض مهرجان المسرح الأردني السابع عشر عام 2010.
تقوم هذه التجربة علی بنية صوتية مطلقة تتشكل من لغة مبتكرة تقع خارج نسق العلامات اللسانية المألوفة، التي تشير إلى مدلولات ثقافية محددة، وقد جاءت التجربة نتيجة بحوث عملية مختبرية معقدة بهدف الوصول إلی ينابيع إنسانية شتى, واستثمار وحدات وإيقاعات صوتية نادرة، بل معرضة للانقراض من مختلف الثقافات البشرية، وصهرها في صيغة جديدة عبر أنساق صوتية قابلة لتأويلات عديدة، أنساق تحاول، على حد قول الناقد والشاعر بول شاؤول، “إيجاد لغة صوتية كأنها التقاط الصوت في لحظاته المولية. إنه الصوت االينبوع، المجبول بالطقوسية، كمساحات فيزيائية، وفضاءات من الرموز والأحاجي، الصوت الإنساني الباحث عن حقائقه المقلقة”.
هذه هي تجربة المسرحيين الطليعيين الكرديين نيكار حسيب وشامال عمر في عالم والاغتراب، فهل الاغتراب مَنْ نسج خيوطها أم أنها من نتاج الخزين الروحي والجمالي والمعرفي الذي حملاه من كردستان إلى النمسا؟ من معرفتي الوثيقة بنيكار وشامال أقول إن تجربتهما وليدة ذلك الخزين، لكن عالم الاغتراب احتضنها وصقلها مثلما احتضن وصقل تجارب خلاّقة أخرى قادمة من الشرق.
عواد علي - شانوكار
0 التعليقات:
إرسال تعليق